على مدى قرن كان هناك «عراقان» بلغة المفكّر والسياسي العراقي المعروف حسن العلوي صاحب كتاب «الشيعة والدولة القومية». وبين هذين «العراقين» فجوة وإن كانت طويلة زمنياً لكنها لا تحمل سمات أي منهما. «العراقان» المشار إليهما هما: العراق البريطاني (1921 ـ 1958)... وهو العراق الملكي. والعراق الأميركي (2003 ـ...) هو المستمر حتى اليوم، وبينهما كان العهد الجمهوري من (1958ـ 2003).
بدأ العهد الجمهوري بالخروج من العباءة البريطانية و«حلف بغداد» بعد ثورة 14 يوليو (تموز) بزعامة (عبد الكريم قاسم 1958 ـ 1963). وجاء من بعده العهد الجمهوري الثاني («العارفان» الشقيقان عبد السلام وعبد الرحمن 1963ـ 1968). ومن ثم، العهد الجمهوري الثالث بنسختيه (أحمد حسن البكر 1968 ـ 1979 وصدام حسين 1979ـ 2003) الذي رفع شعار محاربة الإمبريالية الأميركية ـ البريطانية ومعها شعار تحرير فلسطين وهو امتداد لنفس الشعارات والأهداف التي حملها جمال عبد الناصر في مصر.
في كل العهود لم يكن منصب رئيس الوزراء يحتل الأولوية الأولى في الاهتمام في سلم السلطة خصوصاً في العهود الجمهورية. في العهد الملكي بدا لمنصب رئيس الوزراء أهميته البالغة والذي تنافس عليه عشرات رؤساء الوزارات كان الأشهر بينهم نوري السعيد (تولى رئاسة الحكومة 14 مرة). ومع أن جميل المدفعي يليه في عدد ترؤس الحكومة (8 مرات) فهناك رؤساء وزارات تركوا بصمة أكبر في تاريخ العراق رغم توليهم رئاسة الحكومة ربما مرة واحدة.
صحيح أن الغالبية العظمى من رؤساء وزراء العهد الملكي هم من السنة، بينما لم يكن لم يصل من الشيعة إلى هذا المنصب سوى عدد قليل، فإن الأبرز من الشيعة كان صالح جبر الذي تولى الوزارة مرة واحدة لكن اسمه ارتبط بتحوّل مهم في تاريخ العراق وهو «معاهدة بورتسموث» التي أسقطها العراقيون عام 1948، فاستقال جبر على إثر ذلك.
ومع أن الكردي بكر صدقي لم يشكّل سوى حكومة واحدة فإن اسمه ارتبط في العراق - وربما الشرق الأوسط كله - بأول انقلاب عسكري (عام 1936). ومع أن هناك شيعياً آخر تولى رئاسة الحكومة مرة واحدة هو الدكتور فاضل الجمالي فإنه كان يحسب له في المقام الأول تميزه الأكاديمي والدبلوماسي إبان العهد الملكي. ومع ذلك بقيت السمة الغالبة على العهد الملكي أن معظم رؤساء وزرائه من السنة، وبالذات العرب السنة، ربما باستثناء بكر صدقي ونور الدين محمود وأحمد مختار بابان.
في العهود الجمهورية اختلف الأمر كثيراً. فبعد سقوط الملكية تولى عبد الكريم قاسم رئاسة الوزراء، إلا أنه كان الحاكم الفعلي مع وجود مجلس سيادة لا دور أساسيا له. وبعد ذلك هيمن منصب رئيس الجمهورية بدءاً من عبد السلام عارف وشقيقه عبد الرحمن، ثم أحمد حسن البكر وصدام حسين.
بعد عام 2003 اختلف الأمر تماماً، إذ تغير شكل النظام من رئاسي إلى برلماني، وباتت مقاليد السلطة بيد الحكومة بشخص رئيس الوزراء وغدا منصب رئيس الجمهورية بروتوكولياً إلى حد كبير، مع أنه الركن الثاني من أركان السلطة التنفيذية طبقا للدستور العراقي. ومع أن كل الدساتير العراقية في مختلف العهود الملكية أو الجمهورية لم تشترط على رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أن يكون من مكوّن معين، فإن العرف في كل هذه العهود الطويلة التي امتدت على قرن كامل هو الذي ساد. ففي العهد الملكي كان العرب السنة هم المهيمنون على المناصب العليا على حساب الشيعة والكرد. الأمر نفسه استمر إبّان العهود الجمهورية حين لم يتسلم منصب رئيس الوزراء طوال نحو أربعة عقود من العهد الجمهوري سوى ثلاثة (ناجي طالب على عهد عبد السلام عارف، ومحمد حمزة الزبيدي والدكتور سعدون حمادي على عهد صدام حسين).
غير أن المشهد اختلف تماماً في حقبة ما بعد 2003. فلقد ظل العرف سائداً لكن بطريقة مختلفة هذه المرة، إذ هيمن العرب الشيعة من منطلق كونهم أغلبية على صناعة القرار العراقي، وصار منصب رئيس الوزراء الذي ارتبطت به قيادة الجيش هو المنصب الأهم. وكان أول رئيس وزراء انتقالي، بعد عام 2003، الدكتور إياد علاّوي وهو شيعي، وتلاه أربعة كلهم من الشيعة أيضاً هم: الدكتور إبراهيم الجعفري ونوري المالكي والدكتور حيدر العبادي وعادل عبد المهدي.
واليوم، بعد تاريخ يُعدّ مفصلياً في تاريخ العراق كلف محمد توفيق علاّوي لتشكيل حكومة تحاول إخراج العراق من مأزقه الحالي، أمام خلفية الانتفاضة الجماهيرية التي اندلعت الأول من شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2019.
عراق ما بعد 2003... من علاّوي إلى علاّوي
عراق ما بعد 2003... من علاّوي إلى علاّوي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة