ألفريد هيتشكوك فيلسوفاً

40 عاماً على غيابه وما زال السينمائيون الشباب يتعلمون منه

مشهد من فيلم «سايكو»
مشهد من فيلم «سايكو»
TT

ألفريد هيتشكوك فيلسوفاً

مشهد من فيلم «سايكو»
مشهد من فيلم «سايكو»

لا يجادل كثيرون بأن المخرج البريطاني ألفريد هيتشكوك، (1899 - 1980) واحد من أسماء قليلة يمكن التداول بشأنها عندما نتحدّث عن أعظم مخرجي السينما في القرن العشرين. وهو دون شكّ عبر 53 فيلماً عمل عليها خلال مهنة استمرت 60 عاماً يستحق وحده لقب «ملك التشويق السينمائي» لما تضمنته أفلامه الكثيرة من معالجات رائدة ما زالت إلى اليوم مرجعاً يتعلّم منه السينمائيّون الشبان، ووجبة لا غنى عنها لكلّ متذوّق على مائدة الفن السّابع فكأنها نبيذ تزداد قيمته كلما تعتّق.
كان هيتشكوك الذي ولد شرق لندن قد التحق بصناعة السينما وهو ابن الحادية والعشرين من عمره، فعمل في استوديو للإنتاج السينمائي لشركة أميركيّة كبرى، وأغرق نفسه بجدّ داخل كل جوانب المهنة قبل أن يمنح الفرصة لإخراج أول أعماله عام 1925. وقد صنع مبكراً أفلاماً بارزة حققت حضوراً، لكن الأوضاع الاقتصاديّة السيئة في بريطانيا الثلاثينيّات أجبرته على قبول عرض للانتقال إلى هوليوود بالولايات المتحدة عشيّة الحرب العالميّة الثانية. وهناك صنع مجموعة متتابعة من الأفلام التي امتازت بعمقها الفكري وبحثها بأدق خصوصيات التجربة النفسيّة الإنسانيّة العابرة للثّقافات والأزمنة، ومثّلت أعماله للجمهور الأميركي العادي تطبيقاً عملياً على أساليب مدرسة التحليل السايكولوجي التي بقيت لوقت قريب قبلها مساحة محصورة بالنّخب والمثقفين.
وللمفارقة، فإن أفلام هذا الكبير، لا سيّما في النّصف الأول من تاريخه المهني الطويل، حظيت وقت ظهورها بقبول عريض من جمهور المشاهدين دون النقّاد الذين لم يدركوا عبقرية طروحاته وعمقها إلا بعد ظهور أفلام الواقعيّة الإيطاليّة الجديدة، ولاحقاً تيار سينما الموجة الجديدة في فرنسا الذي اعترف للرجل بفضله وأصالة أعماله. لكن أفلامه حظيت لاحقاً باهتمام مجموعة غير متوقعة من المعجبين، وأعني بهم دارسي الفلسفة ومحبيها الذين شرع بعضهم في ترفيع قيمة الرّجل إلى مكانة الفيلسوف على قدم وساق مع الأسماء الكبرى لذلك الفضاء النخبوي من أمثال ديكارت، وهيوم، وكانت، وفيتجنشتاين وغيرهم. وقد أصدر أحد الأساتذة الأميركيين (روبرت ينال) بالفعل كتاباً بعنوان (هيتشكوك كفيلسوف - 2005)، لتتالى بعده الدّراسات والمطارحات والمقالات المحكمة في أرفع دوريات الفلسفة العالميّة حول الثيمات التي تناولها الرّجل بمختلف أعماله.
وللحقيقة فإنه من دون هيتشكوك يصعب على غير المتخصص النّفاذ إلى القيمة المعرفيّة التي قد تحملها الأعمال الأدبيّة والفنيّة المتمحورة حول الرّعب من جحيم دانتي، إلى لوحات فرانشيسكو غويا، وتراجيديّات شكسبير، وروايات كافكا، ولاحقاً الأفلام السينمائيّة والمسلسلات المعاصرة، بالطبع دائماً إلى جانب ما قد تحمله من القيمة الفنيّة المحضة أو الأخلاقيّة الأكثر وضوحاً. ولعلّه من خلال أعمال مثل (سايكو - 1960) و(الطيور - 1963) يصوغ أبلغ إجابة على تساؤل دائم عن معنى إقبال الجمهور على تذوّق تلك الأعمال ومتابعتها، رغم أن بعضها يبدو وكأنّه احتفاء بالعنف الدموي لذاته.
عند هيتشكوك فإن أدب - أو فن أو شريط - الرّعب (سواء تعامل مع مخلوقات خياليّة أو حتى انحرافات بشريّة ممكنة وواقعية على نحو ما) يقدّم للمتلقي تجربة شك فلسفيّة مهمّة تجاه العادي والمألوف في الحياة اليوميّة المعتمدة على كثير من الافتراضات المتراكمة فيما يسمى بالحسّ السّليم أو المشترك - أو - «Common Sense»، الذي يسمح للبشر بالمضي في حياتهم من دون التوقف عند كل الاحتمالات. سينمائيّاً، فإن ذلك يعني حدثاً مناقضاً لذلك الحس السّليم (الذي هو أصلاً ليس عقلانياً بالمطلق) يكسر إيقاع حياة تبدو اعتياديّة ومكررة ومفعمة بالرتابة، ويتسبب بخلق استجابات عاطفيّة شديدة الكثافة في لحظة المشاهدة تتراوح بين القلق واليأس والبارانويا أو مزيج منها. لكن تأثير بعضها قد يلتصق بالمتلقي لبعض الوقت، ويلاحقه في يومياته، لا سيّما وأن البشر يحتفظون بداخلهم برصيد هائل من المخاوف الوجوديّة ننساه لحظياً لكنه قابل للاستعادة: الخوف من الموت، ومن المرض، ومن الموتى، ومن جنون العالم من حولنا. بالطبع يدرك المتلقي أن المادة الأدبيّة أو الفنيّة التي عرضت عليه ما هي إلا عمل من أعمال الخيال، لكن التأثير شديد الكثافة الذي يحدث نتيجة له لا يبدو أنّه يزال بمجرّد التعقل، وإنما بالعودة للاندماج باليومي والمألوف على نحو يسمح تدريجياً باستعادة التّوازن و«الحسّ السليم».
فيلمه «سايكو»، الذي يحتفل بمرور 60 عاماً على إطلاقه، يعتبر اليوم بمثابة فاصل يؤرّخ لسينما الرّعب من قبله وبعده. ففيه تحديداً ولأوّل مرّة في تاريخ هذا النوع من الأفلام لم يقدّم هيتشكوك أيّ ضمانات للبشر بإمكان مواجهة الخطر مصدر الرّعب أو حتى مجرّد التعامل معه بفعاليّة على نحو يصدم المتلقي ويضعه في حالة تامّة من الشكّ الفلسفي لا تنتهي إلا بمحاولة الاندماج مجدداً داخل يوميّات العيش. يقوم السيناريو بإثارة بارانويا حادّة في الذّهن عبر ما تبدو أموراً مألوفة وعاديّة لتتحول دون مقدّمات إلى خطر داهم يمكن أن يتسبب للإنسان بالهلاك. ورغم فكرة وجود إنسان يبدو من النظرة العابرة عادياً، لكنّه يتقلب في لحظة ما إلى وحش يهدد وجودنا ذاته، ليست بالجديدة تماماً، لكن عبقريّة صياغة هيتشكوك كانت بجعل السرديّة المرعبة أمراً لا يمكن استبعاده منطقيّاً وعقلانياً بأي شكل عن أي منا، وعلى نحو يطيح بقسوة بكل «حِسّنا السليم»، ويفقدنا مؤقتاً على الأقل الثّقة بكل افتراضاتنا المسبقة. ورغم أن ذلك السيناريو يرسم القصّة في فندق صغير بالولايات المتحدة الأميركيّة على طريق سفر ما، إلا أن سينوغرافيا الفيلم من أوّله إلى آخره تخاطب جمهوراً بشرياً عابراً للمكان وحتى للزمان، ولا تمنح المشاهد فرصة لاستبعاد الحدث على أسس ثقافيّة من نوع «هذه الأمور لا تحدث في بلادنا» أو ما شابه تاركاً لذهن الأخير استكمال كثير من التفاصيل في خياله بدلاً من تقديمها له مكتملة. ويعتبر مشهد قتل الضحيّة بطلة الفيلم داخل حوض الاستحمام، الذي يحدث مبكراً في بداية «سايكو» أشهر جريمة سينمائيّة في تاريخ الفنّ السابع كلّه، وهو رغم أنّه لا يتجاوز 45 ثانيّة تصويريّة، إلا أنّه على يد ملك التشويق السينمائي استهلك أسبوعاً كاملاً من العمل، و78 موضعاً مختلفاً للكاميرا.
فلسفياً، فإن أعمالاً مثل «سايكو» - وأيضاً فيلم هيتشكوك اللاحق «الطيور» الذي يطرح سيناريو موازياً لثيمة «سايكو»، إنما هذه المرّة عبر تحوّل طيور عاديّة فجأة إلى حيوانات قاتلة بلا سبب مفهوم، تقدّم دروساً معرفية ثمينة للمشاهد؛ أقلّها اكتساب نوع من الواقعيّة في التعامل مع اعتقاداتنا اليقينية (بشأن الأفراد أو التصورات الجماعيّة أو حتى البيئة الفيزيائية من حولنا)، كما إمكانيّة الاستمرار بالمحاولة وبذل الجهد رغم غياب حالة التيقّن التّام من النتيجة، وكذلك عدم الوقوع في فخّ المنطق البارد لحسابات المخاطر جميعها ذات الوقت على نحو يتسبب للإنسان بالشلل والعجز عن اتخاذ اتجاه ما، وهذه كلها مهارات معرفيّة ثمينة تحتاج لخبرة عمليّة كي تتسرب إلى الوعي، يوفّرها هيتشكوك لمشاهديه دون حاجة خوض مُخاطرات فعليّة.
لقد كان ألفريد هيتشكوك مخرجاً استثنائياً قد لا يتكرر في تاريخ السينما، ولذا تكتسب أعماله راهنيّة طازجة مهما مرّ عليها تقادم الوقت. إذ قلمّا تجتمع أقانيم الحرفيّة المهنيّة للعمل الفنيّ، مع ذلك الفهم المعمّق للسايكولوجيا البشريّة والقدرة على تقديم طروحات وروئ فلسفيّة بشأنها، كما اجتمعت في تجربته السينمائيّة الشاهقة. هذا رجلّ مكانته محفوظة مع ديكارت، وهيوم وكافكا وكامو، وإن كتب بغير أدواتهم.



عائلة سعودية تتوارث لقب «القنصل الفخري» على مدار سبعة عقود

الجد سعيد بن زقر أول قنصل فخري لجمهورية فنلندا في جدة (الشرق الأوسط)
الجد سعيد بن زقر أول قنصل فخري لجمهورية فنلندا في جدة (الشرق الأوسط)
TT

عائلة سعودية تتوارث لقب «القنصل الفخري» على مدار سبعة عقود

الجد سعيد بن زقر أول قنصل فخري لجمهورية فنلندا في جدة (الشرق الأوسط)
الجد سعيد بن زقر أول قنصل فخري لجمهورية فنلندا في جدة (الشرق الأوسط)

في حالة استثنائية تجسد عمق الالتزام والإرث الدبلوماسي، حملت أسرة بن زقر التجارية العريقة في مدينة جدة (غرب السعودية) شرف التمثيل القنصلي الفخري لجمهورية فنلندا عبر 3 أجيال متعاقبة، في مسيرة دبلوماسية وتجارية متواصلة امتدت لأكثر من 7 عقود.

بدأت القصة كما يرويها الحفيد سعيد بن زقر، في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية، عندما علم الجد سعيد بن زقر، بوجود جالية مسلمة في فنلندا تعاني من غياب مسجد يجمعهم، وهو ما دفعه إلى اتخاذ قرار بالسفر إلى هناك لبناء مسجد يخدم احتياجاتهم الدينية.

الجد سعيد بن زقر أول قنصل فخري لجمهورية فنلندا في جدة (الشرق الأوسط)

لكن الشيخ سعيد واجه بعض التحديات كما يقول الحفيد في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، تتمثل في منع القانون الفنلندي تنفيذ المشروع في ذلك الوقت، وأضاف: «بعد تعثر بناء المسجد، تقدمت الجالية المسلمة هناك بطلب رسمي إلى الحكومة الفنلندية لتعيين الجد سعيد قنصلاً فخرياً يمثلهم، وهو ما تحقق لاحقاً بعد موافقة الحكومة السعودية على ذلك».

وفي وثيقة مؤرخة في السابع من شهر سبتمبر (أيلول) 1950، اطلعت «الشرق الأوسط» على نسخة منها، تظهر موافقة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، طيب الله ثراه، على تعيين الشيخ سعيد بن زقر قنصلاً فخرياً لحكومة فنلندا في جدة.

وجاء في الوثيقة: «فلما كان حضرة صاحب الفخامة رئيس جمهورية فنلندا، قد عيّن بتفويض منه السيد سعيد بن زقر قنصلاً فخرياً لحكومة فنلندا في جدة، ولما كنا قد وافقنا على تعيينه بموجب ذلك التفويض، فأننا نبلغكم بإرادتنا هذه أن تتلقوا السيد سعيد بن زقر بالقبول والكرامة وتمكنوه من القيام بأعماله وتخوّلوه الحقوق المعتادة وتمنحوه المميزات المتعلقة بوظيفته».

وثيقة تعيين الجد سعيد بن زقر صادرة في عهد الملك عبد العزيز طيب الله ثراه (الشرق الأوسط)

وأضاف الحفيد سعيد، القنصل الفخري الحالي لفنلندا: «أعتقد أن جدي كان من أوائل القناصل الفخريين في جدة، حيث استمر في أداء مهامه حتى عام 1984، لينتقل المنصب بعد ذلك إلى والدي، الذي شغله حتى عام 2014، قبل أن يتم تعييني خلفاً له قنصلاً فخرياً».

وفي إجابته عن سؤال حول آلية تعيين القنصل الفخري، وما إذا كانت العملية تُعد إرثاً عائلياً، أوضح بن زقر قائلاً: «عملية التعيين تخضع لإجراءات دقيقة ومتعددة، وغالباً ما تكون معقدة، يبدأ الأمر بمقابلة سفير الدولة المعنية، يعقبها زيارة للدولة نفسها وإجراء عدد من المقابلات، قبل أن تقرر وزارة الخارجية في ذلك البلد منح الموافقة النهائية».

الأب محمد بن زقر عُين قنصلاً فخرياً على مستوى مناطق المملكة باستثناء الرياض مقر السفارة (الشرق الأوسط)

وتابع قائلاً: «منصب القنصل الفخري هو تكليف قبل أن يكون تشريفاً، حيث تلجأ بعض الدول إلى تعيين قناصل فخريين بدلاً من افتتاح قنصلية رسمية، لتجنب الأعباء المالية، وعادةً ما يتحمل القنصل الفخري كل التكاليف المترتبة على أداء مهامه».

ووفقاً للأعراف الدبلوماسية فإن لقب القنصل الفخري، هو شخص من مواطني الدولة الموفد إليها، بحيث تكلفه الدولة الموفِدة التي لا توجد لديها تمثيل دبلوماسي بوظائف قنصلية إضافة إلى عمله الاعتيادي الذي عادة ما يكون متصلاً بالتجارة والاقتصاد.

يسعى الحفيد سعيد بن زقر إلى مواصلة إرث عائلته العريق في تعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية بين السعودية وفنلندا، والارتقاء بها إلى مستويات متقدمة في شتى المجالات. يقول بن زقر: «منذ تعييني في عام 2014، حرصت على تأسيس شركات وإيجاد فرص استثمارية في فنلندا، خصوصاً في مجالات تكنولوجيا الغذاء والوصفات الصناعية، إذ تتميز فنلندا بعقول هندسية من الطراز الأول، وهو ما يفتح آفاقاً واسعة للتعاون والابتكار».

الحفيد سعيد بن زقر القنصل الفخري الحالي لجمهورية فنلندا في جدة (الشرق الأوسط)

ويرى القنصل الفخري لجمهورية فنلندا أن هناك انفتاحاً سعودياً ملحوظاً على دول شمال أوروبا، ومن بينها فنلندا، وأوضح قائلاً: «تتركز الجهود بشكل كبير على شركات التعدين الفنلندية التي تُعد من بين الأكثر تقدماً في العالم، إلى جانب وجود فرص واعدة لم تُستغل بعدُ في مجالات صناعة السيارات، والطائرات، والصناعات الدفاعية».

وفي ختام حديثه، أشار سعيد بن زقر إلى أن القنصل الفخري لا يتمتع بجواز دبلوماسي أو حصانة دبلوماسية، وإنما تُمنح له بطاقة تحمل مسمى «قنصل فخري» صادرة عن وزارة الخارجية، وبيّن أن هذه البطاقة تهدف إلى تسهيل أداء مهامه بما يتوافق مع لوائح وزارة الخارجية والأنظمة المعتمدة للقناصل الفخريين بشكل رسمي.