ثنائية القبح والجمال في الزمن العراقي الموحش

«طائر القشلة» لشاكر نوري

ثنائية القبح والجمال في الزمن العراقي الموحش
TT

ثنائية القبح والجمال في الزمن العراقي الموحش

ثنائية القبح والجمال في الزمن العراقي الموحش

يستوحي شاكر نوري روايته العاشرة، «طائرُ القِشلة»، الصادرة عن «دار المؤلف» في بيروت، من خبر صحافي عابر مفاده أنّ إحدى الميليشيات خطفت الفنان المسرحي الشاب كرّار نوشي، وبعد يومين من التعذيب الوحشي، وُجد مقتولاً ومرمياً على رصيف في شارع فلسطين، شرق بغداد، لأنه كان يرتدي ملابس ملوّنة، ويطلي شعره الطويل باللون الذهبي الأصفر، وثمة اتهامات غير مؤكدة بأنه ينتمي إلى جماعة «الإيمو» الذين يتشبّهون بالإناث في سلوكهم ومظهرهم الخارجي اللافت للانتباه. هذه هي الواقعة الوحيدة التي كان يتوفر عليها شاكر نوري حين شرعَ في كتابة هذه الرواية المأساوية التي تناقش بالتتابع ثنائية الخير والشرّ، والنور والعَتَمة، والجمال والقبح، كما تُعرّي الوجه البشع للسلطات الدينية الزائفة التي سببت الخراب والدمار، وأيقظت الفِتن والخرافات والأساطير النائمة لتخلق في خاتمة المطاف كائنات ميليشياوية متوحشة لا تنتمي إلى الإنسانية بأي شكلٍ من الأشكال.
ولكي يتفادى شاكر هذه الواقعة المحدودة، لجأ إلى تأثيث النص السردي بسبع شخصيات إضافية، وهي أستاذ الجماليات في كلية الفنون، وجواد المخرج المسرحي العائد من باريس، وعلاء الصحافي، وهُمام الكُتبي، وريّان المانيكير، وخالد، رسّام البورتريهات، وأصيل، حبيبة غدير، الطالبة في كلية الفنون، وغدير، الممثل المسرحي وراقص الباليه الذي حقّق شهرة كبيرة في الوسط الثقافي والاجتماعي في بغداد.
لا شك في أن البطل المركزي هو «غدير»، لكن المؤلف ارتأى أن تكون حبيبته «أصيل» هي الساردة التي تروي الأحداث بطريقة استرجاعية، بعد أن مرّت عليها 40 سنة، فصارت جزءاً من الماضي البعيد الذي لم ينمحِ من ذاكرتها، بل إنها تتذكر الوقائع بالتفاصيل المملة، وكأنها حدثت قبل ساعات لا غير! لقد استثمر شاكر تقنية الاستعادة الذهنية لكي يتخلص من النسق التصاعدي لعنصرين أساسيين من عناصر المعمار الروائي، وهما الزمن الخطّي، وتطوّر الأحداث، اللذان نلمسهما، في الأعمّ الأغلب، في الرواية التقليدية التي يستبدّ بها بطل واحد، لكن شاكر نوري عوّدنا في رواياته السابقة على الأصوات المتعددة لتتوسع الأحداث بشكل أفقي وعمودي في الوقت ذاته، حيث تكثر المفاجآت، والحكايات، والشذرات القصصية التي تنوّع نسيج النص، وتُخرِجه من إطار الثيمة الواحد، وتُدخِله في إطار الموضوعات المختلِفة، وربما تذهب أبعدَ من ذلك حينما تأخذه إلى التلاقح والتناص مع أقوال الأدباء والفنانين والفلاسفة، وتتناهل معهم، مثل الأواني المستطرقة، التي تصبح في خاتمة المطاف بمستوى فكري واحد لا يتعالى أحدها على الآخر؛ فأستاذ الجماليات كان يُنظِّر وينقل رؤيته الفنية والجمالية عندما يتحدث عن مسرحيتي «نرسيس» و«أدونيس» اللتين قدّمهما غدير بمنظور عراقي بحت، وبتقنيات عالية مشذّبة يندر أن تجدها في الوسط المسرحي العراقي، كما كانت محاضراته وأحاديثه الشخصية ضمن هذه المجموعة الفنية المتمردة هي المعين الذي لا ينضب، والمعيار الذي يحتكمون إليه في النقد والتمييز بين الأفكار الأصيلة والزائفة. وبما أنّ المسرح يهيمن على هذه الرواية، فلا غرابة أن نجد فيها مُخرجاً مسرحياً، مثل جواد، ترك باريس، وعاد إلى بغداد كي يُوقد فيها جذوة المسرح من جديد مؤازراً غدير وأصيل وبقية أفراد هذه المجموعة المثقفة التي تقاتل الوحوش وخفافيش الظلام بمنجزاتها الأدبية والفنية والجمالية، لكنه ينكسر بعد مقتل غدير، ويقرر الهجرة من جديد، وخالد، الرسّام الذي يُمجِّد الجمال ويجعلنا نتلمّسه في لوحاته الفنية، خصوصاً في البورتريهات التي رسمها لغدير لكنه لم يعد قادراً على عرض أعماله الفنية، وريّان المانيكير الذي يُطلي أظافر الشباب، ويصبغ شعورهم بالألوان الصارخة، حرقوا محله، لأن شباب «الإيمو» يتوافدون عليه ليل نهار، وهُمام الكُتبي الذي يُعتقَد بأنه نشر مخطوطة «اعترافات هارب من الميليشيات»، هدّدوه بحرق المكتبة والاقتصاص منه، لأنه نشر غسيلهم القذر، وعلاء الصحافي الذي يتجول في حقول الألغام، ولا يتردد في تعرية الميليشيات، ونشر جرائمها الفظيعة التي حوّلت حياة العراقيين إلى جحيم لا يُطاق قد فجّروا سيارته.
أما غدير فقد خُطِف، وعُذِّب، وقُتِل بطريقة بشعة بسبب مظهره الخارجي، لكنه لم يمت لأنه ظل عالقاً بذاكرة المثقفين العراقيين، والناس العاديين البسطاء الذين ظلّوا بمنجاة عن الفيروسات الطائفية التي جاء بها نفرٌ ضالّ انبثقوا من الكهوف والمغاور المظلمة في لحظات غامضة لا تنتمي إلى الزمن العراقي المعروف بحضاراته القديمة، يوم كانت بغداد حاضرة الدنيا تستقطب العلماء والأدباء والفنانين وتحتضنهم مثل أبنائها، ولا تفرِّق بين وافد وأصيل.
على الرغم من أنّ البطل الرئيسي في هذه الرواية هو غدير الذي انتهى نهاية مأساوية لا تليق به ككائن مبدع ووسيم، انزاحت أصيل من المجموعة المتمردة لتصبح الشخصية الظل التي تنافس غديراً على البطولة، حيث انتقاها شاكر نوري كي تكون الراوية التي تنقل لنا كل صغيرة وكبيرة ولم يفتها شيء من هذا الحدث الجسيم.
ما يميّز هذه الرواية عن غيرها من الروايات التسع لشاكر نوري توظيفها لـ«ميتافكشن» بطريقة سلسة، لأنها جاءت من لُحمة النص وسداته. وقد أشرنا سلفاً إلى أنّ الروائي قد استثمر «الميتاسرد» في الحِكم، والأمثال، والأقوال المأثورة، والمقتبسات من بعض النصوص المسرحية، والإحالات التاريخية، إلاّ أن المبنى الميتاسردي قد تجلى في ثلاثة مواضع: الأولى مخطوطة «اعترافات هارب من الميليشيات»، التي تسلّط الضوء على فتى يتيم مات أبوه في أحد التفجيرات، وأصبحت أمه أرملة، وسوف تصبح مومساً من أجل تأمين احتياجات أسرتها الصغيرة، وحينما يكبر ابنها ينتمي إلى ميليشيا «النجم الساطع»، ويُكلّف بقتل أعضاء جماعة «الإيمو»، ويحصل على لقب قاطع الرؤوس. أما الميتاسرد الثاني، فيتمثل بحكاية «بنت المعيدي» المعروفة في المدن العراقية كلها، وقد أضافت لها المخيلة الشعبية الكثير من التفاصيل التي تقول إن الضابط الإنجليزي نيكسون أراد الزواج من «بنت المعيدي»، لكن الأسرة لم تقبل بهذا العرض، فأرسل لهم شيوخ مدينة العمارة ووجهاءها، فرفضوهم أيضاً، ولم يبقَ أمامه سوى خيار الخطف والهرب إلى لندن. وبما أنّ مخيلة شاكر نوري خصبة، فقد أضاف لهذه الحكاية المتداولة بعض اللمسات الدرامية، حيث قامت الزوجة الأولى للضابط بقتل الطفل الرضيع لبنت المعيدي، الأمر الذي دفع هذه الأخيرة للانتقام حيث قتلت الضابط وزوجته، وهربت متنقلة من بلد إلى آخر، حتى وصلت إلى قريتها أخيراً.
وهناك حكاية ثانية تقول إنها هربت من الطائرة، وعادت إلى الهور، فقام الضابط برسمها في لوحة فنية رائعة تناسلت نسخُها في غالبية المنازل العراقية.
أما التوظيف الميتاسردي الثالث، وهو جديد نسبياً، فيتمثل بملفات «النوتباد» الموجودة في الهاتف الجوال لغدير حيث طلب أصيل من أم المغدور أن تحتفظ بهذا الهاتف، لأنه ينطوي على هذه الملفات التي تعدها جزءاً من ميراثه الروحي حيث دوّن جانباً من ذكريات الحرب، وإسقاط تمثال الديكتاتور السابق، وليالي عاشوراء، والمسرح المتهالك، وحكاية الجواد الأصيل الذي أخذ يجرّ عربة النفط في الأزقة الشعبية، إلى أن نصل إلى الملف الأخير الذي يقول فيه: «إننا نبتكر الليل لكي نحتمي من بطش الآخرين».
لقد نجح شاكر نوري في هذه الرواية شكلاً ومضموناً؛ فالمبنى لا يشبه المباني في رواياته السابقة، والمعنى مختلف تماماً إلى الدرجة التي يهزّ فيها قناعات القارئ، ويدفعه للمشاركة والانفعال بالعمل الأدبي في أقل تقدير.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.