حوارية بصرية تلعب على «النوستالجيا» والخلاص في الفن

نسج خيوطها تشكيليان في معرض «رحلة فنان» بغاليري غرانت

من لوحات الفنان سيد خليل - من لوحات عبد الوهاب العراقي - لوحة للفنان العراقي عبد الوهاب
من لوحات الفنان سيد خليل - من لوحات عبد الوهاب العراقي - لوحة للفنان العراقي عبد الوهاب
TT

حوارية بصرية تلعب على «النوستالجيا» والخلاص في الفن

من لوحات الفنان سيد خليل - من لوحات عبد الوهاب العراقي - لوحة للفنان العراقي عبد الوهاب
من لوحات الفنان سيد خليل - من لوحات عبد الوهاب العراقي - لوحة للفنان العراقي عبد الوهاب

«في كل فن من الفنون تحاول الروح أن تغترب عن عالم الحواس وتقترب من مضمونها الروحاني الخاص». هكذا عبّر الفيلسوف الألماني هيغل عن ثنائية الاقتراب والاغتراب التي نلمسها جلية في معرض «رحلة فنان» في غاليري غرانت بوسط القاهرة.
لوحات باعثة على التأمل تمزج بين حالات إنسانية متعددة ومعقدة يحتضنها المعرض مجسدا محاورة فنية بين الفنان عبد الوهاب العراقي، والفنان سيد خليل، ورغم اختلاف المدارس الفنية التي ينتمي إليها كل منهما، إلّا أنّ اللوحات تتخذ من ثيمة البحث عن خلاص من العالم وتعقيداته عنوانا لها، وهو بمثابة حلم. ينعكس على اللوحة والمشاهد معا.
تجذب لوحات الفنان سيد خليل بأبعادها المخاتلة المتلقي تدريجيا نحو اللامحدود بنزق ميتافيزيقي، فهي مليئة بطاقة وحالات انفعالية ممزوجة بالصوفية أحيانا ومتأثرة بالواقع المعيش أحيانا أخرى، فلا يملك المتلقي إلّا أن يتفاعل معها عبر إحساسه باللون والخطوط وتشابكاتها، بحثا عن طاقة الضوء ليصل معها إلى حالة من التماهي. في إحدى لوحاته سنجد صراعا لونيا في لوحة ضبابية يمزج فيها عدة أفكار وتأملات حول المدن واستطاع تطويع الألوان لتعطي انعكاسات سطح الماء، وإيحاءات بالضباب وحالة الاغتراب التي يعيشها الإنسان المعاصر في ظل «لا إنسانية» الواقع. في لوحة أخرى أسماها لقاء الأحبة تقف الزهرة الحمراء وسط خطوط تخنقها وتستنزفها ليخرج الفنان باللوحة من سياق معنى الصورة إلى صورة المعنى.
خليل قال لـ«الشرق الأوسط»: إنّ «عملي كلّه مبني على التّجريد المطلق مع روحانية، ففي لوحة أطلقت عليها «الدوامة» عبرت عن الدوامة بخطوط ومساحات لونية مع احتفاظي بنظرة المتلقي نحو البؤرة في العمل الفني، وأعتبر لوحاتي محاولة لتحويل الواقع إلى حالة تأملية عبر الألوان». معتبرا أنّ لوحاته: «صرخة لونية في حب الحياة».
انتقل خليل من التكعيبية إلى التجريدية وفقا لتأثره بالواقع وتناقضاته. ويشير إلى أنّ «الأكريليك من الألوان المفضلة لي حيث أعبر بواسطة عن الطاقة بداخلي وحالتي الشعورية كدفقة واحدة».
أمّا الفنان عبد الوهاب العراقي فنجده ميالا إلى التعبيرية المجردة، بضربات فرشاة تستدعي الذاكرة لتؤجج الحنين إلى الماضي، كما تحمل شخوص العراقي رمزية لدفء الأسرة العربية والعلاقات الأسرية بتأويلات عديدة، يستلهم فيها التراث محررا الظواهر الاجتماعية المعاصرة من آنيتها، لاعبا على أوتار ما هو مدرك، وما هو متخيل ليخلق عالمه الخاص. وهو ما نلحظه في إحدى اللوحات التي يتوسطها ما يشبه انفجار لوني ضخم، وطائر عملاق يغرق فيها تغمره تدفقات لونية وسفينة شطرت نصفين، أما لوحة الحلم فهو يستدعي صراع الخير والشر بتكنيك «دق الألوان» فتعطي خيالات موحية للمتلقي بعوالم أخرى منسوجة بخيال روحاني، ففي اللوحة فتاة غجرية وعيون حمراء تعبر عن قوى الشر.
يقول الفنان عبد الوهاب العراقي لـ«الشرق الأوسط»: «استعنت بالتعبيرية المجردة في لوحات هذا المعرض، وحاولت أن أترك للمتلقي أن يفسر كل لوحة برؤيته الخاصة وفقا لخلفياته وموروثاته الثقافية».
ويقول الفنان التشكيلي والناقد عادل بنيامين الذي افتتح المعرض، لـ«الشرق الأوسط»: إنّ «لوحات الفنان سيد خليل تمتاز بتكوينات لونية رائعة وهو بارع في خلق التوازن بينها، حتى أنّ بعض لوحاته يمكن تقسيم كل جزء منها للوحة مستقلة. لوحاته لا يمكن إعادتها بكل تفاصيلها، هناك لوحات تجريدية غير عقلانية لكن في لوحات خليل نجد تجسيدا للمعنى والأفكار، حيث يوظف اللاوعي في خلق المعنى فكل لوحة من لوحات نسيج فني تحفة لا تتكرر حتى أنّه نفسه لا يمكنه تكرارها».
ويتابع بنيامين: «أمّا الفنان عبد الوهاب العراقي فإنّه متميز في استحضار التراث واستدعاء حالة الحنين إلى الماضي، كما أنّه أحد أساتذة المدرسة التنقيطية في إبراز الأشكال والشخوص بلمسة خاصة تميزه، لنجد بناء اللوحة متفردا، بل إنّ بعض اللوحات نشعر وكأنّها منحوتة بتقنيات إيجازية تمزج التراث برصانته ووقاره ووحشية الواقع». لافتا، إلى أنّ «شخوص اللوحات وكأنها تغوص في أبعاد لا متناهية، فمثلا في إحدى اللوحات التي استوقفتني نجد المئذنة في أقصى بعد للوحة التي تشعرني بأنّ الأذان يتردّد من بعيد، فهو فنان متحكم في كل تفاصيل لوحته بشكل دقيق مع تركه لمساحات فراغ ليكسب لوحاته قوانين الكتلة والفراغ، بشكل تلقائي، يجعل من اللوحات تراوح بين الاستاتيكية والصيرورة».



«المرايا» رؤية جديدة لمعاناة الإنسان وقدرته على الصمود

شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)
شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)
TT

«المرايا» رؤية جديدة لمعاناة الإنسان وقدرته على الصمود

شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)
شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)

في النسيج الواسع لتاريخ الفن التشكيلي، تبرز بعض الأعمال الفنية وتكتسب شهرة عالمية، ليس بسبب مفرداتها وصياغاتها الجمالية، ولكن لقدرتها العميقة على استحضار المشاعر الإنسانية، وفي هذا السياق تُعدّ لوحات الفنان السوري ماهر البارودي بمنزلة «شهادة دائمة على معاناة الإنسان وقدرته على الصمود»، وهي كذلك شهادة على «قوة الفن في استكشاف أعماق النفس، وصراعاتها الداخلية».

هذه المعالجة التشكيلية لهموم البشر وضغوط الحياة استشعرها الجمهور المصري في أول معرض خاص لماهر البارودي في مصر؛ حيث تعمّقت 32 لوحة له في الجوانب الأكثر قتامة من النفس البشرية، وعبّرت عن مشاعر الحزن والوحدة والوجع، لكنها في الوقت ذاته أتاحت الفرصة لقيمة التأمل واستكشاف الذات، وذلك عبر مواجهة هذه العواطف المعقدة من خلال الفن.

ومن خلال لوحات معرض «المرايا» بغاليري «مصر» بالزمالك، يمكن للمشاهدين اكتساب فهم أفضل لحالتهم النفسية الخاصة، وتحقيق شعور أكبر بالوعي الذاتي والنمو الشخصي، وهكذا يمكن القول إن أعمال البارودي إنما تعمل بمثابة تذكير قوي بالإمكانات العلاجية للفن، وقدرته على تعزيز الصحة النفسية، والسلام، والهدوء الداخلي للمتلقي.

لماذا يتشابه بعض البشر مع الخرفان (الشرق الأوسط)

إذا كان الفن وسيلة للفنان والمتلقي للتعامل مع المشاعر، سواء كانت إيجابية أو سلبية، فإن البارودي اختار أن يعبِّر عن المشاعر الموجعة.

يقول البارودي لـ«الشرق الأوسط»: «يجد المتلقي نفسه داخل اللوحات، كل وفق ثقافته وبيئته وخبراته السابقة، لكنها في النهاية تعكس أحوال الجميع، المعاناة نفسها؛ فالصراعات والأحزان باتت تسود العالم كله». الفن موجود إذن بحسب رؤية البارودي حتى يتمكّن البشر من التواصل مع بعضهم بعضاً. يوضح: «لا توجد تجربة أكثر عالمية من تجربة الألم. إنها تجعلهم يتجاوزون السن واللغة والثقافة والجنس لتعتصرهم المشاعر ذاتها».

الفنان السوري ماهر البارودي يحتفي بمفردة الخروف في لوحاته (الشرق الأوسط)

لكن ماذا عن السعادة، ألا تؤدي بالبشر إلى الإحساس نفسه؟، يجيب البارودي قائلاً: «لا شك أن السعادة إحساس عظيم، إلا أننا نكون في أقصى حالاتنا الإنسانية عندما نتعامل مع الألم والمعاناة». ويتابع: «أستطيع التأكيد على أن المعاناة هي المعادل الحقيقي الوحيد لحقيقة الإنسان، ومن هنا فإن هدف المعرض أن يفهم المتلقي نفسه، ويفهم الآخرين أيضاً عبر عرض لحظات مشتركة من المعاناة».

وصل الوجع بشخوص لوحاته إلى درجة لم يعد في استطاعتهم أمامه سوى الاستسلام والاستلقاء على الأرض في الشوارع، أو الاستناد إلى الجدران، أو السماح لعلامات ومضاعفات الحزن والأسى أن تتغلغل في كل خلايا أجسادهم، بينما جاءت الخلفية في معظم اللوحات مظلمةً؛ ليجذب الفنان عين المشاهد إلى الوجوه الشاحبة، والأجساد المهملة الضعيفة في المقدمة، بينما يساعد استخدامه الفحم في كثير من الأعمال، وسيطرة الأبيض والأسود عليها، على تعزيز الشعور بالمعاناة، والحداد على العُمر الذي ضاع هباءً.

أحياناً يسخر الإنسان من معاناته (الشرق الأوسط)

وربما يبذل زائر معرض البارودي جهداً كبيراً عند تأمل اللوحات؛ محاولاً أن يصل إلى أي لمسات أو دلالات للجمال، ولكنه لن يعثر إلا على القبح «الشكلي» والشخوص الدميمة «ظاهرياً»؛ وكأنه تعمّد أن يأتي بوجوه ذات ملامح ضخمة، صادمة، وأحياناً مشوهة؛ ليعمِّق من التأثير النفسي في المشاهد، ويبرز المخاوف والمشاعر المكبوتة، ولعلها مستقرة داخله هو نفسه قبل أن تكون داخل شخوص أعماله، ولمَ لا وهو الفنان المهاجر إلى فرنسا منذ نحو 40 عاماً، وصاحب تجربة الغربة والخوف على وطنه الأم، سوريا.

أجواء قاتمة في خلفية اللوحة تجذب العين إلى الألم البشري في المقدمة (الشرق الأوسط)

وهنا تأخذك أعمال البارودي إلى لوحات فرنسيس بيكون المزعجة، التي تفعل كثيراً داخل المشاهد؛ فنحن أمام لوحة مثل «ثلاث دراسات لشخصيات عند قاعدة صلب المسيح»، نكتشف أن الـ3 شخصيات المشوهة الوحشية بها إنما تدفعنا إلى لمس أوجاعنا وآلامنا الدفينة، وتفسير مخاوفنا وترقُّبنا تجاه ما هو آتٍ في طريقنا، وهو نفسه ما تفعله لوحات الفنان السوري داخلنا.

لوحة العائلة للفنان ماهر البارودي (الشرق الأوسط)

ولا يعبأ البارودي بهذا القبح في لوحاته، فيوضح: «لا أحتفي بالجمال في أعمالي، ولا أهدف إلى بيع فني. لا أهتم بتقديم امرأة جميلة، ولا مشهد من الطبيعة الخلابة، فقط ما يعنيني التعبير عن أفكاري ومشاعري، وإظهار المعاناة الحقيقية التي يمر بها البشر في العالم كله».

الخروف يكاد يكون مفردة أساسية في أعمال البارودي؛ فتأتي رؤوس الخرفان بخطوط إنسانية تُكسب المشهد التصويري دراما تراجيدية مكثفة، إنه يعتمدها رمزيةً يرى فيها تعبيراً خاصاً عن الضعف.

لبعض البشر وجه آخر هو الاستسلام والهزيمة (الشرق الأوسط)

يقول الفنان السوري: «الخروف هو الحيوان الذي يذهب بسهولة لمكان ذبحه، من دون مقاومة، من دون تخطيط للمواجهة أو التحدي أو حتى الهرب، ولكم يتماهى ذلك مع بعض البشر»، لكن الفنان لا يكتفي بتجسيد الخروف في هذه الحالة فقط، فيفاجئك به ثائراً أحياناً، فمن فرط الألم ومعاناة البشر قد يولد التغيير.