لوغانو... مناخ لطيف ومطبخ متوسطي ودقة سويسرية

أهلها يتحدثون بلغة دانتي ويعيشون على الطريقة الإيطالية

TT

لوغانو... مناخ لطيف ومطبخ متوسطي ودقة سويسرية

تطل على نهر لوغانو الشهير من كلّ الروائع والمكارم الطبيعية التي حبا الخالق بها سويسرا من جبال شاهقة تكلّلها الثلوج وغابات على امتداد النظر وبحيرات منثورة بسخاء بين مراعيها الخضراء، لم يمنحها نعمة الإطلال على البحر الذي قال عنه مؤخراً أحد أطبائها المشهورين بأنه أفضل وأرخص دواء في العالم.
لكن ثمّة بقعة في هذه البلاد، على مقربة من الحدود الإيطالية، حيث بإمكانك أن تشعر بأنك تعيش على ضفاف المتوسط، تنساب فيها الحياة على وقع ما هو شائع على ضفافه وسائد من عادات بين أهله. إنها مدينة «لوغانو»، العاصمة الاقتصادية لإقليم «تسّينو» السويسري، التي لا يتحدّث أهلها سوى بلغة دانتي ويعيشون على الطريقة الإيطالية.
تقع هذه المدينة عند سفح جبل «سان سالفاتوري» مطلّة على واحدة من أجمل البحيرات في سويسرا والعالم. أول ما يعتريك من شعور هنا أنك أمام بطاقة بريدية أو لوحة زيتية، ومن المستحسن أن تخصّص الوقت الكافي للتمتّع بهذا الجمال الطبيعي الفائض، والنادر، الذي يزيده تألقاً الذوق المعماري الرفيع والنظافة التي هي من سمات أهل هذه البلاد. وتكفيك دقائق من التأمل في هذه المشاهد، كي تدرك أن هذا المكان ليس لأن تقضي فيه ساعات أو أياماً، بل لتمضي فيه العمر كلّه لما يجمع من مناخ لطيف ومطبخ متوسطي وتنظيم على الطريقة السويسرية.
زيارتي الأخيرة لهذه المدينة اقتصرت على نهاية أسبوع أعتقد أنها تكفي لتذوّق نكهة الحياة فيها والاستعداد للإدمان على مفاتنها.
يبدأ النهار في العاشرة صباحاً بفطور في «المقهى الكبير» المطلّ على الميناء Grand Café Al Porto الذي لم يغلق أبوابه منذ افتتاحه في عام 1803، والذي ما زال المقصد المفضّل للفنّانين وأهل الفكر والأدب والسياسة، والبورجوازية التي يجذبها هذا النمط الهانئ من الحياة.
في الطابق الأول من هذا المقهى يوجد الصالون الفلورانسي، الذي كان في الماضي قاعة الطعام الرئيسية في الدير الذي قام في المبنى منذ تشييده في القرن السادس عشر حتى أوائل القرن السابع عشر. هنا، في هذه القاعة التي هي أقرب إلى المخبأ، تدرك لماذا وقع الاختيار عليها لعقد الاجتماعات السريّة بين الأميركيين والنازيين عند قرب نهاية الحرب العالمية الثانية فيما يعرف بعملية «الفجر». لكنك اليوم ستنسى كل المكائد أمام قطعة الحلوى التي يقدّمها لك هذا المقهى حسب الوصفة التي كان يعتمدها الرهبان في ذلك الزمان.
على بعد خطوات من هذا المقهى يقوم آخر لا يقل عنه جمالاً وعراقة، هو مقهى «فانيني» الذي يقال إن الشوكولاته الساخنة التي يقدّمها منذ عام 1871 هي الأفضل في سويسرا. وللذوّاقين المرهفين، أنصحهم بعدم مغادرة هذه المدينة قبل تذوّق جبنة Alpe Piora المصنوعة من حليب الأبقار التي ترعى في وادي «ماجي» على علو 2000 متر عن سطح البحر.
من هناك ننتقل إلى مبنى البلدية الجميل الذي يعود لعام 1845، والذي يستحق زيارة ضمن جولات منظمة برفقة دليل يشرح تاريخ هذا المبنى الحافل بالمفاجآت. ومن المبنى نتجّه إلى شارع Nassa - تعني شبكة الصيد بالإيطالية - إذ كانت المدينة في الماضي قرية للصيّادين على ضفاف البحيرة. وهو من أجمل شوارع المدينة، محفوف بالقناطر القديمة ويزخر بالمتاجر الفخمة والمطاعم الفاخرة والحوانيت التاريخية.
الهندسة المعمارية حاضرة بقوّة في لوغانو، خاصة بعد أن أقام فيها المهندس الإيطالي الشهير مايوبوتّا أكاديميته المعروفة التي يتهافت عليها كبار المهندسين العالميين، وشاركوا معه في تصميم عدد من المباني التي تفاخر بها هذه المدينة. ولعلّ أجمل أعماله هنا هي محطة حافلات النقل العام التي يغطّيها هيكل معدني تتبدّل ألوانه في الليل حسب الفصول: البنفسجي في الشتاء والأبيض في الصيف والأزرق في الربيع والوردي في الخريف.
عند نهاية شارع «ناسّا» يقوم مركز الثقافة والفنون، وهو أقرب إلى المختبر التفاعلي الذي ينظّم أنشطة إبداعية للزوّار في الرسم والنحت والتصوير وفنون أخرى عديدة، بعد أن كان متحفاً عالمي الشهرة يضمّ أهم مجموعة خاصة من اللوحات التي يملكها البارون تيسّن والتي نقلتها أرملته إلى مدريد في عام 1990.
من المباني التاريخية الجميلة أيضاً فيلّا «تشياني» التي تعتبر من روائع الهندسة المعمارية وإحدى أساطير ما يعرف بالزمن الجميل، ومبنى المكتبة العامة الذي يجمع بين عراقته من الخارج وأحدث الوسائل التكنولوجية التي يضمّها في الداخل.
حان موعد الغداء الذي يمتدّ هنا، بعكس المدن السويسرية الأخرى، حتى الثالثة بعد الظهر، والذي يُستحسن أن نختار له أيّاً من المطاعم المحيطة بالسوق الشعبية التي يعرض فيها المزارعون من القرى والمزارع المجاورة منتوجاتهم الطازجة التي تتزوّد بها المطاعم القريبة.
نترك لفترة بعد الغداء زيارة متحف Hermann Hesse، أشهر الذين سكنوا هذه المدينة، حيث جاءها في عام 1919 ولم يغادرها حتى وفاته في عام 1962. إنه من أجمل المتاحف المخصصة لكبار الكتّاب، يستعرض حياة المؤلف الغنّية في هذه البلاد حيث كان محور حركة ثقافية وفنّية نشطة، وإنتاج غزير أوصله إلى جائزة نوبل في عام 1946. ولعلّ أجمل ما في هذا المتحف الغرفة المخصصة للشواهد على الصداقة الوطيدة التي ربطت «هسّيه» بالكاتب والمفكّر الكبير توماس مان، والتي تلخّصها تلك الجملة التي كانا يتبادلانها في رسائلهما خلال السنوات الأخيرة من حياتهما: (أرجوك ألا تموت قبلي).
بعد زيارة المتحف التي لا بد أن تترك أثراً في نفوس محبّي الأدب والمطالعة، وتدفع بهم إلى التأمل، اقترح نزهة على ضفاف البحيرة إلى أن يحين موعد العشاء. عندها أنصح بالتوجّه إلى مطعم «بوتّيغوني»، في شارع ماسّيميليانو ماغاتّي، حيث إن حالفك الحظ ورأيت على لوحة الأطباق اليومية المعروضة عند مدخله عبارة «أرز بالزعفران»، عليك أن تتخلّى عن أحمالك وهمومك وتتّخذ لك مقعداً وراء إحدى طاولاته الخشبية القديمة، لأنك ستكون على وشك أن تعيش لحظة لا تُنسى. عندئذ ستدرك أن بعض الأشياء البسيطة تكفي لصناعة المعجزات، وأن لوركا كان على حق عندما قال: «هو على حق دائماً ذلك الذي يشعر بالإعجاب». لوغانو، وأُرزها بالزعفران، معجزتان من طينة بسيطة جداً.


مقالات ذات صلة

السياحة المغربية تشهد نمواً قوياً... 15.9 مليون سائح في 11 شهراً

الاقتصاد سياح صينيون يزورون مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء (رويترز)

السياحة المغربية تشهد نمواً قوياً... 15.9 مليون سائح في 11 شهراً

أعلنت وزارة السياحة المغربية، الاثنين، أن عدد السياح الذين زاروا المغرب منذ بداية العام وحتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) بلغ 15.9 مليون سائح.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
سفر وسياحة من بين الأدوات التي استخدمها المجرمون في قتل ضحاياهم (متحف الجريمة)

«متحف الجريمة» في لندن... لأصحاب القلوب القوية

من براميل الأسيد التي استخدمها القاتل جون جورج هاي لتذويب ضحاياه والتي تعرف باسم Acid Bath «مغطس الأسيد» إلى الملابس الداخلية لـ«روز ويست».

عادل عبد الرحمن (لندن)
يوميات الشرق آلاف الحقائب التي خسرتها شركات الطيران في متجر الأمتعة بألاباما (سي إن إن)

المسافرون الأميركيون يفقدون ملايين الحقائب كل عام

داخل المساحة التي تبلغ 50 ألف قدم مربع، وإلى مدى لا ترى العين نهايته، تمتد صفوف من الملابس والأحذية والكتب والإلكترونيات، وغيرها من الأشياء المستخرجة من…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سفر وسياحة «ساحة تيفولي» في كوبنهاغن (الشرق الأوسط)

دليلك إلى أجمل أضواء وزينة أعياد الميلاد ورأس السنة حول العالم

زينة أعياد الميلاد ورأس السنة لها سحرها. يعشقها الصغار والكبار، ينتظرونها كل سنة بفارغ الصبر. البعض يسافر من بلد إلى آخر، فقط من أجل رؤية زينة العيد.

جوسلين إيليا (لندن)

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)
TT

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)

«إن أعدنا لك المقاهي القديمة، فمن يُعِد لك الرفاق؟» بهذه العبارة التي تحمل في طياتها حنيناً عميقاً لماضٍ تليد، استهل محمود النامليتي، مالك أحد أقدم المقاهي الشعبية في قلب سوق المنامة، حديثه عن شغف البحرينيين بتراثهم العريق وارتباطهم العاطفي بجذورهم.

فور دخولك بوابة البحرين، والتجول في أزقة السوق العتيقة، حيث تمتزج رائحة القهوة بنكهة الذكريات، تبدو حكايات الأجداد حاضرة في كل زاوية، ويتأكد لك أن الموروث الثقافي ليس مجرد معلم من بين المعالم القديمة، بل روح متجددة تتوارثها الأجيال على مدى عقود.

«مقهى النامليتي» يُعدُّ أيقونة تاريخية ومعلماً شعبياً يُجسّد أصالة البحرين، حيث يقع في قلب سوق المنامة القديمة، نابضاً بروح الماضي وعراقة المكان، مالكه، محمود النامليتي، يحرص على الوجود يومياً، مرحباً بالزبائن بابتسامة دافئة وأسلوب يفيض بكرم الضيافة البحرينية التي تُدهش الزوار بحفاوتها وتميّزها.

مجموعة من الزوار قدموا من دولة الكويت حرصوا على زيارة مقهى النامليتي في سوق المنامة القديمة (الشرق الأوسط)

يؤكد النامليتي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن سوق المنامة القديمة، الذي يمتد عمره لأكثر من 150 عاماً، يُعد شاهداً حيّاً على تاريخ البحرين وإرثها العريق، حيث تحتضن أزقته العديد من المقاهي الشعبية التي تروي حكايات الأجيال وتُبقي على جذور الهوية البحرينية متأصلة، ويُدلل على أهمية هذا الإرث بالمقولة الشعبية «اللي ما له أول ما له تالي».

عندما سألناه عن المقهى وبداياته، ارتسمت على وجهه ابتسامة وأجاب قائلاً: «مقهى النامليتي تأسس قبل نحو 85 عاماً، وخلال تلك المسيرة أُغلق وأُعيد فتحه 3 مرات تقريباً».

محمود النامليتي مالك المقهى يوجد باستمرار للترحيب بالزبائن بكل بشاشة (الشرق الأوسط)

وأضاف: «في الستينات، كان المقهى مركزاً ثقافياً واجتماعياً، تُوزع فيه المناهج الدراسية القادمة من العراق، والكويت، ومصر، وكان يشكل ملتقى للسكان من مختلف مناطق البلاد، كما أتذكر كيف كان الزبائن يشترون جريدة واحدة فقط، ويتناوبون على قراءتها واحداً تلو الآخر، لم تكن هناك إمكانية لأن يشتري كل شخص جريدة خاصة به، فكانوا يتشاركونها».

وتضم سوق المنامة القديمة، التي تعد واحدة من أقدم الأسواق في الخليج عدة مقاه ومطاعم وأسواق مخصصة قديمة مثل: مثل سوق الطووايش، والبهارات، والحلويات، والأغنام، والطيور، واللحوم، والذهب، والفضة، والساعات وغيرها.

وبينما كان صوت كوكب الشرق أم كلثوم يصدح في أرجاء المكان، استرسل النامليتي بقوله: «الناس تأتي إلى هنا لترتاح، واحتساء استكانة شاي، أو لتجربة أكلات شعبية مثل البليلة والخبيصة وغيرها، الزوار الذين يأتون إلى البحرين غالباً لا يبحثون عن الأماكن الحديثة، فهي موجودة في كل مكان، بل يتوقون لاكتشاف الأماكن الشعبية، تلك التي تحمل روح البلد، مثل المقاهي القديمة، والمطاعم البسيطة، والجلسات التراثية، والمحلات التقليدية».

جانب من السوق القديم (الشرق الاوسط)

في الماضي، كانت المقاهي الشعبية - كما يروي محمود النامليتي - تشكل متنفساً رئيسياً لأهل الخليج والبحرين على وجه الخصوص، في زمن خالٍ من السينما والتلفزيون والإنترنت والهواتف المحمولة. وأضاف: «كانت تلك المقاهي مركزاً للقاء الشعراء والمثقفين والأدباء، حيث يملأون المكان بحواراتهم ونقاشاتهم حول مختلف القضايا الثقافية والاجتماعية».

عندما سألناه عن سر تمسكه بالمقهى العتيق، رغم اتجاه الكثيرين للتخلي عن مقاهي آبائهم لصالح محلات حديثة تواكب متطلبات العصر، أجاب بثقة: «تمسكنا بالمقهى هو حفاظ على ماضينا وماضي آبائنا وأجدادنا، ولإبراز هذه الجوانب للآخرين، الناس اليوم يشتاقون للمقاهي والمجالس القديمة، للسيارات الكلاسيكية، المباني التراثية، الأنتيك، وحتى الأشرطة القديمة، هذه الأشياء ليست مجرد ذكريات، بل هي هوية نحرص على إبقائها حية للأجيال المقبلة».

يحرص العديد من الزوار والدبلوماسيين على زيارة الأماكن التراثية والشعبية في البحرين (الشرق الأوسط)

اليوم، يشهد الإقبال على المقاهي الشعبية ازدياداً لافتاً من الشباب من الجنسين، كما يوضح محمود النامليتي، مشيراً إلى أن بعضهم يتخذ من هذه الأماكن العريقة موضوعاً لأبحاثهم الجامعية، مما يعكس اهتمامهم بالتراث وتوثيقه أكاديمياً.

وأضاف: «كما يحرص العديد من السفراء المعتمدين لدى المنامة على زيارة المقهى باستمرار، للتعرف عن قرب على تراث البحرين العريق وأسواقها الشعبية».