البندقية... نحن نذهب أما هي فتبقى

مدينة تتنفس تحت الماء

البندقية... نحن نذهب أما هي فتبقى
TT

البندقية... نحن نذهب أما هي فتبقى

البندقية... نحن نذهب أما هي فتبقى

مبنيّة على الماء، معجون تاريخها بهذا العنصر الذي منه عظمتها وهلاكها المؤجَّل. جعلت البندقيّة، يوم كانت جمهورية مستقلة، من الملاحة البحرية العمود الفقري لوجودها، ومصدراً رئيساً لثروتها التي سخرتها في صناعة الجمال.
طوال ثلاثة قرون كانت خزانة جمهورية البندقية تجمع من المال ثلث ما كانت تجمعه الخزانة الفرنسية في أوج الحقبة النابليونية، أي ضعف ميزانية إنجلترا، وكان دخل الفرد فيها يضاعف عشر مرات متوسط دخل الفرد في أوروبا. لكن منذ مطالع القرن التاسع عشر دخلت البندقية في مسرى انهيار شامل راح يزيد من هشاشة جمالها بقدر ما يعمّق اللوعة على ما ينتظرها من قدَر محتوم، ويدفع إلى التهافت لمعاينة هذا الجسد المعلّق على مشنقة المياه.
جمالٌ غريب فريد هذا الذي يطلّ من شرفته على الشوارع الضيّقة التي يتدافع فيها السيّاح كما في يوم الحشر، وينساب على ضفاف الأقنية التي تفوح مياهها الآسنة بالروائح الكريهة، ويظلّل الساحات الواسعة والمباني التي تغرق ببطء أمام صعود القَدَر.
البندقيّة ليست مجرّد مدينة، بل هي كائن على وشك الاحتضار. خانقٌ قيظها ولزجٌ في الصيف، قارسٌ بردها ورطبةٌ في الشتاء. لكن مع ذلك، يكفي أن تتشرّد ساعات في شوارعها وفوق جسورها التي تطرّز صدرها السقيم حتى تتملّك ذاكرتك وتستقرّ فيها، لتمنعك من مغادرتها كلياً عندما تنهي زيارتك إليها.
أنت تعرفها قبل أن تراها، سمعت وقرأت وشاهدت ما لا يحصى عن هذه المدينة التي يتولّد سحرها من امتزاج الروعة بالبؤس، فتفرض ذاتها على الموهبة، وتروّض الأدباء والفنّانين، وتجبرهم على الاستسلام لمفاتنها والتكيّف معها.
وإذا كان الوقت هو معتقلنا الكبير، وكل خطوة فيه إلى الأمام هي في الواقع خطوة إلى الوراء، فإن كل الذرائع مقبولة، وكل المواعيد مناسبة لكي نستسلم، ولو مرّة واحدة، للمفاتن التي تمنحنا إياها هذه المدينة التي نشأت غارقة في الجمال. وإذا كانت البندقّية هي الجميلة بين الجميلات، فليس أجمل منها سوى البندقيّة متبرّجة لاستقبال الكرنفال الذي بدأ العدّ العكسي لحلوله منذ أيام.
زيارة البندقية يمكن أن تستغرق العمر كلّه، لكننا سنكتفي بالوقوف على بعض المحطّات الأخّاذة فيها، كفاتحة لشهيّة نعرف أنها لن تنتهي، لأنه عندما تنظر إليك هذه المدينة لن يعود بإمكان أحد أن ينقذك منها، تعود إليها مرّة غبّ المرّة، بذريعة أو من دونها، لا شيء يجعلك مستعداً لهذا السحر ولا شيء يقصيه عنك. هذه القصيدة الحجريّة ليست سوى واحة تنفض عنك تفاهات الحياة، وتنسيك الأزمات، وتحملك بعيداً عن الواقع، لأنها خارج الزمان تأخذك إلى عالم آخر يصبح الحلم فيه هو الواقع والحياة.

تعال معي إلى أجمل معالم البندقية
نبدأ جولتنا في القصر الذي أصبح واحداً من رموز المدينة، قصر (Dandolo)، حيث يقوم فندق «دانييلي»، أو (Il Danieli) مع «أل» التعريف، لأن «دانييلي» ليس مجرّد فندق، بل هو أسطورة مرّ عليها مشاهير الأدب والسياسة والفنون؛ في بهوه تقاطعت نظرات أوناسيس وماريّا كالاس لأول مرة مؤذنة ببداية إحدى أشهر قصص العشق، ومن وراء نوافذه المطلّة على البحيرة وصف مارسيل بروست رنين الأجراس الحزينة عندما كان يبحث عن الزمن الضائع.
ننطلق من هذا البهو صعوداً إلى مطعم «الشرفة» الذي يطلّ على أجمل المناظر، ويقدّم أشهى المأكولات في البندقيّة على الإطلاق. ومن وراء موائده التي تشرف على ميدان المياه الفسيح الذي يمتدّ حتى مشارف جزيرة «سان جيورجيو»، تبدأ بترتيب زياراتك إلى المعالم القريبة التي تختصر هذا الجمال الكثيف: ساحة القديس مرقص والكاتدرائية، والقصر الدوقي، وجسر التنهّدات، ومقهى «فلوريان»، فيما تتذوّق أطايب الأطباق التي تجمع بين نكهات الغرب والشرق، كما كان يفعل أمراء جمهورية البندقية الذين أرسلوا الرحالة الشهير «ماركو بولو»، ومولوا بعثاته إلى الصين.
دعك من كل ما قرأته في الكتب والمنشورات السياحية عن ساحة القديس مرقص والكاتدرائية التي تحمل اسمه، وادخلها من جهة البحيرة مع خيوط الفجر الأولى المنسدلة على القباب البيزنطية، قبل أن تتهافت عليها جحافل الزوار، وتذكر ما يلي: إن هذه الكاتدرائية بُنيت ليرقد فيها رفات القديس مرقص الذي خطفه الصليبيون من مقبرة الإسكندرية إبان الحملة الرابعة؛ وإن الخيول البرونزية الأربعة الرابضة على مدخلها هي أيضاً الشرق، لكن ما تراه هو نسخة عنها طبق الأصل من المحفوظ في متحف الكاتدرائية؛ وإن غابة الأعمدة الرخامية التي يرتفع عليها بنيانها لا تضاهيها سوى تلك التي يقوم عليها مسجد قرطبة الكبير. وعندما تقف مشدوهاً تحت الفسيفساء الذهبية المذهلة التي ترصع سقفها، تذكر أنها قبل أن تصبح كاتدرائية جمهورية البحار كانت المصلى الخاص لأمير المدينة الذي أراد من خلاله أن يبهر أوروبا والعالم.
خطوات معدودات تفصل الكاتدرائية عن القصر الدوقي المهيب الذي يرتفع بنيانه على مئات القناطر الغارقة في الماء، وحيث كان النبلاء والقضاة يحكمون منه الجمهورية التي بسطت نفوذها على البحار وطرق التجارة المعروفة في ذلك الوقت. تجول في ردهاته وقاعاته الفسيحة، وتدرج على سلالم المرمر التي تبدو بلا نهاية، ثم توقف أمام الجدران والسقوف المكسوة بورق الذهب الخالص في قاعة المحكمة الكبرى التي كانت أيضاً ديوان أمير الجمهورية (Doge) وكبير قضاتها.
وعندما تغادر هذا القصر، لتعبر إلى وسط المدينة فوق «جسر التنهدات» الشهير، تذكر أن اسمه لا يعود إلى الآهات التي يطلقها العشاق من حفافه عند المغيب، كما تقول الأسطورة الشائعة، بل إلى زفرات العذاب التي كانت تخرج من صدور المعتقلين الذين كانوا يعبرونه من قاعة المحكمة إلى السجن الذي يقع في نهايته لقضاء عقوبتهم فيه.
تحلو بعد هذه الجولة على الجمال الكثيف، وقبل عبور البحيرة إلى الجنة الأخرى، استراحة في أجمل مقهى يمكن أن تقع العين عليه: «فلوريان» الذي تأسس في عام 1720، ويعد أقدم مقهى في إيطاليا والعالم، ومن روّاده الفيلسوف الألماني غوتيه، وأشهر العاشقين كازانوفا ابن البندقية البار، ولورد بايرون، ومارسيل بروست، وتشارلز ديكنز، ومؤخراً الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران.
المقهى موزّع على قاعات هي أقرب إلى المتاحف، لما تزخر به من رسوم ولوحات لمشاهير الفنانين: قاعة مجلس الشيوخ، والقاعة الشرقية، والقاعة الصينية، وقاعة الفصول، وقاعة المشاهير التي تزينها لوحة كبيرة للرحالة الشهير ماركو بولو، وقاعة الحرية التي أضيفت إليه في عام 1920، عندما بدأ المقهى يستضيف معرضاً للفن المعاصر كل عامين، بالتزامن مع بينال البندقية.
ليست بالأمر السهل مغادرة هذا المقهى الذي ينسيك القهوة أو الشاي والحلوى اللذيذة التي اشتهر بها، لولا أن الموعد التالي لا يقل عنه بالمغريات التي يعد بها. عليك بالجندول هذه المرة يتهادى بك فوق المياه التي تتراقص عليها أشعة الشمس الناعسة في اتجاه جزيرة الحي اليهودي القديم، حيث يقوم اليوم أحد أشهر الفنادق في البندقية والعالم: Cipriani، المحطة المفضّلة لركّاب قطار الشرق السريع (Orient Express)، ومخبأ مشاهير هوليود عندما ينزلون في البندقية. وخلال هذه الرحلة القصيرة، سيخبرك قبطان الزورق النحيل أن كازانوفا كان يعبر هذا الطريق لملاقاة عشيقاته، وأن مشاهدة غروب الشمس من تلك الجزيرة الصغيرة هي من أعلى مراتب النيرفانا. النميمة عن كازانوفا ليس هناك ما يؤكدها، أما عن الغروب فحدّث ولا حرج.

قبل الرحيل
مع اقتراب موعد الرحيل عن هذا الحلم، تترسخ لديك الرغبة في العودة، وتدرك أن الجمال ليس إلا توزيعاً للضوء حسب الشكل الذي يرضي النظر، وأن الدمعة هي اعتراف العين بعجزها عن استيعاب الضوء، بقدر ما هو إقرار العين بعدم قدرتها على الإحاطة بالجمال.
إن هذه المدينة الطالعة من الماء، الذاهبة إليه، تجعل الحياة أجمل على هذه الأرض، وتنثر الأحلام على الطرقات الآتية. هذا هو دور البندقيّة في الكون: نحن نذهب، أما هي فتبقى.



البترون وجبيل وزغرتا... تتألق وتلبس حلة الأعياد

البترون وجبيل وزغرتا... تتألق وتلبس حلة الأعياد
TT

البترون وجبيل وزغرتا... تتألق وتلبس حلة الأعياد

البترون وجبيل وزغرتا... تتألق وتلبس حلة الأعياد

في مناسبة أعياد الميلاد ورأس السنة، تتنافس بلدات ومدن لبنانية على اجتذاب الزوّار. مدينتا جبيل والبترون كما زغرتا تشكّل وجهات سياحية داخلية محببة. تتوجه إليها العائلات لتمضية يوم كامل في أسواقها وشوارعها المرتدية حلة العيد.

صاحبة لقب «عاصمة الميلاد»... البترون

كعادتها كل سنة، ترتدي بلدة البترون الشمالية حلّة الأعياد قبل غيرها من المناطق اللبنانية. وهذا العام افتتحت صاحبة لقب «عاصمة الميلاد» موسم الأعياد بنشاطات مختلفة. فأطلقت شجرة ومغارة الميلاد. وافتتحت قرية العيد ومعارض وأسواقاً خاصة بالمناسبة.

زغرتا ونشاطات مختلف بمناسبة الأعياد (انستغرام)

كل ما يخطر على بال زوّار البترون سيجدونه في أسواقها القديمة المطبوعة بعيدي الميلاد ورأس السنة. ففيها تحضّر المونة وتنتشر المقاهي والمطاعم والمنتجات اللبنانية من أشغال يدوية وحرفية وغيرها. وتعدّ من أقدم الأسواق في لبنان، وهي مبنية بأسلوب العمارة التراثية، حيث تجذب السياح والمقيمين. تتألف الأسواق من أزقة، يشعر زائرها وهو يجتازها، بأنه في قلب صفحات تاريخية. وتدأب بلدية البترون في هذا الوقت من كل سنة على تقديم أسواقها بأبهى حلة. وتبرز قناطرها الحجرية المزينة. وتصطف على جانبي السوق الحوانيت والدكاكين، فتعرض كل ما يتعلّق بهذه المناسبة من هدايا وحلويات وعطور وبخور وأزياء.

الزينة في مدينة جبيل (انستغرام)

الموسيقى الميلادية تملأ الأجواء. وفي المناسبة تم إطلاق «ورشة بابا نويل»، وفيها يتاح للأطفال والأولاد التقاط صور تذكارية مع هذه الشخصية العالمية. وكذلك القيام بنشاطات مختلفة من تلوين الرسوم واللعب والترفيه.

وللكبار حصّتهم من هذه السوق. ومع كوب شاي ونارجيلة أو بعض المرطبات والحلويات والمثلجات يستمتعون بلحظات استرخاء. كذلك بإمكانهم تناول ساندويشات الفلافل والشاورما وأكلات أخرى لبنانية وغربية.

البترون من الوجهات الجميلة فترة الاعياد (انستغرام)

«هيللو بيبلوس»... جديدها بمناسبة الأعياد

تحرص مدينة بيبلوس (جبيل) على التجدد في كل مرة تتاح لها الفرصة. هذا العام، وبمناسبة إطلاقها شهر الأعياد، أعلنت عن موقعها الإلكتروني «هيللو بيبلوس» (Hello Byblos). وهو من شأنه أن يسهّل لزوّار هذه المدينة طريقة الوصول إليها، ويضيء على أهم معالمها السياحية والأثرية. وتأتي هذه الخطوة بمناسبة مرور 15 عاماً على إدارة بلدية جبيل للمدينة.

وخلال فترة الأعياد باستطاعة زوّار هذه المدينة العريقة تمضية يوم كامل بين ربوعها. فكما أسواقها الميلادية، كذلك افتتحت شجرة العيد، وتم تزيينها بأكثر من 10 آلاف متر إنارة. وفي الشارع الروماني حيث تنتصب شجرة الميلاد تتوزّع أقسام السوق الميلادية الخاصة بهذا الموسم. وتحت عنوان: «الأمل بيضوّي بجبيل» تقام الاحتفالات في المدينة في شهر ديسمبر (كانون الأول).

ومن يقصد هذه المدينة باستطاعته القيام بعدة نشاطات سياحية، ومن بينها زيارة قلعة جبيل الأثرية ومرفئها القديم. ولهواة المتاحف يحضر في هذه المدينة متحف الأسماك المتحجرة، ومتحف الشمع الخاص بالفن الحديث والمعاصر.

مدن ومناطق لبنان تلبي حلة العيد رغم الظروف الصعبة (انستغرام)

زغرتا وللأعياد نكهتها الخاصة

تعدّ بلدة زغرتا أمّ المعالم الطبيعية والتاريخية. يزورها اللبنانيون من كل حدب وصوب للاستمتاع بنشاطات رياضية وترفيهية مختلفة.

وفي مناسبة الأعياد تقدم زغرتا نشاطات فنية وثقافية. وتحت عنوان: «ليلة عيد»، يمكن لزائرها المشاركة بفعاليات الأعياد التي تنظمها جمعية «دنيانا»، ويتخللها «قطار العيد» الذي ينظم جولات مجانية متعددة للأطفال في شارع زغرتا الرئيس. ويرتدي الشارع بدوره حلة الميلاد وزينته. وتقدّم العديد من الأنشطة الترفيهية والموسيقية. ويحضر في هذه الفعالية مجموعة من الشخصيات الكرتونية المُحببة إلى قلوب أطفالنا؛ فيطلّ «سانتا وماما كلوز»، وترافقهما فرق موسيقية تعزف أغاني وترانيم الميلاد، لبث جوّ الفرح والأمل.

وتفتح المحال التجارية أبوابها لساعات متأخرة من الليل. وتقدّم لزوّارها هدايا رمزية من وحي العيد.

وتشتهر زغرتا بمعالمها الأثرية والطبيعية المختلفة. وتكثر فيها الطواحين القديمة التي تشكّل جزءاً من تراثها. وكما طاحون نحلوس في أسفل زغرتا من الجهة الشرقية الشمالية، هناك أيضاً طاحون المخاضة العليا المشهور بأقبيته من العقد الحجري.

كل ما يخطر على بال زوّار البترون سيجدونه في أسواقها القديمة المطبوعة بعيدي الميلاد ورأس السنة

ويفتخر أهالي البلدة بكنيسة «السيدة» القديمة الأثرية، وكذلك بمواقع دينية أخرى كـ«مارت مورا» وكنيستَي «سيدة الحارة» و«الحبل بلا دنس» الأثريتين. ومن أنهارها المعروفة رشعين وجوعيت. أما بحيرة بنشعي التي تشهد سنوياً احتفالات خاصة بأعياد الميلاد ورأس السنة، فتتوزع حولها المطاعم والمقاهي. وهي تبعد عن البلدة نحو 10 دقائق، وتعدّ من المحميات الطبيعية اللبنانية المشهورة. وتسبح فيها طيور الإوز والبط، وتحتوي على مئات الأنواع من الأسماك.

وتُعرف زغرتا بمطاعمها التي تقدّم أشهى المأكولات اللبنانية العريقة. وأهمها طبق الكبة على أنواعه. ويقصدها الزوّار ليذوقوا طبق «الكبة بالشحم» و«الكبة بالصينية» و«الكبة النية».