عبد العزيز السماعيل: المسرح السعودي عائد بقوة والمرأة ستثبت حضورها على الخشبة

رئيس «المسرح الوطني» يقول إنه سيتم الاستثمار في الثقافة المسرحية حتى يقل الاعتماد على الدولة

الأمير بدر بن عبد الله وزير الثقافة السعودي، وعبد العزيز السماعيل،  رئيس المسرح الوطني خلال تدشين مبادرة المسرحِ الوطني بالرياض (تصوير سعد الدوسري)
الأمير بدر بن عبد الله وزير الثقافة السعودي، وعبد العزيز السماعيل، رئيس المسرح الوطني خلال تدشين مبادرة المسرحِ الوطني بالرياض (تصوير سعد الدوسري)
TT

عبد العزيز السماعيل: المسرح السعودي عائد بقوة والمرأة ستثبت حضورها على الخشبة

الأمير بدر بن عبد الله وزير الثقافة السعودي، وعبد العزيز السماعيل،  رئيس المسرح الوطني خلال تدشين مبادرة المسرحِ الوطني بالرياض (تصوير سعد الدوسري)
الأمير بدر بن عبد الله وزير الثقافة السعودي، وعبد العزيز السماعيل، رئيس المسرح الوطني خلال تدشين مبادرة المسرحِ الوطني بالرياض (تصوير سعد الدوسري)

أطلق الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان آل سعود وزير الثقافة السعودي الثلاثاء الماضي، مبادرة المسرح الوطني، في حفل فني ومسرحي بمركز الملك فهد الثقافي بالرياض، بحضور مجموعة من الفنانين والمثقفين والمهتمين بالفنون المسرحية من المملكة والعالم العربي.
وأعلن الأمير بدر أن «رؤية المملكة 2030 تنظر إلى الثقافة بوصفها (من مقوّمات جودة الحياة)، لذا فإن وزارة الثقافة ملتزمة بدعم الحركة المسرحية وتمكين المسرحيين من أداء رسالتهم وفتح مساحات أرحب لإبداع السعوديين»، مؤكداً أن وزارة الثقافة تسعى لأن يكون المسرح الوطني قائداً للإبداع في الفنون الأدائية، وبناء القدرات البشرية لصناعة مسرحية محلية بجودة عالمية، مشدداً على أهمية الشراكة مع المسرحيين السعوديين في تحقيق أهداف المبادرة، «فمن خلالهم سنحقق الأهداف وسنتجاوز الصعوبات معاً، لنبني بنية ثقافية مستدامة».
الكاتب والسيناريست والفنان عبد العزيز السماعيل، قضى أكثر من 45 عاماً من عمره على خشبة المسرح، ممثلاً ومؤلفاً ومخرجاً وناقداً ومُحَكّمَاً وإدارياً ومشرفاً، حمل هموم المسرح ومعاناة المسرحيين على ظهره، وقدم أعمالاً مهمة كمسرحية «تراجيع» ومسرحية «الملقن»، حتى مسرحيته الشهيرة «موت المغني فرج باللغة».
وفي الحوار التالي مع «الشرق الأوسط» يتحدث السماعيل، عن مبادرة «المسرح الوطني» وسبل تفعيلها وعلاقتها بالفرق المسرحية، ودور المسرح حاضناً للإبداع الفني:> هل يمكنك أن تحدثنا عن مبادرة المسرح الوطني... ماذا تمثل؟ ما مكوناتها؟
- مبادرة المسرح الوطني إحدى المبادرات التي أطلقتها وزارة الثقافة بعد إعلان استراتيجيتها في 27 مارس (آذار) 2019، حيث تم بعد ذلك صدور قرار الأمير بدر وزير الثقافة بتعييني رئيساً للمبادرة، إلى جانب مبادرة الفرقة الوطنية للموسيقى بتاريخ 2 أبريل (نيسان) 2019، ومنذ ذلك التاريخ بدأنا في التخطيط والدراسة، ومن ضمن ذلك البحث عن تجارب العمل وأساليب الإنتاج في أهم المسارح الوطنية في العالم، حتى توصلنا إلى دراية شاملة بأهم تلك التجارب وكيفية الاستفادة منها...
> كيف تتلخص رؤيتكم للمسرح... كمؤسسة وليس كمسرحيين؟
- إنه استثمار بعيد المدى، المسرح فنّ بحجم الحياة تماماً، لا أقل ولا أكثر، وما تراه على الخشبة دائماً هو القائم الآن وهنا في هذا الوقت، هذا هو سر المسرح...
وبناء عليه تمت صياغة المسودة الأولى لخطة المسرح الوطني ورؤيته لتنسجم مع رؤية المملكة 2030 كمشروع ثقافي يشمل التدريب والتطوير والعمل الثقافي للمسرح وفنون الأداء، وليس الإنتاج المسرحي فقط...
> هل لهذا السبب تم تغيير الاسم؟
- نعم، تمّ تغيير الاسم من «مبادرة الفرقة الوطنية للمسرح» إلى «المسرح الوطني» ليكون منسجماً مع هذا الهدف...
> كيف يمكن أن تحتوي المبادرة أشكال العمل المسرحي؟
- لأن المسرح وفنون الأداء أشكال وصيغ فنية وثقافية متنوعة، ولها نفس الأهمية والترابط مع بعضها، تم تقسيم العمل عليها إلى عدة مسارات متوازية لتحقيق شمولية في دعم وتطوير المسرح الوطني السعودي ليكون بالفعل منصة للإبداع المسرحي وفنون الأداء؛ منها الإنتاج المسرحي (ويشمل كل أنواع فنون المسرح)، والإنتاج المسرحي بالتعاون مع الفرق المحلية، والتدريب والتطوير، وتنظيم المهرجانات، ومسرح الطفل، والدراما في التعليم، والمسار الثقافي...
وكل واحد من هذه المسارات تتفرع منه خطط وبرامج متنوعة تصب في النهاية في مفهوم المسار نفسه...
> دعنا نتحدث عن «الإنتاج» مثلاً، أو «المهرجانات»...
- الإنتاج سيكون بالتعاون مع الفرق المحلية، وسوف يتم سنوياً إنتاج عدد من العروض المسرحية تزيد سنوياً من خلال الفرق المحلية بتوفير الدعم المادي اللازم لها ومساندتها في تطوير تجاربها في أكثر من مدينة ومحافظة داخل المملكة، بينما تنظيم المهرجانات يشمل المهرجانات المحلية والدولية بأنواعها، ومسار الإنتاج يشمل المسرح للكبار والأطفال والمسرح الغنائي والأوبرا والمونودراما ودراما التعليم، والمسار الثقافي سوف يشمل التأليف والترجمة وطباعة النصوص... إلخ.

مهرجان ومسابقة 2020
> هل سيقوم المسرح الوطني بتنظيم مهرجانات وإطلاق جوائز مسرحية؟ في هذه الحالة؛ هل سيكون بديلاً عن المؤسسات التي تنظم المهرجانات المسرحية؟
- لا توجد الآن مؤسسات تنظم مهرجانات باستثناء عدد محدود جداً في بعض فروع الجمعية، إضافة إلى قلة الدعم والمساندة المالية لها، لذلك سوف يقوم المسرح الوطني بدوره في تنظيم مهرجانات محلية ودولية تليق باسم المملكة وبالمسرح السعودي من ناحية الإعداد والتنظيم، وسوف نبدأ هذا العام بتنظيم مهرجان وطني للعروض المسرحية وفنون الأداء في مدينة الرياض ليستمر متجولاً بعد ذلك على أهم المدن في المملكة كل عام. وسوف نعلن أيضاً في 2020 عن أولى مسابقات المسرح الوطني لتأليف النصوص المسرحية للكبار والأطفال، ولها جوائز قيمة لتكون قاعدة بيانات مهمة للكتاب السعوديين وتأسيس مكتبة مسرحية سعودية.
> ماذا تضيف هذه المبادرة للمسرح السعودي؟ أنت تعلم أن المسرح المحلي يعاني من إهمال من المؤسسات، حتى إنه لا يملك مسرحاً...
- سوف يضيف المسرح الوطني الكثير للمسرح السعودي، خصوصاً أن تجربة المسرح السعودي قبل ذلك - رغم أهميتها والجهود العظيمة التي بذلت فيها من المسرحيين السعوديين - كانت معتمدة في الغالب على الجهود الفردية وشبه الفردية ولم تتوفر لها البنية التحتية اللازمة ولا الدعم المالي الكافي، إضافة إلى ندرة الكوادر المتخصصة في دراسة المسرح.
> ما علاقة هذه المبادرة بالفرق المسرحية الناشطة؟
- يمكن أن أقول بوضوح إن المسرح الوطني سوف يعتمد على الفرق المحلية في الإنتاج كعنصر أساسي في أكثر من مسار بما في ذلك الدراما في التعليم، ليس بهدف توفير عدد من العروض ذات جودة عالية فقط في مختلف مناطق المملكة، بل للمساهمة في تطوير تلك الفرق جنباً إلى جنب مع تطور المسرح الوطني، والاستفادة من الخبرات المتميزة لدى البعض منها في مجال التمثيل والإخراج والتأليف وحتى التدريب والتطوير.
>... وكيف ستتعامل المبادرة مع جمعية المسرحيين وجمعيات الثقافة والفنون؟
- جمعية المسرحيين وجمعية الثقافة والفنون وكل المؤسسات الثقافية القائمة حالياً أصبحت من مسؤولية وزارة الثقافة، وهي تعمل الآن على تحقيق دراسة شاملة لمستقبل كل الجمعيات والمؤسسات الأهلية المعنية بالثقافة.
> تقولون إن المبادرة ستمثل حجر الأساس لتوفير منصة للإبداع المسرحي وفنون الأداء... هل لديكم تصور لكيفية احتضان هذه الفنون وتقديمها؟
- تصورنا لتحقيق تلك الأهداف سوف ينمو تدريجياً ويتطور في كل عام مستعينين بالكادر السعودي المتوفر وبعض الخبرات اللازمة من الدول العربية والأجنبية حتى تكتمل سعودة قطاع المسرح والإنتاج بالكامل. وكما قلت عمل المسرح الوطني سوف يوزع على مسارات متوازية في كل أشكال المسرح وفنون الأداء، بحيث نضمن جودة الإعداد وتصميم خطط العمل لكل مسار وتفرعاته على حدة قبل التنفيذ، بهدف الحصول على مخرجات ناجحة، وتقييم واضح للأداء في كل عناصر العمل منذ البداية وحتى النهاية.
> وكيف ستكون علاقة المسرح الوطني بالجمهور السعودي؟
- نحن نؤمن بأن المسرح فن وظاهرة اجتماعية بالدرجة الأولى؛ وقد وضعت أساس رؤية المسرح الوطني على اعتبار أن الجمهور المحلي هو الهدف الأول وحتى العاشر، وسوف نستهدف الجمهور المحلي بتقديم أعمال راقية جاذبة له وممتعة ومفيدة، ومن أجل ذلك سوف نستلهم من عمق تراثنا وتقاليدنا وثقافتنا الأصيلة قضايانا الملحة في النص وعروضنا المسرحية لنعزز معاً نحن والجمهور الهوية الخاصة للمسرح السعودي دائماً، ومن دون أن نغفل أهمية الاستفادة والتفاعل مع أهم التجارب العالمية الحديثة.
> هناك ما يسمى الاستثمار في الثقافة... ماذا تقول عن ذلك؟
- نحن أيضاً سوف نستثمر في الثقافة المسرحية، وفي الإنتاج وتقديم العروض، هذا مهم ليس فقط من أجل استدامة عطاء المسرح وتطويره، بل من أجل بناء علاقة تبادلية محفزة بين المسرح والجمهور أيضاً، وتوفير دخل ذاتي مهم للمسرح والعاملين فيه، بحيث يقل تدريجياً الاعتماد الكلي على دعم الدولة الكامل للمسرح، وذلك أحد أهم أهداف رؤية المملكة 2030 لمشروع الثقافة المستدامة.
> قلت إن المبادرة تتجه لتنشيط التدريب والتطوير في مجال المسرح، هل هناك أكاديمية للفنون المسرحية؟
- يعدّ مسار التدريب والتطوير من أهم المسارات التي سيعمل عليها المسرح الوطني لأنه يحقق الفائدة ويخدم كل المسارات ومن ضمنه تصميم وتنفيذ برامج طموحة لاكتشاف المواهب المسرحية السعودية قيد الدراسة حالياً، تمهيداً لإطلاقه في عام 2021 بإذن الله، أما الدراسات المتخصصة في مختلف علوم المسرح ومنها البرامج متوسطة وبعيدة المدى فسوف تكون من مسؤولية برنامج الابتعاث الذي أطلقته الوزارة مؤخراً، إضافة إلى الأكاديميات الفنية التي تضمنتها استراتيجية وزارة الثقافة.
> ماذا بشأن مشاركة المرأة في الأداء المسرحي؟
- بلا شك سوف يضفي حضور المرأة على خشبة المسرح بهجة وقوة على العروض المسرحية، فهي المكمل والعنصر الناقص دائماً في مسرحنا سابقاً، ولكن حضورها سيكون حضوراً جاداً وراقياً منسجماً مع عاداتنا وتقاليدنا، لتكون شريكاً بالكامل في المنعطف الذي سوف يسلكه مسار المسرح الوطني.

المسرح السعودي... بداية متأخرة ومسيرة متعثرة... ومستقبل واعد
> تاريخياً، بدأ المسرح السعودي متأخراً عن أمثاله في العالم العربي، وحتى في بعض دول الخليج، ورغم الحراك الثقافي السعودي، ظلّ المسرح متعثراً وبطيء النمو، ومتأخراً في النشأة والتأسيس، بسبب الموقف العام من الفنون الأدائية والبصرية، شأنه شأن السينما، فقد تأسس المسرح العربي قبل نحو 160 عاماً على يد مارون النقاش (1817 - 1855) الذي قدم أول مسرحية عربية عام 1847 في بيروت حملت اسم «البخيل»، لكن هذا الفن احتاج لأكثر من قرن ليتبرعم وينمو ببطء في السعودية، وقد أدى التواصل مع الحواضر الثقافية العربية خصوصاً في مصر لبروز تجارب مسرحية خاصة في الحجاز، وكان أول نص مسرحي ألفه الشاعر حسين عبد الله سراج عام 1932، وهو العام الذي أعلن فيه توحيد السعودية. كان الشاعر حسين سراج أول من كتب المسرحية الشعرية، بفعل تأثره بالتجربة المصرية، وقد كتب المسرحية الشعرية «الظالم نفسه» عام 1932 ومسرحية «جميل بثينة» عام 1943 ومسرحية «غرام ولادة» عام 1952، كما كتب مسرحية «الشوق إليك» عام 1974.
وكتب الدكتور عصام خوقير المسرحية النثرية «الدوامة» عام 1959، ومسرحية «السعد وعد»، كما كتب عبد الله عبد الجبار مسرحية «العم سحنون» و«الشيطان الأخرس» عام 1945. وكتب أحمد عبد الغفور عطار مسرحيتي «الهجرة» و«الملحمة» 1946. وألف محمد مليباري نصَي «مسيلمة الكذاب» و«فتح مكة» 1960. وعاد عصام خوقير بنص «الليل لما خلى»، وكتب إبراهيم حمدان نص مسرحية نسائية بعنوان «مونوكليا».
وقد شهدت نهاية الخمسينات أولى بوادر التجربة المسرحية السعودية، حين أسس أحمد السباعي مسرح قريش في مكة المكرمة، وقام بتأسيس فرقة مسرحية في مكة، ومدرسة للتمثيل، أطلق عليها اسم «دار قريش للتمثيل الإسلامي»، واختار مسرحية «صقر قريش» لتعرض في ليلة الافتتاح (1960)، لكنّ هذه التجربة تعرضت للإجهاض قبل أن ترى النور.
ومع تأسيس جمعية الفنون الشعبية عام 1970، تلاه إنشاء قسم الفنون المسرحية بالرئاسة العامة لرعاية الشباب عام 1974، وتأسيس الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون، أخذ الاهتمام بالمسرح يتصاعد، وبرز دور جمعية الثقافة والفنون راعياً للتجارب المسرحية، التي اتخذت صبغة اجتماعية في عروضها ومواضيعها.
وقد أرست «رؤية السعودية 2030» انطلاقة جديدة للثقافة السعودية باعتبارها من أهم محركات التحول الوطني نحو التنمية البشرية. وأطلقت وزارة الثقافة حزمة مبادرات تتضمن 27 مبادرة (تنتمي إلى 16 قطاعاً ثقافياً) لتكريس الثقافة نمط حياة في المجتمع، والثقافة من أجل النمو الاقتصادي، والثقافة من أجل تعزيز مكانة المملكة الدولية... ونصّت المبادرة السادسة على تأسيس «الفرقة الوطنية للمسرح».



رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة
TT

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

ليس أكثر من قصائد الشعر بمختلف اللغات وفي شتى العصور، ولكن ما عسى الشعر أن يكون؟ يقول جون كاري (John Carey) أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة أوكسفورد في كتابه «الشعر: تاريخ وجيز» (A Little History of Poetry)، (مطبعة جامعة ييل، نيوهفن ولندن، 2020) إن «صلة الشعر باللغة كصلة الموسيقى بالضوضاء. فالشعر لغة مستخدمة على نحوٍ خاص، يجعلنا نتذكر كلماته ونثمنها». وكتاب كاري الذي نعرضه هنا موضوعه أشعار عاشت على الزمن منذ ملحمة جلجامش البابلية في الألفية الثالثة ق.م وملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرن الثامن ق.م حتى شعراء عصرنا مثل الشاعر الآيرلندي شيمس هيني (تُوفي في 2013) والشاعرة الأفرو - أميركية مايا أنجيلو (توفيت في 2014) والشاعر الأسترالي لس مري (توفي في 2019).

ليس الشعر كما يظن كثيرون خيالاً منقطع الصلة بالواقع أو تهويماً في عالم أثيري عديم الجذور. إنه كما يوضح كاري مشتبك بالأسطورة والحرب والحب والعلم والدين والثورة والسياسة والأسفار. فالشعر ساحة لقاء بين الشرق والغرب، ومجال للبوح الاعترافي، ومراوحة بين قطبي الكلاسية والرومانسية، وأداة للنقد الاجتماعي، ومعالجة لقضايا الجنس والعرق والطبقة. إنه كلمات يختارها الشاعر من محيط اللغة الواسع ويرتبها في نسق معين يخاطب العقل والوجدان والحواس. فالشعراء كما تقول الشاعرة الأميركية ميريان مور يقدمون «حدائق خيالية بها ضفادع حقيقية».

وتعتبر الشاعرة اليونانية سافو (630 ق.م-570 ق.م) من جزيرة لسبوس أول شاعرة امرأة وصلت إلينا أشعارها في هيئة شذرات (القصيدة الوحيدة التي وصلت إلينا منها كاملة عنوانها «أنشودة إلى أفروديتي» ربة الحب). المحبوبة في قصائدها تفاحة حمراء ناضجة في شجرة عالية بعيدة المنال. أو هي زهرة جبلية يطأها الرعاة الأجلاف بأقدامهم فتترك أثراً أرجوانياً على الأرض. وفى قصيدتها المعروفة باسم «الشذرة 31» ترى صديقة لها تتحدث مع رجل وتضاحكه فتتولاها الغيرة ويثب قلبها في صدرها وتشعر كأن ناراً ترعى في بدنها فتعجز عن الكلام وتغيم عيناها وترتعد فرائصها (للدكتور عبد الغفار مكاوي كتاب صغير جميل عن «سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان»، دار المعارف، القاهرة).

والشعر مشتبك بالدين كما هو الحال في غزليات الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي (من القرن الرابع عشر الميلادي) الذي لا نعرف الكثير عن حياته. نعرف فقط أنه حفظ القرآن الكريم في طفولته واشتغل خبازاً قبل أن يغدو من شعراء البلاط ودرس الصوفية على يدي أحد أقطابها. وهو يستخدم صور الحب والخمر كما يفعل المتصوفة رمزاً إلى الحب الإلهي والوجد الصوفي والنشوة الروحية المجاوزة للحواس. وقد غدت قصائده من كنوز اللغة الفارسية، ودخلت بعض أبياته الأمثال الشعبية والأقوال الحكمية، ولا يكاد بيت إيراني يخلو من ديوانه.

كذلك نجد أن الشعر يشتبك بكيمياء اللغة وقدرتها على الإيحاء ومجاوزة الواقع دون فقدان للصلة به. يتجلى هذا على أوضح الأنحاء في عمل الشاعر الرمزي الفرنسي أرتور رامبو من القرن التاسع عشر. فعن طريق تشويش الحواس والخلط بين معطياتها يغدو الشاعر رائياً يرى ما لا يراه غيره وسيتكشف آفاق المجهول. فعل رامبو هذا قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر، وذلك في قصائده «السفينة النشوى» (بترجمة ماهر البطوطي) و«فصل في الجحيم» (ترجمها الفنان التشكيلي رمسيس يونان) و«اللوحات الملونة» أو «الإشراقات» (ترجمها رفعت سلام). وبهذه القصائد غدا رامبو - ومعه لوتريامون صاحب ديوان «أغاني مالدورور» - أباً للسريالية في العقود الأولى من القرن العشرين.

والشعر مشتبك بالسياسة خاصة في عصرنا الذي شهد حربين عالميتين وحروباً محلية وصراعات آيديولوجية ما بين نازية وفاشية وشيوعية وليبرالية وديمقراطية وأصولية دينية، كما شهد المحرقة النازية وإلقاء أول قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. وممن عاشوا أزمات هذا العصر الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت (1986-1901) الحائز جائزة نوبل للأدب في 1984. إنه في ديوانه المسمى «إكليل من السوناتات» (1956) يخاطب مدينته براغ التي أحالتها الحرب العالمية الثانية إلى ركام معبراً عن حبه لها وولائه لوطنه. وشعر سيفرت يقوم على استخدام المجاز. وقد جاء في حيثيات منحه جائزة نوبل أن شعره الذي يمتاز بالوضوح والموسيقية والصور الحسية يجسد تماهيه العميق مع بلده وشعبه.

ومن خلال الترجمة يتمكن الشعر من عبور المسافات وإقامة الجسور وإلغاء البعد الزمني، وذلك متى توافر له المترجم الموهوب القادر على نقل روح القصيدة ونصها. هذا ما فعله المترجم الإنجليزي آرثر ويلي (توفي في 1966) الذي نقل إلى الإنجليزية كثيراً من الآثار الشعرية والروائية والمسرحية الصينية واليابانية.

ومن أمثلة ترجماته هذه القصيدة القصيرة من تأليف الإمبراطور الصيني وو-تي (القرن الأول ق.م) وفيها يرثي حبيبته الراحلة:

لقد توقف حفيف تنورتها الحريرية.

وعلى الرصيف الرخامي ينمو التراب.

غرفتها الخالية باردة ساكنة.

وأوراق الشجر الساقطة قد تكوّمت عند الأبواب.

وإذ أتوق إلى تلك السيدة الحلوة

كيف يتسنى لي أن أحمل قلبي المتوجع على السكينة؟

ويختم جون كاري هذه السياحة في آفاق الشعر العالمي، قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، بقوله إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على طرح الأسئلة على الكون، بغية إدراك معنى الوجود، أسئلة لا تجد إجابة في الغالب، ولكن هذا التساؤل - من جانب الفيلسوف والعالم والشاعر - يمثل مجد الإنسان ومأساته معاً.