غواية الفن في مواجهة السلطة

خرافة الصورة التي رسمها الغرب المستعمر للشرق واتخذها قناعاً لاحتلاله

غواية الفن في مواجهة السلطة
TT

غواية الفن في مواجهة السلطة

غواية الفن في مواجهة السلطة

تضع الباحثة شذى يحيى الرقص الشرقي بين مطرقة الإمبريالية وسندان الفن في كتابها المهم «الإمبريالية والهِشك بِشك... تاريخ الرقص الشرقي»، الصادر حديثاً عن دار «ابن رشد» بالقاهرة. وما بين المطرقة والسندان تنداح غواية الصورة التي رسمها الغرب المستعمر للشرق، واتخذها قناعاً لاحتلاله لسنوات وعقود طويلة، وهي الصورة نفسها التي انطبعت في دراسات وأدبيات المستشرقين، وروج لها الرحالة الغربيون في كتاباتهم ومذكراتهم، والتي لم تبرح النظرة الاستعمارية.
لكن هل يصلح الرقص إطاراً معرفياً لفهم العلاقة الملتبسة بين الشرق والغرب؟ وهل يشكل مدخلاً للنكش في المهمش والمسكوت عنه في تاريخ هذه الصورة التي طغى عليها السياسي، بصراعاته وتشابكاته المعقدة تاريخياً وجغرافياً، في تلك الحقب الماضية، حتى توارت في الخلفية كمفردة عادية من مفردات التراث الشعبي، وطقوس وأعراف البيئة والحياة الاجتماعية في مجتمعات تهيمن فيها الذكورة على مقدرات الحياة، في مقابل تهميش صورة المرأة، ناهيك من صورة المرأة الراقصة المضطربة المشوشة في الذاكرة والوجدان العام، التي يتهافت عليها الجمهور، لكن حين ينفض المسرح يصفها بأنها مخلوق دوني؟
هذه الصورة والأسئلة الملتبسة في ظلالها تثبتها الكاتبة في مقدمتها للكتاب، ثم تقلب أوجهها على مدار 250 صفحة، وعبر ثمانية فصول، في محاول لاستجلاء وكسر نمطيتها التي ساهمت نظرة الغرب في بلورتها، ووضعها داخل إطار محدد، كعنوان على تناقض وجمود العقلية التي تحكم الشرق: «لم يفكر أحد يوماً أن هذه المهنة كانت -ولفترة طويلة- بمثابة الجسر الثقافي للتبادل المعرفي بين الشرق والغرب، وأن الراقصات كنّ -يوماً ما- هن التمثيل الوحيد للمرأة الشرقية في الذهن الغربي، لأنهن النساء الوحيدات اللائي كان مسموحاً للغربي برؤيتهن في بدايات القرن التاسع عشر، وأن الأثر الذي أحدثه هذا التمثيل ما زال مؤثراً باقياً في الثقافة والوجدان الشعبي حتى يومنا هذا».
والرقص أحد الطقوس الأساسية التي رافقت الإنسان منذ مولده، وجسدته معظم الحضارات الإنسانية على نقوش المعابد، بل ارتبطت رمزيته في الحضارة المصرية القديمة بالخصوبة. كما كان الرقص -ولا يزال- أحد عناصر الفرح والبهجة، خاصة في المناسبات والأعياد الدينية والاجتماعية. ويعد في نظر كثير من الباحثين معجزة الجسد البشري. توضح الباحثة ذلك وترصده، لكنها تذهب أيضاً إلى ما هو أبعد وراء هذه الصورة، فتتناثر على سطح الكتاب شذرات من كتابات لباحثين أجانب وعرب وأدباء وعلماء فلكلور وأنثروبولوجيا ونفس وآثار تناولت الموضوع نفسه، حول طبيعة الرقص الشرقي وبدايته ونشأته.
ترى الباحثة أن التعريف الأشمل من بين هذه الشذرات صكّه الباحثان الأميركيان أنتوني شاي وباربرا سيلر يونج، وهو أن الرقص الشرقي «عبارة عن منظومة من الرقصات يعود منشأها في الأساس لشمال أفريقيا والشرق الأوسط، ولها جذور وأصول في وسط آسيا، وتم تهجينها وتطويرها في الولايات المتحدة وأماكن أخرى من العالم، وأصبحت جزءاً من الأداءات الراقصة الخاصة والعامة في القرى والمدن، والحواضر والمجتمعات المدنية، والملاهي والمسارح، والإنترنت على مستوى العالم».
ورغم ذلك لم يسلم تاريخ الرقص الشرقي من النفاق والسياسي، وهو إحدى العقد والفواصل التي صنعتها السياسات الاستعمارية والتحولات المجتمعية الهجين المضطربة التي فرضت هذه النمط كحل للتعايش والتكيف مع سلطات جائرة قمعية. وهو ما توضحه الباحثة في الفصل الثاني من الكتاب «من الغوازي والعوالم إلى الرقص الشرقي»، مشيرة إلى أنه في خضم الحرب العالمية الثانية عام 1941، أطلقت الراقصة المصرية شوشو البارودي على الرقص التي تؤديه «الرقص من أجل الحلفاء ونجاح الديمقراطية»، وهو شعار سياسي اتخذته قناعاً ترضي من خلاله عساكر الجيش البريطاني في أثناء إجازاتهم للترفيه، بعيداً عن جبهات القتال. والمعروف أن مصر الخاضعة للاحتلال البريطاني آنذاك قد انضمت إلى الحلفاء في تلك الحرب.
ويطفو على السطح مصطلح «ما بعد الكولونيالية»، مشكلاً بتعريفاته الملتبسة في الثقافة العربية وفي حقول المعرفة نقطة وصل محورية في القطيعة المعرفية لما قبل الاستعمار وما بعده، يوازيها معرفياً الانتقال من طور الحداثة إلى ما بعدها، ومن ثم انتقال الرقص كأداة للهو والترفيه من فضاء الشوارع والحارات والحيز الضيق، حيث عالم الغوازي والعوالم، إلى فضاء المسرح والفن، ليتحول الجسد إلى سلطة ومركز ثقل وتوازن بين الواقع والخيال، بين الحرية وطرائق تشكلها، ولو بدبيب الأقدام والأذرع، ومعانقة الفراغ.
ترصد شذى يحيى ملامح وأبعاد هذا الانتقال، بكل تداعياته ومحمولاته السياسية والفكرية والثقافية، ومدى انعكاسه على ذاكرة الغرب، وحزمة الصور الاستشراقية النمطية المعتادة، ومساراتها التي تنوعت أيضاً بتنوع الأقنعة ومسارات الأمكنة والأزمنة، بحثاً عن أسلس الطرق لجلب المصالح والمنافع للغرب، خاصة في الدول التي غادرها بصفته مستعمراً، لكنها لم تنفك عن الدوران في فلكه.
ويحضر إدوارد سعيد، وكتابه المؤسس «الاستشراق»، وأيضاً تحضر ظلال لكتابه «الثقافة والإمبريالية»، لفهم العلاقة بين الغرب والشرق، في إطار جدل المعرفة والسلطة، وكيف تحول الاستشراق إلى دوائر نفوذ لخدمة السياسات الاستعمارية، وتصوير الدول الخاضعة لسطوتها على أنها مجرد كائنات كاريكاتورية متخلفة همجية مثيرة للرعب والعنف.
كما ترصد ما كتبه إدوارد سعيد نفسه عن الراقصة تحية كاريوكا، حيث عدها أيقونة ثقافية ورمزاً من رموز اليسار المصري، وهي كتابات التي لا تخلو من المبالغة، بينما يبرز الرقص كساحة متعة مراوغة لفهم الفجوة بين الغرب والشرق... «الرقص الشرقي هو الحالة التي ربما تكون الوحيدة التي حاكي فيها الشرق الرؤية التي اخترعها المستشرق. فالرقص الشرقي هو واحد من أهم نجاحات الاستشراق التي يسميها إدوارد سعيد إنقاذ حادثة من النسيان، وهو ما يعادل في ذهن المستشرق تحول الشرق إلى مسرح للصور التي يرى الغرب أنها تمثيل حقيقي للشرق». وهي الحالة نفسها -بحسب الكتاب- التي كتبها جيفروا سانت هيلير في كتاب «وصف مصر»، لافتاً إلى التناقض الصارخ مع عادات الأمم الأوروبية «حيث تؤكد المتع والملذات الغربية للشرقيين مدى اتزان وعقلانية العادات الغربية».
وكما حصرت شذى يحيى جذور هذه النظرة في عنصرين تراثيين محددين، هما: كتاب الليالي (ألف ليلة وليلة) الذي تمت ترجمته إلى أوروبا في فترة مبكرة، و«الكتاب المقدس» الذي استقى منه الكاتب الفرنسي أوسكار وايلد رائعته المسرحية الأشهر «سالومي»، فإنها أيضاً تحدد أربعة عناصر ترى أنها ساهمت في تسويق صورة الرقص الشرقي في المعارض الغربية على أنه شيء غامض غريب ساحر غير معروف لأوروبا، ومن بين هذه العناصر «أن جسد المرأة الشرقية القادمة من المستعمرات يحمل إشارات أكثر إيروتيكية وجنسية للمشاهد الأوروبي والأميركي، فجسدها هو الأصلح للتعري، بل هو الأحق بأن يُعرى، كونها تنتمي لنساء الشرق الشهوانيات الفاسقات اللائي يُحجبن بالملابس والأسوار لضمان السيطرة على شهواتهن، وأنه طبقاً لموازين القوة، يحق للرجل الأبيض استثارة خياله، وجعل جسد المستعمر المقهور (على الأخص المرأة) محطاً لتصوراته الإباحية، كشكل من أشكال هيمنته».
ومن هنا، حولت هذه النظرة جسد الراقصة الشرقية إلى ما يشبه المستعمرة، وإلى أرض مستباحة لا يحق لأحد أن ينازع الرجل الأبيض المستعمر في الاستيلاء عليها، بل تحويلها إلى ملكية خاصة.
ولم يسلم عدد من الراقصات الشرقيات -كما يوضح الكتاب- من هذه النظرة، حتى بعد أن غادرن بلادهن، واستوطن مدناً أوروبية وأميركية، حيث ظلت هذه النظرة الدونية المتغطرسة تحاصرهن، وتطفئ ما حققنه من توهج وشهرة، مثل الراقصة المصرية فريدة مظهر التي هاجرت إلى أميركا، وعاشت في مدينة شيكاغو، وتزوجت من يوناني صاحب مطعم، حيث استغلتها شركة للدعاية ضمن أخريات للترويج الرخيص تحت اسم «مصر الصغيرة».
ويحمل الكتاب مخزوناً ثقافياً ومعرفياً خصباً لافتاً، توسعه الباحثة بشكل حيوي من فصل إلى آخر، لنرى صورة الراقصة الشرقية من الداخل والخارج معاً، تارة بعيون السينما والفن التشكيلي الاستشراقي، الذي بلغ أوجه في الرسومات المصاحبة لكتاب «وصف مصر» الذي أعده العلماء الفرنسيون المصاحبون لحملة نابليون بونابرت، ولاحقاً في الصور الفوتوغرافية، وفي علاقة الرقص بالمسرح، وتطور زي الراقصة الشرقية من نسج اليد حتى وصل إلى عصر «الآرت نوفو»، وكيف حافظت على مظهرها في الإغراء وإثارة الشهوة، وأيضاً علاقة الرقص بالأدب، عبر نموذجه الأشهر متمثلاً في مسرحية «سالومي» لأوسكار وايلد، التي استمدها من عدة أسطر في إنجيل القديس بطرس، وصارت علامة على الراقصة الشرقية النزقة، والهوس بسحر الشرق وغرائبيته.



كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية
TT

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية

اشتهر كارل فون كلاوزفيتز، كبير فلاسفة الحرب في الغرب، بملاحظته أن الحرب امتداد للسياسة، كما أشار إلى نقطة ثانية، وهي أن الحرب تابعة للسياسة، ومن ثم فهي تتشكّل من خلالها، مما يجعل «تأثيرها ملموساً حتى في أصغر التفاصيل العملياتية».

نحن نرى هذا اليوم في الشرق الأوسط، حيث قد تسترشد محاولات إنقاذ الرهائن الفتاكة، والاغتيالات الكبرى، كتلك التي أودت بحياة حسن نصر الله زعيم «حزب الله»، بنقاط سياسية بقدر ما تسترشد بالرغبة في إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. وعلى الجانب الآخر من المعادلة، يبدو أن أحدث سرب من الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي انفجر معظمها من دون ضرر فوق إسرائيل، كان عملاً من أعمال المسرح السياسي الذي يهدف في المقام الأول إلى رفع المعنويات على الجبهة الداخلية.

من المفيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وآية الله علي خامنئي من إيران، ناهيكم عن الرئيس الأميركي المقبل، أن يقرأوا كتاب جفري فافرو «حرب فيتنام: تاريخ عسكري» (652 صفحة، دار «بيسك بوكس» للنشر).

إنه يُلقي أفضل نظرة عامة على المغامرة الأميركية في جنوب شرقي آسيا، ومن المؤكد أنه سوف يصبح كتاباً معيارياً عن تلك الحرب، وبينما نتابع المعاناة الجارية في الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يقدّم لنا أيضاً دروساً قوية بشأن المخاطر المترتبة على شن حرب مفتوحة من دون إستراتيجية حقيقية.

تركّز أغلب كتب التاريخ عن حرب فيتنام على الدبلوماسية والسياسة في الصراع، بالعودة إلى العمليات العسكرية للأحداث الرئيسية فقط، مثل هجوم «تيت» ومعركة مدينة «هوي»؛ إذ يتبع واورو، المؤرخ في جامعة نورث تكساس، نهجاً أكثر تنويراً.

ووفقاً لرأي فافرو، كان التدخل الأميركي في فيتنام بمثابة درس كبير في كيفية تجنّب شنّ الحرب، وقد أدى الاعتقاد الطائش في فاعلية القوة النارية المحضة، إلى حملات القصف الأميركية المدمِّرة التي كما يقول واورو: «أدّت إلى إحراق سُبع أراضي جنوب فيتنام» و«خلقت خمسة ملايين لاجئ داخلي»، على أمل دفع قوات «فيت كونغ» الفيتنامية إلى العراء، ورفض الخصم الشيوعي القتال بهذه الطريقة، بل كانوا يشتبكون سريعاً، ثم ينسحبون عندما يردّ الأميركيون بوابل عنيف من نيران المدفعية والغارات الجوية. في الأثناء ذاتها، كلما حاول الرئيس ليندون جونسون - الذي لم يدرس مبادئ كلاوزفيتز - فصل الحرب عن السياسة، بالكذب بشأن تكاليفها ورفض تعبئة الاحتياطي العسكري؛ صارت الحرب أكثر سياسية، وهيمنت على الخطاب الأميركي، ثم عصفت به خارج الرئاسة.

لم يكن أداء أميركا أفضل مع الهجمات المستهدفة، وكما هو الحال مع أجهزة البيجر المتفجرة التي استخدمتها إسرائيل، فإن برنامج «فينكس» من إعداد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاغتيال أعضاء «فيت كونغ» قد «ركّز على (القبض أو القتل)»، كما كتب واورو، وأدى إلى سقوط ضحايا أبرياء، كما أنه لم يؤدِّ إلى الاقتراب من نهاية الحرب؛ لأن البرنامج بأكمله كان مبنياً على «أرقام ملفقة»، كما يوضح المؤلف، «وليس على الواقع الحقيقي»، وكان البرنامج عبارة عن طريقة أخرى لقتل الناس من دون فهم الحرب.

جعلتني قراءة التاريخ الرائع الذي كتبه فافرو أفكّر في نتيجة لازمة جديدة لنظريات كلاوزفيتز: كلما كانت الاستراتيجية أقل تماسكاً في الحرب، أصبحت أكثر تسييساً، دخلت الولايات المتحدة الحرب لأسباب سياسية ودبلوماسية غامضة (الظهور بمظهر الصرامة أمام خصوم الحرب الباردة ليس نهاية المطاف). بعد عقدين من الزمان كان الغزو القصير والفوضوي لجنوب «لاوس» من قِبل القوات البرّية الفيتنامية الجنوبية والقوة الجوية الأميركية بمثابة «مسرحية سياسية، وليس حرباً»، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1972، لم تكن هناك نهاية في الأفق، وكان الدافع وراء الهجوم هو رغبة الرئيس ريتشارد نيكسون في جعل الأمر يبدو وكأن فيتنام الجنوبية تتولّى زمام الأمور في القتال، وبدلاً من ذلك، زاد من زعزعة استقرار المنطقة، ولم يفعل شيئاً يُذكر لقطع خطوط إمداد العدو.

لحسن الحظ، خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة السياسة لخدمة المجهود الحربي بدلاً من العكس، وإن لم يكن الجميع يرَون الأمر على هذا النحو. في كتاب «أميركا أولاً: روزفلت ضد ليندبيرغ في ظل الحرب» (444 صفحة، دار «دوبلداي للنشر»)، يُصوّر إتش دبليو براندز، نجم الطيران الشهير تشارلز ليندبيرغ، الذي تحدث عن النزعة الانعزالية في البث الإذاعي الوطني، بوصفها أمراً ساذجاً، ولكن صادقاً، في حين يُصوّر الرئيس فرانكلين روزفلت بأنه مخادع بشكل ملحوظ في جهوده لدفع الولايات المتحدة إلى الحرب.

لكن في الواقع، كان فرانكلين روزفلت هدفاً كبيراً لهذه التهمة؛ إذ تعهد الرئيس أثناء حملته الانتخابية للفوز بولاية ثالثة غير مسبوقة، قائلاً: «لن يُرسَل أبناؤكم إلى أي حروب خارجية»، وكان جيمس، نجل روزفلت، يتساءل عن سبب اتخاذ والده هذا الموقف، فقال والده موضحاً: «جيمي، كنت أعلم أننا ذاهبون إلى الحرب، كنت متأكداً من أنه لا يوجد مخرج من ذلك، كان لزاماً أن أثقّف الناس بشأن الحتمية تدريجياً، خطوة بخطوة»، ربما يكون هذا مخادِعاً، لكن هذه السياسة ساعدت الأميركيين على المشاركة في المجهود الحربي، كان كلاوزفيتز ليفخر بذلك.

في الوقت نفسه، عندما يرفض ليندبيرغ الدعوة إلى هزيمة ألمانيا في أواخر يناير (كانون الثاني) 1941، يُعيد إلى الأذهان رفض دونالد ترمب دعم المعركة الأوكرانية ضد العدوان الروسي، ويلاحظ براندز، وهو مؤرخ في جامعة تكساس فرع أوستن، ليونةَ ليندبيرغ إزاء ألمانيا النازية، ولكن - في رسم صورة متعاطفة للرجل - يستبعد عديداً من التفاصيل التي تظهر في كتب أخرى، مثل السيرة الذاتية تأليف «إيه سكوت بيرغ»، الفائزة بجائزة بوليتزر لعام 1998.

لا يذكر براندز، على سبيل المثال، أن ليندبيرغ رفض في مايو (أيار) 1940 الحديث عن مخاطر انتصار النازية، بوصفه «ثرثرة هستيرية»، أو أنه، في العام نفسه، ألّفت زوجة الطيار آن مورو ليندبيرغ كتاب «موجة المستقبل»، وفيه جادلت بأن العهد الجديد ينتمي إلى أنظمة استبدادية، وكان ذلك الرجل يحمل مثل هذه الولاءات المُرِيبة حتى بعد بيرل هاربر، كما قال ليندبيرغ (في تصريحات أغفلها براندز أيضاً): «إن بريطانيا هي السبب الحقيقي وراء كل المتاعب في العالم اليوم».

إن مثل هذه الإغفالات تجعل كتاب براندز يبدو وكأنه مُوجَز متحيّز إلى ليندبيرغ أكثر من كونه كتاباً تاريخياً نزيهاً. كتب براندز يقول: «لقد أصاب ليندبيرغ كثيراً في حملته ضد الحداثة، لكنه أخطأ في أمر واحد كبير- فهو لم يرَ أن الأميركيين كانوا على استعداد للتدخل في الصراعات الخارجية». وأودّ أن أزعم أن ليندبيرغ كان مخطئاً أكثر من ذلك؛ فقد عبث بمعاداة السامية، وهو شيء ينتقص براندز من أهميته، وعلى نحو مفاجئ بالنسبة لطيار شهير، لم يكن يبدو أن لديه الكثير من البصيرة في دور القوة الجوية في الحرب، وحتى في القراءة الأكثر تعاطفاً، لا بد أن كلاوزفيتز كان ليحتدم غيظاً.

الجنرال البروسي العجوز هو موضوع تحليل جديد لاذع، وربما شديد التحريض من ناحية «أزار غات»، المؤرخ الفكري في جامعة تل أبيب. في كتابه «أسطورة كلاوزفيتز: أو ملابس الإمبراطور الجديدة» (228 صفحة، دار «كرونوس للنشر»)، يزعم غات أن كتاب كلاوزفيتز «عن الحرب» مؤثر بصورة رئيسية؛ لأنه مُحير للغاية. ويَخلُص إلى أن «الكثير من سمعة الكتاب تستند إلى سوء فهم دائم لما يعنيه في الواقع».

هناك في الأساس اثنان من كلاوزفيتز؛ الأول ألّف في وقت مبكر من حياته المهنية الكثير من كتب «عن الحرب»، بينما يسعى إلى فهم انتصارات نابليون السريعة والساحقة على بروسيا، والآخر كان يحاول بعد سنوات رسم مسارٍ لاستعادة بروسيا مكانتها في أوروبا، ولكن بدلاً من تأليف كتاب ثانٍ، كما يقول غات، عاد الضابط البروسي ونقّح كتاب «عن الحرب» بطرق تتناقض على نحو جَلِيّ مع بعض الأجزاء الأسبق من نفس الكتاب. بدأ كلاوزفيتز بكتابة أن النصر يعتمد على هزيمة سريعة للعدوّ في معركة كبيرة واحدة. وفي وقت لاحق أدرك أن العديد من الأطراف الفاعلة، سيما الأضعف منها، قد يكون لديها سبب لإطالة أمد القتال. وشرع في التنقيح، لكنه لم يكن لديه الوقت لعلاج هذا التضادّ قبل وفاته عام 1831.

وبينما كنت أقرأ كتاب غات، ظللتُ أفكّر في أنه لم يدرك النقطة الأكثر أهميةً؛ قد تشوب الأعمال الكلاسيكية حالة من النقص إلى حد بعيد؛ إذ تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات، وهو ما كان بمثابة طريق أكثر أماناً للاستمرار عبر الزمن. في الواقع، كانت واحدة من أشهر ملاحظات كلاوزفيتز تتعلّق بطرح الأسئلة، وهو يقول إنه قبل أن تتصاعد أعمال العنف يجب على القادة المفكرين أن يسألوا أنفسهم: ما نوع هذه الحرب؟ وما الذي تريد أمّتي تحقيقه؟ وهل يمكن أن تحقّق ذلك فعلاً؟

هذه اعتبارات جيدة. إن مواصلة حرب استنزاف لا نهاية لها، سواء في جنوب شرقي آسيا، أو في الشرق الأوسط، من غير المرجّح أن تؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى والموت، وعلى نحو مماثل، لو تعامل قادة أميركا بجدّية مع نهاية المسألة قبل غزو فيتنام، ناهيكم عن العراق أو أفغانستان، ربما كانت حروبهم لتسير على نحو أفضل كثيراً، أو ربما لم تكن لتحدث على الإطلاق.

-------------------

خدمة: «نيويورك تايمز».