يتسبب النقل وحده في انبعاث نحو 23 في المائة من غازات الدفيئة المرتبطة بالطاقة، أو ما يقارب 18 في المائة من مجمل الانبعاثات الناتجة عن النشاط البشري. وهذا ما يجعل التحول إلى النقل الأخضر حاسماً في تحقيق أهداف مؤتمر باريس المناخية لإبقاء حرارة الكوكب أقل بدرجتين مئويتين زيادة عما كانت عليه الحال قبل بدء الثورة الصناعية، مع هدف طموح بألا تتجاوز الزيادة 1.5 درجة مئوية.
ووفق الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، زادت الانبعاثات الناجمة عن وسائل النقل بنسبة 70 في المائة خلال السنوات الثلاثين الماضية. وتشير التقديرات إلى أن عدد سيارات الركاب الخاصة التي تجوب شوارع العالم اليوم يتجاوز المليار. وما لم تتخذ إجراءات عاجلة، قد يتضاعف الرقم بحلول سنة 2040، وسط توقعات بأن تزداد انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المرتبطة بالطاقة، بما فيها النقل، بنسبة 40 في المائة بحلول سنة 2040 مقارنة بسنة 2013.
ولا تزال وسائط النقل حول العالم تعتمد بشكل كبير على الوقود الأحفوري، حيث تعمل 92 في المائة من المركبات على المشتقات النفطية. ولا يمثل هذا الإدمان على الوقود الأحفوري مشكلة بالنسبة لتغير المناخ فقط، إنما ينعكس تلوثاً في الهواء، الذي تصنفه منظمة الصحة العالمية كرابع أكبر مسبب للوفاة في العالم، إذ يموت جراءه 7 ملايين شخص سنوياً. كما توجد مؤشرات إلى أن الضوضاء المرورية لها ثاني أكبر تأثير بيئي على الصحة بعد تلوث الهواء.
ولذلك، فإن التحول إلى النقل الأخضر، بما ينطوي عليه من تقليل الأثر البيئي لوسائط المواصلات، يسعى إلى تحقيق 3 أهداف أساسية هي التخفيف من تغير المناخ عبر خفض انبعاثات غازات الدفيئة، والحد من الوفيات المبكرة والأمراض الناجمة عن تلوث الهواء، وإقلال عبء المرض المرتبط بمستويات الضجيج المرتفعة.
خطط طموحة وأضرار جانبية
تسعى العديد من المدن حول العالم إلى تقليل الأثر البيئي لوسائط المواصلات، وفق خطط متنوعة تقوم في أغلبها على استبدال المركبات التي تعمل بمحركات الاحتراق الداخلي بمركبات تعتمد على الطاقة الكهربائية.
بريطانيا أعلنت أنها ستحظر مبيع السيارات العاملة على البنزين أو الديزل، اعتباراً من سنة 2040، وكذلك فعلت فرنسا. الهند قررت أن أي سيارة تباع في البلاد يجب أن تكون عاملة على الكهرباء اعتباراً من سنة 2030، وخطة الحكومة النرويجية في قطاع النقل تضمنت هدفاً صريحاً: جميع سيارات الركاب والسيارات المغلقة التي تباع ابتداءً من سنة 2025 يجب أن تكون ذات انبعاثات صفرية.
ومن المتوقع أن تكون 2020 سنة الحسم بالنسبة للعديد من صانعي السيارات في التحول إلى تصنيع السيارات الكهربائية، على ما يعنيه ذلك من أضرار جانبية على المدى القصير. ففي ألمانيا، توفر صناعة السيارات أكثر من 800 ألف وظيفة مباشرة، وتدعم 3 ملايين وظيفة على المستوى الوطني الأوسع. وفيما ترغب الحكومة من شركات صناعة السيارات بالبلاد في إنتاج ما يصل إلى 10 ملايين سيارة تعمل بالبطاريات بحلول نهاية هذا العقد، فإن تقريراً رسمياً يتوقع أن يفقد 400 ألف مواطن وظائفهم نتيجة ذلك.
ويرى التقرير أن تجميع المركبات الكهربائية، التي تحتوي على مكونات أقل بكثير، سيصبح أكثر مكننة، ويتطلب قوة بشرية أقل مما يستلزمه إنتاج طرازات سيارات البنزين أو الديزل. كما سيؤدي إلى فقدان قسم كبير من الوظائف في اختصاصات الهندسة الميكانيكية وهندسة السيارات والتطوير التقني والتصميم وإنتاج المعادن. وفي هولندا، بدأ أصحاب ورش صيانة السيارات بوضع خطط بديلة لمواجهة الانخفاض المحتمل في أعمالهم، مع ارتفاع حصة السيارات الكهربائية في السوق، لأنها تحتاج إلى صيانة أقل بكثير من السيارات التقليدية.
ويمكن لبعض الترتيبات الوقائية والدعم الحكومي الموجه لصناعة السيارات الكهربائية أن يساهما في الحد من الآثار السلبية لهذا التحول. وهذا ما أثبتته الوقائع في معمل «فولكس فاغن» في مدينة تسفيكاو، الذي تحول جزئياً إلى تصنيع السيارات الكهربائية من دون خسارة أي عامل لوظيفته.
وفي اليابان، بدأت تتشكل قناعة لدى صانعي السيارات بأن المستقبل القريب هو للسيارات الكهربائية، في انتظار أن تنخفض أسعار السيارات العاملة على الوقود الهيدروجيني. وفيما كانت شركة «نيسان» هي الرائدة في تصنيع السيارات الكهربائية بالكامل عبر سيارتها «ليف»، فإن عملاق السيارات «تويوتا» لم يغامر خلال السنوات الماضية في هذا المجال إلا بسيارات هجينة تعمل على الوقود والكهرباء معاً، أشهرها «بريوس».
إن الحاجة لخفض انبعاثات غازات الدفيئة، والحد من تلوث الهواء، إلى جانب نجاح كل من شركة «تسلا» الأميركية والشركات الصينية، مثل «جيلي» و«بي واي دي»، ساهم في خلق سوق يتسارع فيها الطلب على السيارات الكهربائية، وجعل العالم يقتنع أن نهاية السيارات التي تعمل بمحركات الاحتراق الداخلي هو أمر حتمي في نهاية المطاف.
تحديات ناشئة
المستقبل يبدو مشرقاً أمام المركبات قليلة الانبعاثات، ولكن النمو في السيارات الكهربائية سيزيد من الطلب على الكهرباء. وهذا الطلب الإضافي سيخلق تحديات كبيرة في جميع أقسام نظم الطاقة الأخرى، خصوصاً في أوقات الذروة. ويمكن استكشاف تأثير مصدر الكهرباء المغذية للسيارات الكهربائية من خلال ورقة بحثية عن النقل في أستراليا نُشرت في نهاية سنة 2018. ففي ولاية فيكتوريا، التي تعتمد على الفحم لتوليد الطاقة الكهربائية، تقل نسبة انبعاثات دورة حياة الوقود في سياراتها الكهربائية بمقدار 20 في المائة عن سيارات البنزين التقليدية. في حين يصبح الانخفاض 88 في المائة في السيارات الكهربائية ضمن ولاية تسمانيا التي تعتمد على الطاقة المتجددة في أغلب مرافقها.
وفيما سمحت التكنولوجيا بإنتاج سيارات كهربائية منخفضة الكلفة وقليلة الانبعاثات، أدت في المقابل إلى زيادة متسارعة في استهلاك الموارد الطبيعية لتلبية الطلب الكبير على السيارات الرخيصة نسبياً والحاجة لتصنيع البطاريات ومحطات الشحن. وهذا يعني زيادة كبيرة في أنشطة التعدين في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية، ينتج عنها تدمير الموائل الطبيعية وإلحاق ضرر بالمجتمعات المهمشة. ويرى كثيرون أن احتياطيات بوليفيا الضخمة من فلز الليثيوم، الذي يدخل في صناعة البطاريات، كانت عاملاً مهماً في حصول الانقلاب العسكري الأخير الذي أطاح بالرئيس البوليفي إيفو موراليس.
من ناحية أخرى، فإن التحول الأخضر الذي يدمج الذكاء الاصطناعي في منظومة النقل بأساليب عدة، من بينها السيارات ذاتية القيادة، يقوم على جمع ومراكمة البيانات عن الأفراد والمحيط. وسيؤدي تعقب تنقلات الأفراد والمجموعات إلى تحسين جدوى النقل، وزيادة كفاءته اقتصادياً وبيئياً، ولكنه سيهدد أيضاً خصوصية الأفراد ويخضعهم للرقابة أكثر فأكثر.
وفي حين يضطر نحو ثلاثة أرباع الأفارقة للسير مشياً على الأقدام للوصول إلى أماكن عملهم، أو لتلبية احتياجاتهم اليومية، لم يعد الطلب على السيارات الكهربائية في الدول الغنية غايته تأمين واسطة التنقل فحسب، وإنما صرعة بين الشباب الذين يبحثون عن التميز على أقرانهم بأي ثمن.
ومن اللافت أن الحجز المسبق عبر الإنترنت لسيارات «سايبرترك» (Cybertruck) الكهربائية، التي تخطط شركة «تسلا» لطرحها في الأسواق في سنة 2021، ويبلغ سعرها 100 ألف دولار، اجتذب 250 ألف طلب حتى الآن. ويرى البعض أن هذا العدد الضخم من الطلبات، الذي يستلزم دفعة مسبقة مقدارها 100 دولار فقط، يغيّر النظرة إلى السيارات عن كونها وسيلة خدمية ضرورية إلى سلعة كمالية بشكل مشابه لما جرى سابقاً في قطاع أجهزة الاتصال الحديثة، وما يستتبع ذلك من استهلاك غير عقلاني للموارد الطبيعية. وفي الإطار نفسه، أعلنت شركة «جنرال موتورز» عن قرب إطلاق سيارة «هامر» الضخمة، بمحرك كهربائي. لكن البصمة البيئية لهذه السيارة، من التصنيع إلى الاستخدام، ستكون أكبر بكثير من سيارة تؤدي الغرض نفسه، بنصف الوزن ومحرك أصغر، ولو كانت تعمل على البنزين.
إن السياسات التي تتبعها بعض البلدان لدعم التحول نحو النقل الأخضر من خلال فرض ضريبة على الوقود الأحفوري، أو تقديم الحوافز لمصادر الطاقة المتجددة وصناعة السيارات الكهربائية، أو تخفيض أجور وسائل النقل العامة، لا تكفي وحدها لتحقيق التحول المنشود. لذلك يتوجب على الدول التي تسعى للإيفاء بالتزاماتها المناخية أن تعمل أيضاً على توسيع نطاق أبحاثها حول تقنيات إنتاج واستخدام مصادر الطاقة عديمة الانبعاثات، وخلق الظروف التي تشجع على استخدام وسائل النقل بأفضل طريقة مجدية، وجعل النقل منخفض الكربون بوصلة توجّه اتخاذ القرار في القطاع العام، إلى جانب تصميم مدن للناس أولاً، لا للسيارات، بما يجمع السكن والعمل والخدمات التعليمية والترفيهية في منطقة واحدة، لتخفيف الحاجة إلى التنقل في سيارات خاصة.