قصص مصرية تستفيد من التراث الشعبي وشطحاته الغرائبية

في مجموعتها الجديدة «ست زوايا للصلاة»، تستفيد الكاتبة والمترجمة المصرية أميرة بدوي من الموروث الشعبي، وشطحاته الغرائبية، عبر اثني عشر نصاً تفوح روائح القرى، والسكك الترابية، وأعواد الذُرة، وحصائر البيوت، وتسكنها ذاكرة مُثقلة بالفقد، ومجهول على هيئة وحش، ومظلومون يبحثون عن ملاذ للأمل.
واختارت الكاتبة أن تضع على رأس كل نص عنواناً أقرب لبصمات التراث الأسطورية التي تترك أثراً أطول من زمن النص، فجاءت عناوين نصوصها على شاكلة: «البومة»، «النعش»، «القِط»، «الغولة»، «الإبريق»، «الكف»، «الديك». كما تستلهم في مقدمة مجموعتها أجواء الشاعر محمد عفيفي مطر، حيث الخرافة الشعبية والطمي والحقول، وترقب القمر ممزوجاً بمواقيت الطمث والنماء في عالم القرية، وتحولات الفصول، وذلك عبر «لطشة شعرية» من تراث مطر تتصدر المجموعة يقول فيها:
«انزل على الجرح المُخضب يا ندى
رطّب مراقدنا الأليمة يا ندى
وادع الصخور لترحم العظم المُهشم يا ندى
واترك بنا رمقاً هزيلاً يا ندى»
يبحث أبطال «ست زوايا للصلاة»، الصادرة عن دار «العين» للنشر بالقاهرة وتقع في 98 صفحة، عن مربع آمن للعيش، فالمكان بالنسبة لهم مسكون بالخوف، سواء كان باتساع الحقول، أو في حجم كشك من الطوب الأحمر، أو سرير حديدي، حيث التلصص يبدو سمة رئيسية، تلون مدارات السرد، وتمنح الشخوص نوعاً من الفضول، بحثاً عن إجابات تخصهم، فيما يدور حولهم، فيتلصصون على بعضهم بعضاً، كأن التلصص نفسه محاولة للهروب من نهايات مرعبة ومفاجئة على وشك أن تبتلعهم، وتضع نهاية لمصائرهم: «عرفنا أن قريتنا هي الوحيدة الباقية، وهي الملاذ الأخير. قالوا إن هناك وحشاً حط على بلادهم. سلعوة، تزحف فتطيّر التراب من تحتها، وتدخل البيوت والقبور. قالت امرأة: إنها ليست سلعوة، بل نجم سقط من السماء، داخله وحش برأس طويل، يمسك سوطاً ويضربه في الطين، فيسوّد الأرض ويجلد ظهور الرجال. البنات قالت إنها أمنا الغولة والنساء قالت إنها أم قويق، نسجت من الأرض سحابة صفراء لتختبئ خلفها، وعندما يأتي الليل تدخل البيوت وتخنق كلّ من فيها. لكن الرجال قالوا بحكمة: ربما يكون زلزالاً هز الأرض، وابتلع البيوت، ومن يعمرونها، لم ير الناجون شيئاً والذين رأوا لم ينجوا. تضاربت الأقوال، وبتنا ننتظر المجهول القادم».
تقود غريزة النجاة وسط تلك العبثية المعتمة شخوص المجموعة إلى حروب ضد هذا المجهول الذي يتربص بهم، وتعدد صوره على مدار المجموعة، بينما تمنحه الكاتبة ملامح مُخيفة خُرافية، يتحد الأهالي لمواجهتها بالحرب إذا لزم الأمر، ففي قصة «النَعش» تقول: «في الصباح تسللنا وبنادقنا فوق أكتافنا. كنا حذرين. بالكاد نلمس الأرض. لكنها اهتزت فجأة، وسمعت دعوات تعلو من كل مكان وقرآناً يُتلى عندما خرج الثعبان ولامس السماء. لم أستطع النظر في عينيه طويلاً، كانتا وحشيتين، وفيهما مقبرة كبيرة. نفخ الثعبان في البيوت والأبراج فانهدمت».
وكما الأعداء المُستترين وراء أوجه ثعابين، هناك دائماً الأبطال الذين يلهث وراءهم الأهالي طلباً للخلاص، وهم عادة خارقون، يأتون من أراضٍ بعيدة، لهم ضربات فأس مُزلزلة، وأحياناً عزف ناي مؤثر. وتحت إحساس ما ممض بالذنب يتحرك أبطال نصوص المجموعة، يشاركون القمر أعباء خطاياهم، ويشرعون دائمًا للانتقام في الطريق. في قصتها «البومة» تقول الكاتبة عن أحد هؤلاء: «في الصلاة بكى كما لم يبكِ قاطع طرق. تذكّر كل روح قطفها، كل بيت نط، وامرأة. لم يفرغ من الصلاة حتى أتاه صوتها، صوت اشتعال الروح في الجسد، عندما قامت سنية، على غصن شجرة، أبصرت العالم بعينيها الواسعتين، لكنها لم تكن رحيمة، كان في صدرها نار، ومن يومها.. تلبد وراءه في كل شارع، تطارده، وتهنّدُ بصوتها الباكي».
تحمل المجموعة سرديات بصرية تُحاكي لغة الموالد وطقوس الأعراس، والتحسُب للحسد والغيبيات، وغيرها من حشايا الذهنية الريفية، ومنحت بعض الحيوانات في قصصها، كالثعبان والضفدع، بطولات رمزية، أعطتها زمام تحريك الأحداث والكشف عن خبايا من حولها من بشر، ففي قصتها «الخِضر» رسمت لبطلها حارس القضبان ملامح أسطورية، فهو «يُقرفص بين الحبال والمقاطف، يُكتفها، يلاعبها، يُغير من صورتها. من ليف نخلة عالية إلى خلخال في قدم بهيمة». وجعلت لهذا البطل الحالِم الغارِق بين المقاطف رباطاً سحرياً يصله بالضفادع، حتى يؤول واحداً منها في مشهد كاشف، مليء بشجن درامي وفانتازي، فهو يجد نفسه بعد سنوات مُتهماً بالتقصير في حراسة القضبان، ونهاية خدمة بالتسريح لسوء السلوك، لكنه مع ذلك يشتبك بضراوة مع من اتهموه: «تمزق جلدهم المُزيف. بدوا على حقيقتهم تماماً. مُفتشون مزيفون. ضفادع لا أكثر. دخل في معركة معهم على القضبان، ورأى القطار آتياً من بعيد. كان المسافرون على هيئة ضفادع أيضاً. توقفت المُشاجرة.
لوّح لهم شبل من المشرفين. هدأوا في لحظة قبل أن يتابعوا القتال. وقع على الأرض. مزقوا جلده بأظافرهم. أطلق صوت نقيق غاضب. صار أخضر مثلهم. قفز على أربع هارباً حتى وصل إلى النيل. هناك كانت الأغنيات تنتظره».