العراق... بين «درون» واشنطن و«صواريخ» طهران

قراءة في عملية تصفية قاسم سليماني وتداعياتها

العراق... بين «درون» واشنطن و«صواريخ» طهران
TT

العراق... بين «درون» واشنطن و«صواريخ» طهران

العراق... بين «درون» واشنطن و«صواريخ» طهران

نام رئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال في العراق عادل عبد المهدي في وقته المعتاد كل يوم في الساعة التاسعة والنصف مساء. ومع أن اليوم التالي يوم جمعة، وهو عطلة اعتيادية في العراق، فإن عبد المهدي كان على موعد في الساعة الثامنة والنصف صباحاً مع ضيف من نوع مختلف ووزن مختلف؛ كان ذلك الضيف المنتظر هو الجنرال قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني.
سليماني كان آتياً من دمشق على متن رحلة طيران عادية لشركة طيران «أجنحة الشام». وحطت الطائرة في مطار بغداد متأخرة ساعة عن موعد وصولها المعتاد. وكان أبو مهدي المهندس، نائب رئيس هيئة «الحشد الشعبي»، بانتظار ضيفه «مهندس» معظم التحولات في المنطقة في غضون الأربعين سنة الماضية.
إلا أن الرجلين لم يصلا إلى بغداد التي تبعد عن المطار مسافة 20 كم تقريباً، وبالسيارة يمكن قطعها في غضون 10 دقائق، إذ كانت «الدرون» -التي بدت من نوع مختلف هذه المرة- تترصّد الصيد الثمين بعد مغادرته المطار في موكب من سيارتين عاديتين غير مصفّحتين. وتوقفت الرحلة إلى الأبد عند تخوم بغداد بعد مقتل سليماني والمهندس ومرافقيهم، وتغيّر في الحال ليس جدول مواعيد عادل عبد المهدي فحسب، بل جداول كل المواعيد أيضاً. وظهرت على الفور جداول جديدة ومواعيد جديدة على طاولات «الكبار»، خصوصاً بين واشنطن وطهران.

مع تصفية قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، وجدت بغداد صعوبة في استيعاب كل هذه التحوّلات، وهي التي تعيش منذ ثلاثة شهور أزمة حادة، تتمثّل في الانتفاضة الشعبية الواسعة التي أدت إلى إقالة الحكومة وعجز الكتل السياسية عن المجيء برئيس وزراء بديل لعبد المهدي.
وهنا نشير إلى أن العراق كان يعيش على وقع عدة صدمات طوال أسبوع، بدأت مع قصف قاعدة الـ«كي 1» في كركوك بنحو 30 صاروخاً من قبل الفصائل المسلحة، أدت إلى مقتل متعاقد أميركي (ظهر فيما بعد أنه عراقي الأصل)، ثم شهدت قصف الطائرات الأميركية النفاثة «اللواء 45» التابع لـ«الحشد الشعبي»، وبالذات لـ«كتائب حزب الله» (في غرب البلاد)، الذي راح ضحيته أكثر من 70 شخصاً بين قتيل وجريح، وبعد ذلك اقتحام مجمّع السفارة الأميركية وسط «المنطقة الخضراء» في بغداد.

- سياسة السيادة
في أعقاب قتل سليماني، وكما كان متوقعاً، تصاعدت حدة المواجهة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية. وما كان المسرح المرتقب للمواجهة سوى العراق المشكوك في سيادته من كلا الطرفين العدوين المتخاصمين؛ ذلك أن إيران ترى أن العراق سيبقى منقوص السيادة ما دام الجند الأميركان على أراضيه، وأميركا ترى أن العراق منقوص السيادة ما لم يتخلص من نفوذ طهران وأذرعها، ممثلة في الفصائل المسلحة الموالية لها.
لقد كان الصيف الماضي، حتى مقتل قاسم سليماني، هو الأسخن على صعيد المواجهة بين طهران وواشنطن على الأرض العراقية، إذ استهدفت طائرات «الدرون» على مدى أشهر الصيف كثيراً من معسكرات «الحشد الشعبي» في مناطق مختلفة من العراق، واتهمت فصائل «الحشد» إسرائيل، مع الإشارة إلى أن رئيس الوزراء عادل عبد المهدي ذكر أن الأميركيين أبلغوه أن إسرائيل هي من تولى قصف تلك المعسكرات، ولكن عملياً «قُيدت العملية ضد مجهول».
ومن جهة ثانية، انهالت على مدى شهور الصيف حتى اليوم صواريخ «الكاتيوشا» على «المنطقة الخضراء»، في محاولات لاستهداف السفارة الأميركية. ومع أن الاتهامات توجّه دائماً إلى الفصائل المسلحة الموالية لإيران في التورط بمثل هذه العمليات، فإن أياً منها لم تعترف بتنفيذ مثل هذه العمليات. وهكذا، بين القصف بـ«الدرون» إسرائيلياً و«الكاتيوشا» والهواوين من قبل الفصائل المسلحة المؤيدة لإيران... ظلت السيادة العراقية محل انتقاد بين واشنطن وطهران، وتبادل اتهامات بين العاصمتين، إذ تتهم كل منهما منافستها بخرق السيادة العراقية، إلى أن وقعت الواقعة بقتل قاسم سليماني.

- ترمب يفتخر وينتظر
طوى الليل ساعاته التي بدت سريعة، وحل الصباح باكراً في بغداد، حيث أيقظ عبد المهدي على غير العادة، ليعلم بأن ضيفه الذي كان ينتظره في ساعة مبكّرة من صباح الغد توقفت رحلته في منتصف المسافة بين بغداد ومطارها. وأيضاً جرى الأمر نفسه مع المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي. أما اللاعب الأساسي الوحيد الذي كان مستيقظاً في حينه، فكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بسبب فارق التوقيت.
وكما شاهد العالم، أعلن ترمب أنه هو مَن أمر بتنفيذ العملية، من دون أن يتطرّق إلى مسألة السيادة العراقية. ليس هذا فحسب، بل افتخر الرئيس الأميركي بأنه قضى على ما عدّه «الشخص المسؤول عن كل مشاريع إيران التوسعية في المنطقة»، حين أمر بتنفيذ العملية التي أدت إلى مقتله، والتي أطلق عليها اسم «البرق الأزرق».
بطبيعة الحال، هنا أسقط في يد بغداد التي لم يعد أمامها سوى انتظار رد الفعل الإيراني الذي لن يكون إلا في الأرض العراقية، بحجة وجود القواعد العسكرية الأميركية في العراق. كذلك بات واجباً عليها انتظار رد الفعل الأميركي على رد الفعل الإيراني، بينما أعلن البرلمان العراقي عن التوجه لعقد جلسة طارئة، جدول أعمالها فقرة واحدة، هي إخراج القوات الأميركية من العراق. وعند هذه النقطة، توحّدت القوى الشيعية الرئيسة المختلفة فيما بينها عند هذا الهدف، بينما اتخذ الكرد والعرب السنة موقفاً مناقضاً لموقف قوى الشيعة. ومع نجاح النواب الشيعة في التصويت على قرار يطالب الحكومة بإخراج الوجود الأجنبي من البلاد، لم يصوّت معهم نواب الكرد والسنة.

- تداعيات وتوقعات
بين كون التصويت مُلزماً أو أنه مجرد توصية غير ملزمة للحكومة، التي هي أصلاً باتت «حكومة تصريف أعمال»، مضى تصويت البرلمان العراقي بإخراج القوات الأجنبية من البلاد من دون أن يخلف تداعيات كبيرة، لا سيما مع بدء انتظار الرد الإيراني على تصفية سليماني الذي لم يوارَ الثرى إلا بعد خمسة أيام من التشييع الجماهيري بين المدن العراقية والإيرانية. وكما هو معروف، راح ضحية التدافع في أثناء مراسم التشييع أكثر من 60 قتيلاً وعشرات الجرحى في مدينة كرمان الإيرانية، مسقط رأس القائد القتيل.
وعلى صعيد آخر، فإن التداعيات التي خلفها قتل الجنرال سليماني أربكت الأجواء السياسية في العراق والمنطقة، لا سيما أن العملية غيّرت قواعد اللعبة والاشتباك معاً. وفي هذا السياق، فإن للخبراء والمعنيين رأيهم في الحدث وتداعياته الآنية والمستقبلية، إذ توقّع الدكتور إحسان الشمري، رئيس مركز التفكير السياسي في العراق، خلال لقاء مع «الشرق الأوسط»، أنه «ستكون لمقتل سليماني وأبو مهدي المهندس تداعيات على كل المستويات، ليس فقط على مستوى الأرض العراقية، بل على مستوى المنطقة. وإن الرد الإيراني سيكون حاضراً على أرض العراق كأرض هشة، وكذلك المناطق الأخرى مثل سوريا ولبنان واليمن، فضلاً عن الدول الأوروبية، عن طريق خلايا تابعين لـ(الحرس الثوري) الإيراني».
وتابع الشمري أنه «قد لا يكون له (أي الرد الإيراني) هدف المضي بالحرب الشاملة التقليدية، لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى إسقاط النظام في إيران التي لا تمتلك القدرة على هذه الحرب الشاملة المفتوحة، بعكس أميركا وحلفائها»، وبيّن أن «التداعيات الأقوى ستكون داخل الأراضي العراقية التي تحوّلت من أرض احتكاك إلى أرض اشتباك، وهذا سيكون له عواقب على المستوى الأمني، خصوصاً إذا استمر استهداف المصالح الأميركية... وبالذات مع وجود القوات الأميركية في العراق».
أما رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية، الدكتور معتز محيي الدين، فرأى في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن «هناك عدة تداعيات مهمة ستظهر على السطح خلال الفترة المقبلة، لا سيما مع وجود تعزيزات أميركية جديدة لحماية المصالح الأميركية التي بدأت تتهدد بشكل واضح، الأمر الذي سيغير من قواعد اللعبة والاشتباك معاً»، وأضاف أن «القوة الجديدة الأميركية ستكون لها مهمات محدّدة من بين مهمات أخرى، وهي استهداف قيادات في الحشد، وبالأخص تلك التي شاركت في عملية اقتحام السفارة الأميركية والمظاهرات، والتي أشار إليها الرئيس الأميركي، وكذلك وزير الخارجية».
وتوقّع محيي الدين أن «تستهدف قيادات الفصائل المسلحة القواعد والمصالح الأميركية، سواءً قرب مطار بغداد أو أماكن أخرى، وهو ما يعني أن رد الفعل الأميركي سيكون أقوى مما حصل على طريق المطار، وعُرف بـ(البرق الأزرق)، إذ يمكن أن تكون هناك عمليات تصفية حتى لسياسيين ليس لديهم فصائل مسلحة، ولكنهم محسوبون على إيران بشكل أو بآخر». كذلك توقّع محيي الدين أن «تطال قائمة الاستهدافات الأميركية مصالح أخرى لهذه القيادات، كالمصارف وغيرها، من أجل إضعاف قدراتها، لا سيما أن الخزانة الأميركية قد فرضت بالفعل عقوبات على شخصيات، وهو ما يعني متابعة ما تملكه من أموال في دول كثيرة».

- ضربة بضربة
لقد تصاعدت ردود الفعل الغاضبة بانتظار ما يمكن أن تفعله القيادة الإيرانية، وما إذا كان رد الفعل الأساسي سيوازي حجم خسارة جنرال بحجم قاسم سليماني بكاه بحرقة المرشد الإيراني علي خامنئي.
حتى مراجع الدين الكبار في العراق، وفي مقدمهم المرجع الأعلى آية الله علي السيستاني، نعوا سليماني والمهندس، وأدانوا العملية. كذلك كان آية الله محمد رضا السيستاني، نجل المرجع الأعلى، على رأس مستقبلي الجثمان عند وصوله إلى مدينة النجف، بينما كان آية الله بشير النجفي -وهو أحد المراجع الأربعة العظام في النجف- هو مَن أمّ المصلين عليه.
عموماً، في العراق، يمكن القول إن ردود الفعل تراوحت بين ضبط النفس والتصعيد. فقد حث على ضبط النفس كل من المرجعية الدينية، ورئيس الجمهورية برهم صالح... وحتى رئيس الوزراء عادل عبد المهدي الذي سرعان ما رمى الكرة في ملعب البرلمان، على صعيد تنظيم الوجود الأجنبي في البلاد. أما الاتجاه نحو التصعيد، فتبنّته دعوات الفصائل المسلحة المدعومة من إيران للردّ والانتقام مما حصل.
أما في إيران، فقد بدا المشهد مختلفاً، حيث تصاعدت الدعوات إلى الثأر، بينما أصدر كاظم الحائري، المرجع الديني العراقي المقيم في مدينة قُم بإيران، فتوى تقضي بـ«تحريم الوجود الأجنبي في العراق». ومع أن البرلمان العراقي استجاب لهذه الدعوة، عبر تصويت الكتل الشيعية، في غياب ومعارضة الكتل السنّية والكردية، فإن الرد الأميركي جاء واضحاً صريحاً، وهو تعزيز الوجود العسكري الأميركي في العراق.
وسط كل هذا، كان الجميع ينتظر الرد الإيراني الذي حبس الأنفاس لعدة أيام. وفي تفسير ذلك، يرى الدكتور حسين علاوي، رئيس مركز «أكد» للدراسات والرؤى المستقبلية، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «لحظات صعبة تمرّ على العراق والمنطقة. وعمليات التصعيد واضحة، والانتقال الأميركي من استراتيجية الاقتراب المباشر، بدل استراتيجية الاقتراب غير المباشر، غيّر المعادلة الآن»، وتابع أن «تغيير قواعد اللعبة الآن من قبل الجانب الأميركي أعطى فرصة للقوى السياسية، ووفّر هامش حركة أمام الإيرانيين الضاغطين بقوة من أجل تثبيت مصالحهم وإرثهم في المعادلة السياسية الجديدة للبلاد».
وأوضح علاوي أن «الوجود الأميركي أمام تحدّ نتيجة انهيار قدرة السلطة العراقية، وعجز مؤسسات الحكومة التنفيذية على الصعيد السياسي عن تحقيق إجماع على أن الوجود الأميركي مفيد، وهذا ما دفع الفصائل المسلحة (الشيعية) إلى أن تدفع نحو خيار عدم الفائدة من الوجود الأميركي، وهو ما ولد تحد أمام اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين البلدين».
وفي المقابل، عد السياسي العراقي أثيل النجيفي، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أن «القوة الإيرانية تراجعت كثيراً بعد مقتل المهندس وسليماني، وما كانت الفصائل تعوّل عليه من دفع الشعب العراقي كدريئة لصراعها مع الولايات المتحدة الأميركية ضعف كثيراً». وأردف النجيفي أن «الفصائل المسلحة يمكن أن تهدّد وتتوعّد، وقد تضرب للحفاظ على وضعها، وقد تتملّص من المسؤولية، ولكنها بينما تريد أن تجعل من محاربة الأميركان قضية عراقية... فإن معظم الشعب العراقي لا يراها معركته».


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.