«الجوع أو الركوع»... الصيغة اللبنانية

TT

«الجوع أو الركوع»... الصيغة اللبنانية

ألقى المناخ الذي ولّده اغتيال قاسم سليماني في بغداد بثقله على لبنان. ليس بمعنى إعادة هذا البلد إلى أداء دور ساحة للصراعات الإقليمية فحسب، بل لتزويد التوتر الحالي للجماعة السياسية الحاكمة بمزيد من الذرائع للتهرب من ضغوط الشارع المطالب بالإصلاح ووقف انتهاك السلطة للقانون والحد من الفساد.
كلمة الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله، الحاكم الفعلي للبنان، حفلت بالتهويل والتهديد لأعداء إيران ومحورها. ولم يجد غضاضة في تخيير اللبنانيين والعرب بين الانضواء تحت لوائه أو الانضمام إلى صفوف الأعداء. ومهما كانت عبثية هذا النوع من الكلام وخروجه عن قواعد الاجتماع السياسي اللبناني المتعدد والتي تحتل التسويات فيها مكانة كبرى، وتقليده مقولة «الفسطاطين» البن لادنية أو «إما معنا أو ضدنا» التي أعلنها الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش بعيد هجمات 11 سبتمبر (أيلول)، إلا أنها تتجنب السؤال العميق والحيوي الذي يطال اللبنانيين: كيف الخروج من المأزق المصيري الذي أوصلتهم إليه الطبقة الفاسدة وسياساتها الرعناء؟
«محور الممانعة» لعب دور حامي الفساد على مدى سنوات طويلة في لبنان وعمل على إفشال كل التحركات المطلبية وصولاً إلى القمع العنيف والعلني لثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول). ولم يتعفف عن اللجوء إلى أي وسيلة من التضليل الإعلامي للدفع بأنصاره للاعتداء على المتظاهرين إلا واستخدمها لخنق المطالب المعيشية لإدراكه أن الاستجابة لدعوات محاربة الفساد ستؤدي إلى تفكيك التحالف الذي يحكم بواسطته ومن وراء الستار.
في المقابل، لم يقدم «الممانعون» مثلهم مثل خصومهم من بقايا قوى «14 آذار» فكرة واحدة لتجاوز الأزمة. الشراكة في الحكم بين الممانعين وخصومهم المفترضين، انقلبت شراكة في التهرب من الاستحقاق الداهم واستقالت السلطة من مهماتها الأساسية في تأمين إدارة سلمية للحياة اليومية وتوفير الحد الأدنى من الانتظام العام، تاركة المواطنين نهباً لتسلط أصحاب المصارف وللتضخم واختفاء الإيرادات ولموجة جوع وفقر على مستوى لم يشهده لبنان من قبل، بدأ كل من يسير في شوارع المدن والقرى اللبنانية برصده من دون عناء.
الاستقالة العامة التي انكفأت السلطة إليها كملجأ أخير من الاستجابة لمطالب الناس، على أمل أن يساهم الجوع والخوف من الحرب وتخبط قوى الثورة وعجز هذه عن إنتاج قيادات ذات مصداقية، في تركيع اللبنانيين وسوقهم من جديد إلى حظائر انتماءاتهم الطائفية قانعين من التغيير بشرف المحاولة.
إنها صيغة محدثة من شعار «الركوع أو الجوع» الذي رفعه جنود بشار الأسد وحلفاؤهم من الميليشيات اللبنانية والعراقية، في وجه سكان بلدات مضايا، والزبداني، وداريا، ومخيم اليرموك وغيرها، حيث فرض النظام السوري على المحاصرين مقايضة مذلة بين لقمة الخبز وبين كرامتهم. يعمد السياسيون اللبنانيون بمختلف ألوانهم الطائفية واصطفافتهم الخلبية، إلى المقايضة ذاتها: لا حل للأزمات السياسية والاقتصادية إلا بما يرضي تحالف الفساد والسلاح.
التظاهر في الشوارع ورفع الشعارات والاحتجاج السلمي أمور لم تزحزح الجماعة الحاكمة قيد أنملة عن تمسكها بمواقعها. ودفع المواطنين الذين بدأوا يتعرفون إلى الجوع والحرمان وخسارة إمكانية تعليم الأبناء، دفعهم إلى خيارات يائسة هو البديل الوحيد الذي تقدمه السلطة للبنانيين. فإما الانتحار الذي يحصد كل أسبوع ضحايا جدداً، أو أعمال عنف من مثل حرق فروع مصرفية، لا تنتج سوى مزيد الذرائع التي تبرر إمساك المصارف وأصحابها من السياسيين، بخناق المودعين.
ما من حكومة في الطيف السياسي الحاكم قادرة على الإتيان بحل. العزلة العربية والدولية التي يعاني لبنان منها بسبب النهج الصبياني الذي اعتمده في مواقفه من الصراعات الإقليمية، والفساد الخرافي الذي بات أضحوكة الدول الغربية، يحولان دون اللجوء إلى الدول العربية أو المانحين الغربيين للحصول على مساعدات أو قروض تمول برامج تنموية. هاتان الورقتان احترقتا، وآخر ما تفتقت عنه ذهنية الحكم الفاسد كان مؤتمر «سيدر» الذي اشترط الممولون فيه على لبنان تنفيذ إصلاحات جدية للحصول على قروض تبلغ 11 مليار دولار. غني عن البيان أن عمق الفساد في «بلاد الأرز» يجعل من أي محاولة إصلاحية هدماً للهيكل برمته بسبب استشراء الفساد في الإدارة العامة وسيطرته على كل مفاصل الدولة. يبقى أمام السلطة الاستنجاد بصندوق النقد الدولي. وصفات الصندوق معروفة. منها رفع الدعم عن السلع وخفض مصاريف الدولة. وإذا كانت أكثرية السلع غير مدعومة في لبنان، فإن خفض المصاريف سيعني وقف الاستشفاء على حساب وزارة الصحة وتخفيض مخصصات المدارس الرسمية، والأهم تقليم القطاع العام الموسوم بانعدام الفاعلية والإنتاجية الذي يضم أكثر من 300 ألف موظف، ما سينتج فيضاناً من العاطلين عن العمل. وتعود بذلك الأزمة إلى بداياتها، حيث سيتيح الانهيار الاجتماعي للقوى الطائفية تجنيد أعداد كبيرة من الاتباع والمرتزقة.
الركوع أو الجوع هو ما يقترحه السياسيون اللبنانيون. على المنتفضين تقديم رد مقابل.



ملاهي سوريا وحاناتها تعيد فتح أبوابها بحذر بعد انتصار فصائل المعارضة

سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)
سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)
TT

ملاهي سوريا وحاناتها تعيد فتح أبوابها بحذر بعد انتصار فصائل المعارضة

سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)
سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)

احتفل سكان دمشق بسقوط نظام بشار الأسد بعد حرب وحشية استمرت 13 عاماً، لكن أصحاب أماكن السهر في المدينة اعتراهم القلق وهم يعيدون فتح أبواب حاناتهم وملاهيهم.

فقد قادت «هيئة تحرير الشام» فصائل المعارضة التي أطاحت بنظام الأسد، وكانت هناك خشية لدى بعض الناس من أن تمنع الهيئة شرب الكحول.

ظلت حانات دمشق ومحلات بيع الخمور فيها مغلقة لأربعة أيام بعد دخول مقاتلي «هيئة تحرير الشام» المدينة، دون فرضهم أي إجراءات صارمة، والآن أعيد فتح هذه الأماكن مؤقتاً.

ما يريده صافي، صاحب «بابا بار» في أزقة المدينة القديمة، من الجميع أن يهدأوا ويستمتعوا بموسم عيد الميلاد الذي يشهد إقبالاً عادة.

مخاوف بسبب وسائل التواصل

وفي حديث مع «وكالة الصحافة الفرنسية» في حانته، اشتكى صافي، الذي لم يذكر اسم عائلته حتى لا يكشف عن انتمائه الطائفي، من حالة الذعر التي أحدثتها وسائل التواصل الاجتماعي.

فبعدما انتشرت شائعات أن المسلحين المسيطرين على الحي يعتزمون شن حملة على الحانات، توجه إلى مركز الشرطة الذي بات في أيدي الفصائل في ساحة باب توما.

وقال صافي بينما كان يقف وخلفه زجاجات الخمور: «أخبرتهم أنني أملك حانة وأود أن أقيم حفلاً أقدم فيه مشروبات كحولية».

وأضاف أنهم أجابوه: «افتحوا المكان، لا مشكلة. لديكم الحق أن تعملوا وتعيشوا حياتكم الطبيعية كما كانت من قبل»، فيما كانت الموسيقى تصدح في المكان.

ولم تصدر الحكومة، التي تقودها «هيئة تحرير الشام» أي بيان رسمي بشأن الكحول، وقد أغلق العديد من الأشخاص حاناتهم ومطاعمهم بعد سقوط العاصمة.

لكن الحكومة الجديدة أكدت أيضاً أنها إدارة مؤقتة وستكون متسامحة مع كل الفئات الاجتماعية والدينية في سوريا.

وقال مصدر في «هيئة تحرير الشام»، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، طلب عدم كشف هويته، إن «الحديث عن منع الكحول غير صحيح». وبعد الإلحاح عليه بالسؤال شعر بالغضب، مشدداً على أن الحكومة لديها «قضايا أكبر للتعامل معها».

وأعيد فتح «بابا بار» وعدد قليل من الحانات القريبة، لكن العمل محدود ويأمل صافي من الحكومة أن تطمئنهم ببيان يكون أكثر وضوحاً وقوة إلى أنهم آمنون.

في ليلة إعادة الافتتاح، أقام حفلة حتى وقت متأخر حضرها نحو 20 شخصاً، ولكن في الليلة الثانية كانت الأمور أكثر هدوءاً.

وقال إن «الأشخاص الذين حضروا كانوا في حالة من الخوف، كانوا يسهرون لكنهم في الوقت نفسه لم يكونوا سعداء».

وأضاف: «ولكن إذا كانت هناك تطمينات (...) ستجد الجميع قد فتحوا ويقيمون حفلات والناس مسرورون، لأننا الآن في شهر عيد الميلاد، شهر الاحتفالات».

وفي سوريا أقلية مسيحية كبيرة تحتفل بعيد الميلاد، مع تعليق الزينات في دمشق.

في مطعم العلية القريب، كان أحد المغنين يقدم عرضاً بينما يستمتع الحاضرون بأطباق من المقبلات والعرق والبيرة.

لم تكن القاعة ممتلئة، لكن الدكتور محسن أحمد، صاحب الشخصية المرحة والأنيقة، كان مصمماً على قضاء وقت ممتع.

وقال لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «كنا نتوقع فوضى عارمة في الموقف»، فيما كانت الأضواء تنعكس على ديكورات المطعم، مضيفاً: «لكننا عدنا سريعاً إلى حياتنا، حياتنا الليلية، وحقوقنا».

حفلة مع مغنٍ

وقال مدير المطعم يزن شلش إن مقاتلي «هيئة تحرير الشام» حضروا في ليلة إعادة الافتتاح ولم يغلقوا المكان.

وأضاف: «بدأنا العمل أمس. كانت الأمور جيدة جداً. كانت هناك حفلة مع مغنٍ. بدأ الناس بالتوافد، وفي وسط الحفلة حضر عناصر من (هيئة تحرير الشام)»، وأشار إلى أنهم «دخلوا بكل أدب واحترام وتركوا أسلحتهم في الخارج».

وبدلاً من مداهمة المكان، كانت عناصر الهيئة حريصين على طمأنة الجميع أن العمل يمكن أن يستمر.

وتابع: «قالوا للناس: لم نأتِ إلى هنا لنخيف أو نرهب أحداً. جئنا إلى هنا للعيش معاً في سوريا بسلام وحرية كنا ننتظرهما منذ فترة طويلة».

وتابع شلش: «عاملونا بشكل حسن البارحة، نحن حالياً مرتاحون مبدئياً لكنني أخشى أن يكون هذا الأمر آنياً ولا يستمر».

ستمارس الحكومة الانتقالية الجديدة في سوريا بقيادة «هيئة تحرير الشام» عملها حتى الأول من مارس (آذار). بعد ذلك، لا يعرف أصحاب الحانات ماذا يتوقعون.