«سلالم ترولار» رواية الواقع الموازي الذي يتجاوز الخيال

من روايات القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية

«سلالم ترولار» رواية الواقع الموازي الذي يتجاوز الخيال
TT

«سلالم ترولار» رواية الواقع الموازي الذي يتجاوز الخيال

«سلالم ترولار» رواية الواقع الموازي الذي يتجاوز الخيال

ثمة روايات كثيرة تحلّق في الخيال، لكنها تنطلق من الواقع أو تتلاقح معه لتشيّد واقعاً موازياً لا يمكن قراءته إلا بشكل مجازي من دون التفريط بمعطياته الحقيقية التي قد تستدعي نظيراً للبطل المركزي أو أي شخصية مُساندة في النص السردي. ورواية «سلالم ترولار» لسمير قسيمي الصادرة عن «منشورات المتوسط» بميلانو التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية هي من هذه الروايات الإشكاليّة التي تعتمد كلياً على فكرة بناء «الواقع الموازي» الذي يمتحّ كثيراً من الخيال، لكنه يظل متشبثاً بالواقع الآسيان الذي ينتقده، ويمعن في رسم صورته الممسوخة التي شوّهها القادة المؤلَهون الذين هبطوا من الأعالي وهيمنوا على شعوبهم بسياسة الكذب والتضليل والإيهام.
تنحصر ثيمة الرواية باختفاء الأبواب والنوافذ من العاصمة التي يُرمَز لها بـ«المدينة الدولة» فتُنهَب البيوت والثُكنات والمحال التجارية والمباني الحكومية ولم يصمد منها إلا قصر الحكومة، كما يفرّ السجناء من سجونهم ومعتقلاتهم فيختلط الحبال بالنابل، لكن ما إن يستردّ الكاتب موهبته مباشرة بعد قراءته رسالته المتأخرة خمس سنوات حتى يشرع بالكتابة فتعود الأبواب والنوافذ إلى أماكنها وينحسر ضجيج الشارع لينعم بالهدوء والسكينة ثانية. ومثلما يكمن الشيطان في التفاصيل، فإن أهمية هذه الرواية تكمن في ثيماتها الفرعية التي تؤثث المتن السردي الذي يروي قصة كل شخصية على انفراد سواء في واقعها الحقيقي أو في الواقع الموازي الذي صنعتهُ مخيّلة الروائي سمير قسيمي.
يشتمل الفصل الأول من الرواية على الشخصية المركزية جمال حميدي كما يضع بين أيدينا الخيوط الخفيّة لشخصية أولغا التي تنطوي على بضعة أسرار تتكشف تباعاً، إضافة إلى موح بوخنونة وإبراهيم بافولولو، واثنين متشابهين يدّعي أحدهما أنه شقيق إبراهيم، الذي وافته المنيّة، وجاء لكي يأخذ كل ما له علاقة بتجارته وملابسه التي وضعتها أولغا في محفظة وثلاث حقائب. ولكي نمهّد الطريق إلى القارئ لا بد من القول بأنّ حورية التي سيُطلق عليها اثنان اسم «أولغا» قد وُلدت لأبوين مجهولين ثم تبنّاها السيد إبراهيم بافولولو ومنحها لقبه، وبعد ثلاث سنوات تأكدّ بما لا يقبل الشك أنها مُصابة بالبَرَص، لكن ذلك لا ينفي أن الدماء التي تسري في عروقها هي دماء نبيلة تجعل منها إلهة أو نصف إلهة على أقل تقدير.
لم تكن أولغا جميلة لكنّ المُضّلِلين جعلوها كذلك وأولهم جمال حميدي، كما أغدقوا عليها لقب الشاعرة وهي أبعد ما تكون عن الشعر لأنها غير موهوبة أصلاً، وحينما يقع الحادث المروّع والأليم لجمال حميدي ويُصبح مُقعَداً ونصف عَنِّين تطلّقه وتتركه لحال سبيله، فهو بوّاب رفض طوال أكثر من عشرين عاماً أي نوع من الترقية لأنه كان معتزاً بهذه المهنة التي لا تكلّفه سوى النظر إلى وجوه الداخلين والخارجين إلى مبنى وزارة الثقافة والتلصص عليهم، وقد درّب حاسته السمعية حتى بات يمتلك ذاكرة صوتية مُرهفة يميّز فيها أصوات البشر والحجر والشجر والحيوانات الأليفة التي تقترب من الوزارة أو من محل سكناه.
ينتمي إبراهيم بافولولو إلى جماعة اللامرئيين الذين لا ينتبه إليهم أحد، وهو أصلاً بلا أصدقاء مكتفياً بذاته وابنته حورية التي عادت إلى اسمها الحقيقي بعد أن تخلّت عن اسم أولغا الذي حصلت عليه لأنها تشبه النساء الروسيات في البياض وقوّة الجسم. ثمة أفكار مهمة في الفصل التمهيدي، من بينها ابتكار مُواطن بلا رأس، تحتل بطنه مساحة أكبر من جسده يتمتع بكل الحقوق من بينها سكن بلا مُقابل، وظيفة بلا مؤهلات، علاج مجاني وربما يكون إبراهيم أنموذجاً «للرجل - البطن».
يحتل الكاتب أهمية خاصة في هذه الرواية رغم أنه يبيع كتاباته كي يؤمّن هاجس العيش، فقد أنجز سبع روايات وباعها إلى «الرجل صاحب اسمه»، وبقي هو متخفياً ومجهولاً. وحينما ننبش في تاريخه الشخصي نكتشف أن أمه قد ماتت قبل سبعة أعوام ثم انصرف إلى حياته الخاصة حيث أحبَّ، وتزوّج، وأنجب، وكتب روايات، وسافر إلى الخارج، لكن الظاهرة الفارقة في حياته الإبداعية أنّ الكتابة ارتبطت لديه بالوحدة والانطواء. ولو دققنا في بعض التفاصيل فسوف نكتشف أنها لا تختلف عن تفاصيل الروائي سمير قسيمي نفسه، فكلاهما انتقل من الريف إلى وسط العاصمة، كما أنهما في السنّ نفسها تقريباً، ولعل الاثنين يخشيان انطفاء وهج الموهبة.
بعد أن اختفت الأبواب والمنافذ في العاصمة كلها هبّ مواطنون «بلا رؤوس» من الذين ابتكرتهم الحكومة حديثاً وذهبوا إلى جمال حميدي بوصفه عميد البوّابين، وأهمّ رجل في المدينة الآن فأخبرهم: «انتابني اليوم شعور غامض بحدوث الأمر»، وخطب فيهم لساعتين من دون أن يأتي على ذكر الأبواب والنوافذ المتوارية، فمواطنو «المدينة الدولة» لا يحتاجون إلى إجابات وإنما إلى رجل يُوهمهم بأنه يملك تلك الإجابات التي تخدّرهم وتجعلهم يشعرون بالخط الوهمي الذي يفصل بين عالمهم وعالم الأوغاد. اقترح جمال تشكيل أبواب بشرية تحول بين الآلهة والهمج الراغبين في اقتحام قصر الحكومة.
لا بد من الإشارة إلى أنّ الكاتب اقتنى من بائع جوّال صورة لرجل زنجي وظل يفكر فيه، ومع ذلك بدأ يكتب بلا توقف ولا يعود إلا برواية كاملة يبعثها إلى الرجل صاحب اسمه. ورغم رواياته السبع يشعر بأنه ليس كاتباً وإنما مجرد رجل تعثّر بالكلمات.
تتشكّل الانعطافة الأساسية في حياة جمال حميدي حينما يدعوه «الرجل الضئيل» ويخبره بأنه معجب بجرأته حين يقف أمام الكاميرا ويُوهم الناس بأنه يملك حلولاً لمشكلاتهم، فهو بخلاف السحرة والمشعوذين ورجال الدين قادر على أن يصدّق خِدَعهُ وأوهامه، لكنه يحتاج إلى شخص مثل «الرجل الضئيل» كي يدّربه على عدم قول الحقيقة من دون أن يكون كذّاباً فيخصص له ثلاث ساعات يومياً ويعلِّمه كل حِيل السياسة ودروبها، فالشعوب تفضّل دائماً أن تعيش في واقع موازٍ يُوهمها بالقدرة على تحقيق مصيرها.
كلما يتقدّم الكاتب في روايته يتراجع ضجيج الشارع وتظهر الأبواب والنوافذ تباعاً في شقته ذات الغرفتين المحتفيتين بعزلته، وبعد عشرين يوماً تستعيد المدينة أبوابها ونوافذها المختفية بينما تُشارف روايته الجديدة على الانتهاء، غير أن الرجل صاحب اسمه لا يردّ على مكالمات الكاتب ورسائله البريدية. وفي الوقت ذاته تعلن نشرات الأخبار عن قبول السيد جمال حميدي بتسيير الدولة لحين انتخاب رئيس جديد. يسقط حميدي من كرسيّه في حضرة الرجل الضئيل الذي بقي مستمتعاً بمشاهدته وهو غارق في عجزه. ينتقم الرجل الضئيل من عصام كاشكاصي شرّ انتقام حينما جعله يعيش على الهامش، لكنه يعترف بأنه ظل عصياً على الموت. أما جمال حميدي فقد أعاد أولغا إلى عصمته بينما تمكّن سكّان المدينة الدولة من استبدال وصفهم «الغاشي» بالشعب الذي استحقوه عن جدارة. أما الكاتب الذي اقتنى صورة الزنجي غريجا فسوف نكتشف في خاتمة المطاف أنها وجه الكاتب نفسه الذي قرّر أن يكتب اسمه الحقيقي على الرواية التي تحمل عنوان «سلالم ترولار» لمؤلفها سمير قسيمي.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!