استعمالات المشغل السردي عند محمد خضيّر

مقالات تقوم على فكرتين متمازجتين: نظرية وسردية

محمد خضير  -  غلاف الكتاب
محمد خضير - غلاف الكتاب
TT

استعمالات المشغل السردي عند محمد خضيّر

محمد خضير  -  غلاف الكتاب
محمد خضير - غلاف الكتاب

نادراً ما يُدخل أديب عربي قراءه إلى مختبره الكتابي، ويكشف لهم عن وعيه الأدبي، ومرجعياته القرائية، وخبراته الفنية، وتقنياته الأدائية، وفلسفته الجمالية، ولذلك يجيء كتاب محمد خضير المهم «السرد والكتاب - استعمالات المشغل السردي»، الصادر بنسخته الجديدة عن دار «شهريار»، كبادرة استثنائية في هذا الحقل. وهو عبارة عن مقالات سردية تقوم على فكرتين متمازجتين: نظرية وسردية. ويستعرض فيه سيرة الكاتب النظرية، بما تحتويه من «المؤثرات والمصادر والحوادث التي توسطت بين حياته الخاصة ونصوصه السردية»، حيث يستعرض جملة من الاستعمالات التي يعتمدها الكاتب في مشغله السردي، ابتداءً من تقاليد الاستعمال الأدبي التي يتجلى فيها استعمال بعض الأدباء للأدب استعمال الصحافة المؤدية إلى الشهرة، عبر الحوارات والبيانات والإيضاحات والمناقشات. وهذه هي طبيعة مستعمِل الأدب الذي يراكم شهرته على حساب رصيد نصوصه، وينسى أن الاستعمال الأدبي الصحيح هو الذي يستطيع أن «يبني نظاماً للذوات المنتجة مجاوراً لأنظمة النصوص المنتجة».
وفي حالة استعمال الواقع، يستخلص الكاتب قيمة جوهرية «تكمن في معرفة الواقع، واقع الحياة وواقع الكتابة، غزارة المرجع وحدود النص»، وذلك من خلال العبور نحو أسئلة فاصلة حول رؤية الواقع ذاته ورؤية النص، ومدى تطابقهما داخل فعل الكتابة. والغوص في تراث النظرية الواقعية المفرّعة للواقع في تشكيلين: مرئي ولا مرئي، بما يحملانه من أفق شاسع للكتابة الواقعية. كما تمثل الواقع المرئي في عصر الواقعيين الكبار، أو كما سمّاهم «بناة العالم»، مقابل عصر الواقع اللامرئي بأبطاله المنشطرين على أنفسهم، المغتربين عن ذواتهم، المتوارين خلف أقنعة مسرحية لا تكشف مرآة الواقع إلا عن خدوشهم التعبيرية، وتجلياتهم السردية المفكّكة. وهذا هو حال مستعمِل الواقع في سعيه للبحث عن واقع مجهول أو خفي داخل لجُة من المفاهيم والنظريات، اتكاءً على فاعلية الخيال للوصول إلى ما وراء الواقع. وكل ذلك ضمن جدلية مركز الإنساني كرائي لذلك الواقع، حيث تمادت النظريات السردية في فرط الواقع إلى عناصر سديمية متشابكة بشكل معقد، وضمن احتمالات وافتراضات، وهذا هو بالتحديد ما جعل محمد خضير يعيد ترسيم الواقع. فبرأيه «ليست الواقعية بلا ضفاف، وليس النص بلا حدود».
كذلك في استعمال القصة تظهر جدلية الإبداع مقابل الصنعة، وما يتبع ذلك من متوالية التحديث والتجريب واللاتجنيس، حيث تطل نزعة صون القصة من التدنيس حد التصنيم كفعل وقائي من احتمالات الاتجاه المفتوح اللامجنس. وهو تصور يبدأ وينتهي من نظرية النوع، بما في ذلك آليات الإنتاج والتلقي، الأمر الذي قد يربك معادلة المواءمة بين المتعة والصنعة، وذلك عند التعامل الواقعي مع مشكلات بناء القصة المتعلقة باللغة والفكرة والزمن والحكاية والربط والمونتاج وتنظيم عناصر البناء، في طور تنصيص الواقع، ليكتسب «صفات الواقع المكتوب»، مع مراعاة روح النص القصصي «المتعلق بالإحساس بالزمن الذي يجري في القصة مجرى النهر، أو يرتد إلى الوراء كومضة أو سقوط حر في هاوية الماضي». وهي اللحظة القصصية التي يحرك الكاتب زمنها غير الثابت من موقعه الثابت في الزمان.
وفي منعطف استعمال الرواية، يتنازل بتواضع وحذر عن الحديث حول حالته بصفته روائياً، لأنه يقف قبالة استحقاق مؤجل، وأحلام أو مخططات تركها وراء ظهره، وقد صارت اليوم تسبقه بمسافة. وعلى هذا الأساس، صار يتكلم عن استعمالات الرواية «كتلمّس العميان لجسد الفيل في الحكاية الهندية»، حيث يستشهد برواية علي بدر «مصابيح أورشليم» كمثال لرواية المدحورين، بما يختزنه هذا النمط من الروايات من استخدام تمثيلي ساخر للأسماء. كما يلتقط بُعد الملل في الروايات العظيمة عند دوستويفسكي وتوماس مان، وصولاً إلى أورهان باموك، حيث «عرفنا أن الأفكار وظلال الأفكار فواصل وانتقالات وروابط تتخلل محاكاة عصرية لحكايات قديمة. نستغرق في سرد الأفكار المملة لنكتشف أن حبكات الروايات فخاخ أدبية لاصطياد الإشارات والاستعارات الموجودة في نصوص قديمة». وعلى هذا الأساس، يمثل بتقاطعات رواية أورهان باموك «الكتاب الأسود» مع «مثنوي» جلال الدين الرومي و«منطق الطير» للعطار. ليطوح بعد ذلك بالقارئ في ثراء الممارسة الروائية التي تقع بين حدي: الوعي والتجربة، مستشهداً بروايات من مختلف العصور والثقافات والاتجاهات.
ولا تكتمل استعمالات القصة التي تعني «مجموعة من الألفاظ والجمل التي تترابط في نص لغوي لإنتاج حادثة أو حبكة أو موقف» إلا إذا انتظمت في «سياق علاقة رمزية، من عصر ما قبل إلى عصر ما بعد». وهذا هو جوهر الاستعمال الرمزي، إذ لا يمكن فهم النص إلا بإحالاته الرمزية ضمن واقع دلالي متغير، بالنظر إلى كونه نصاً لغوياً مشبعاً بالإيحاءات المرجعية. وذلك ضمن تكرارات شبه وصفية داخل منظومة البناء السردي، خصوصاً عند الإحالة إلى الأنظمة الرمزية المؤصلة، كما تتوفر في المرجعيات الدينية مثلاً. وحتى السرد البسيط يخفي في طيات بناه التحتية «مستويات عدة لاستعمال الرمز»؛ بمعنى أن النهج الرمزي خيار حتمي للكاتب. وهذا هو ما يحدث في الحقل الروائي، حيث المنظومات الرمزية «بابتكاراتها التي لا تُبارى ولا تُحاكى».
وتحتمل القصة أيضاً استعمال السرد التشكيلي، المتمثل في «الصورة الفوتوغرافية والسينمائية والكتلة الحجمية والفراغية للتمثال والعمارة»، حيث تحتل هذه العناصر مكانتها فيما يصفه بلغة «السرد الأيقونية»، على اعتبار أن «زمن السرد وزمن التشكيل مندمجان في زمن الأثر الخيالي الذي يحتويهما». وبالنظر إلى أصالة موقع الصورة الثابتة والمتحركة في سرد القصة لإحداث أثر وصفي، في مجمل القصص السيكولوجية والواقعية والتسجيلية، بما في ذلك تحريك «ماضوية الصورة»، وذلك في طور استعارة «تقنيات الشريط السينمائي الذي تعمل فيه لغة التوليف عمل لغة الاسترجاع في ذاكرة الشخصية الساردة المحفَّزة بالصور». وهذا هو الأسلوب الجديد القائم على تداعي الأفكار واستعادتها وسردها عبر الصور، كما اعتمدها كتقنية تشكيلية قوامها اللقطة السينمائية في جانب من مجموعته «المملكة السوداء»، بإدراك تام لأهمية الانتقال من المحاكاة إلى التصوّر، واللجوء إلى «وثائق الخيال التي لا تدحضها اللحظة الحياتية المؤقتة».
ودفتر اليوم أيضاً يشكل جزءاً حيوياً من الاستعمالات، بما يحتويه من «مسودات ومشروعات ناقصة وشذرات خابية في فضاء المشاغل»، حيث تشكل كتابة اليوميات كإنجاز هش، بتصوره، المرحلة الثانية بعد تعلم مرحلة الكتابة الأبجدية، كما تسجل المفكرات يوميات كُتّابها. وهو أداء أدبي يختفي من الحياة الثقافية العربية أو تخفت نبرته. ولذلك يبحث عن تلك الاستعمالات عند بوشكين وتوماس مان وفرجينيا وولف وغابريل غارثيا ماركيز لاصطياد «حياة النصوص المولودة من رماد المذكرات»، إذ يمكن النظر إلى المفكرات، حسب أناييس نن، كاحتياطي للذاكرة، يستعمل فيها الكاتب «أنواع المعرفة الحسية اليومية في تدوين فقرات من التحليل الارتجالي عن الذات بالعالم». وهكذا يمكن التعامل مع اليوميات كأصول أدبية. ومن هذه الزاوية التي تتموضع فيها اليوميات ككتابة عن الكتابة، يقرأ دفتره الخاص بكتابة قصص «رؤيا خريف»، بما فيه من «فوضى الأحلام، وعثرات الأفكار، وغزارة التحضير والتدبير، وما أدرت من وقت لإنتاج خلاصة نقية لقصة أو قصتين… تبدو لي مفكرات الماضي أشبه بأنصاب خرسانية تركتها القصص وراءها في معرض الذاكرة المغلق».
إن أربعين عاماً من الكدح السردي، كما يقول محمد خضير «لا بد تُشعر القصاص بالاغتراب عن نصوصه المتراكمة خلال هذه المدة الطويلة. ينشأ الاغتراب السردي مع تراكم ناتج السرد في عمل القصاص، وهو شبيه إلى حد كبير باغتراب ناتج العمل الآلي»، مع ملاحظة أن ناتج العمل الآلي مادي، أما ناتج العمل السردي فهو رمزي. ومن ذلك المنطلق، يفسر سبب اغتراب نصوصه «إن وقوع نصوصي في شبكة علاقات إنتاج واسعة، تناظر علاقات إنتاج العمل الآلي، ساعد على اغترابها وانزوائها في كراسات التجارب السردية اليومية». وهكذا يعايش القصاص حالات الكتابة معايشة مستديمة، بما تحتمله من انبثاق فكرة العمل، ومعاناة تشكّل النصوص، ومرحلة ما بعد الطباعة، فكل هذه المتوالية أفعال سردية «تؤول إلى ملكية الخطاب الذي يعمل القصاص تحت ظله». وهذا التواصل اللصيق بعلاقات إنتاج النص هو ما يسميه النقاد «لذة النص»، وهي «لذة مشوبة بالاغتراب لوقوعها تحت سلطة الخطاب، وقيمومته على حرية الكاتب والقارئ في إنتاجها، ولن تكتمل لذتاهما حتى يتخلصا من اغترابهما، كي يحصلا على لذة صافية (أي رمزية) في نهاية المطاف».

- كاتب سعودي



مهرجان للفيلم الأوروبي في العاصمة طرابلس لكسر حاجز الانقسام

بوستر فيلم «عاصفة» الفرنسي المشارك في مهرجان الفيلم الأوروبي بطرابلس (السفارة الفرنسية)
بوستر فيلم «عاصفة» الفرنسي المشارك في مهرجان الفيلم الأوروبي بطرابلس (السفارة الفرنسية)
TT

مهرجان للفيلم الأوروبي في العاصمة طرابلس لكسر حاجز الانقسام

بوستر فيلم «عاصفة» الفرنسي المشارك في مهرجان الفيلم الأوروبي بطرابلس (السفارة الفرنسية)
بوستر فيلم «عاصفة» الفرنسي المشارك في مهرجان الفيلم الأوروبي بطرابلس (السفارة الفرنسية)

بعيداً عن التكلس السياسي الذي تعانيه ليبيا، انطلق في العاصمة طرابلس مهرجان للفيلم الأوروبي تحت إشراف بعثة الاتحاد الأوروبي إلى البلاد، بالتعاون مع الهيئة العامة للسينما والمسرح والفنون، في خطوة تستهدف توسيع الشراكة الثقافية وكسر حاجز الانقسام، من خلال تجميع الليبيين بالثقافة والفن.

وتشارك في النسخة الأولى من المهرجان، التي انطلق الأحد، 5 سفارات أوروبية عاملة في ليبيا، بأعمال يتم عرضها للجمهور مجاناً لمدة 5 أيام، تنتهي الخميس المقبل. وعبّر سفير بعثة الاتحاد الأوروبي لدى ليبيا، نيكولا أورلاندو، عن سعادته لافتتاح أول مهرجان سينمائي ليبي - أوروبي في طرابلس، إلى جانب الهيئة العامة للسينما والمسرح والفنون، وسفارات فرنسا وألمانيا وإيطاليا ومالطا وإسبانيا. وعدّ هذا الحدث «علامة فارقة في الشراكة الثقافية بين ليبيا والاتحاد».

ويعرض مساء اليوم (الاثنين) فيلم «راعي البقر من الحجر الجيري» المقدم من سفارة مالطا، بقاعة الهيئة العامة للسينما والمسرح في شارع الزاوية بطرابلس، التي دعت الجمهور للاستمتاع بمشاهدته.

البوستر الترويجي لفيلم «فتاة عادت» الإيطالي (إدارة المرجان)

وبجانب الفيلم المالطي، فإن العروض المفتوحة للجمهور تتضمن، وفق ما أعلنت إدارة المهرجان، ورئيس بعثة الاتحاد، «طفلة عادت» من إيطاليا، و«قصر الحمراء على المحك»، إسباني، ويعرض الثلاثاء، ثم «كليو» (ألمانيا) الذي يعرض للجمهور الأربعاء، على أن يختتم المهرجان بفيلم «عاصفة» الفرنسي.

ولوحظ أن الدول المشاركة في المهرجان حرصت على تروّج الأعمال المشاركة، من هذا المنطلق دعا المركز الثقافي الفرنسي والسفارة الفرنسية في ليبيا الجمهور الليبي لحضور الفيلم الفرنسي الذي أخرجه كريستيان دوغواي، وقالا في رسالة للجمهور الليبي: «نحن في انتظاركم لتشاركونا هذه اللحظة السينمائية الاستثنائية».

جانب من افتتاح مهرجان الفيلم الأوروبي في طرابلس (البعثة الأوروبية إلى ليبيا)

وكان رئيس هيئة السينما والمسرح والفنون، عبد الباسط بوقندة، عدّ مبادرة الاتحاد لإقامة المهرجان «خطوة إيجابية في مسار الشراكة بين ليبيا، متمثلة في هيئة السينما والمسرح والفنون، والاتحاد الأوروبي والدول الخمس المشاركة».

وأضاف بوقندة، في كلمة الافتتاح، الذي بدأ الأحد بعرض الأفلام، أن المناسبة «تفتح آفاقاً واسعة في مجالات السينما كواحدة من أهم أنواع التواصل بين الشعوب ومرآة عاكسة لكثير من القضايا الاجتماعية والإنسانية والثقافية التي تسهم بفاعلية في توعية الناس، وتدفع بهم تجاه الارتقاء والإحساس بالمسؤولية».

بوستر فيلم «عاصفة» الفرنسي (السفارة الفرنسية لدى ليبيا)

وخلال مراسم الافتتاح، عُرض فيلم «شظية» الليبي الذي أنتج في الثمانينات، من تأليف الأديب الليبي المعروف إبراهيم الكوني، ويحكي قصة معاناة الليبيين مع الألغام التي زرعت في صحراء ليبيا خلال الحرب العالمية الثانية، وراح ضحيتها كثير من المواطنين في مدن ومناطق مختلفة من البلاد.

وبجانب العروض السينمائية في ليبيا، تُجمّع الفنون في ليبيا عادةً من فرقت بينهم السياسة، ويحشد المسرح على خشبته ممثلين من أنحاء البلاد، كانت قد باعدت بينهم الآيديولوجيات في زمن ما، يحكون جميعاً أوجاعهم عبر نصوص ولوحات إبداعية، ويفتحون نوافذ جديدة للتلاقي والحوار بعيداً عن النزاع والانقسام السياسي.

وسبق أن تعطلت الحركة الفنية المسرحية في ليبيا، مُتأثرة بالفوضى الأمنية التي شهدتها ليبيا عقب اندلاع ثورة «17 فبراير» التي أسقطت نظام الرئيس الراحل معمر القذافي عام 2011. لكن مع الاستقرار النسبي الذي تشهده ليبيا يظل الرهان على الفن في اختبار الانقسام السياسي، الذي ضرب البلاد، لتوحيد الليبيين.