أخيراً، حصل أول اتصال فرنسي رسمي عالي المستوى بين الرئيس إيمانويل ماكرون ونظيره الإيراني حسن روحاني، وذلك بعد 4 أيام من العملية العسكرية الأميركية التي قتلت قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني، ونائب قائد «الحشد الشعبي» العراقي أبو مهدي المهندس، وذلك بضربة صاروخية ليل الجمعة الماضي.
وجاء الاتصال المشار إليه في سياق مروحة المشاورات الواسعة رفيعة المستوى التي تجريها الدبلوماسية الفرنسية منذ ذلك التاريخ، الساعية إلى احتواء التصعيد ولجم سير المنطقة نحو انفجار واسع. بيد أن الأمر اللافت للانتباه يكمن في تأخر التواصل بين ماكرون وروحاني. فالأول أجرى اتصالات واسعة مع قادة الولايات المتحدة وروسيا وألمانيا وبريطانيا والعراق وتركيا والإمارات، ووزير خارجيته جان إيف لودريان قام من جانبه باستكمال المشاورات، فهاتف رئيس الوزراء العراقي ونظراءه الأميركي والبريطاني والألماني والسعودي ووزير الخارجية الأوروبي وآخرين.
وفي هذه الاتصالات كافة التي كانت إحدى نتائجها البيان الثلاثي المشترك الصادر عن قادة فرنسا وبريطانيا وألمانيا، ليل الأحد - الإثنين، كانت الدبلوماسية الفرنسية تركز على العمل من أجل تحقيق 3 أهداف رئيسية: منع اندلاع نزاع واسع بين الولايات المتحدة وإيران تكون نتائجه كارثية على المنطقة؛ وضرورة الاستمرار في الحرب على «داعش» ومنع عودتها، وبالتالي بقاء قوات التحالف الدولي في العراق؛ والسعي للمحافظة على الاتفاق النووي المبرم مع إيران الذي تلقى ضربة قد تكون قاضية بإعلان طهران تحللها من أي قيود على برنامجها النووي.
وأثار تأخر التواصل بين باريس وطهران مجموعة من التساؤلات. ففيما عجل وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي وألمانيا وبريطانيا لمخاطبة نظيرهم الإيراني، بقيت باريس غائبة رغم أن الملف الإيراني يحظى بأولوية الدبلوماسية الفرنسية. والدليل على ذلك الدور الذي لعبته في السعي لإيجاد أرضية مشتركة بين الولايات المتحدة وإيران «جهود ماكرون في قمة بياريتز، وفي الأمم المتحدة. ورغم الإخفاق، بقيت باريس مقتنعة بوجود (فرصة) يتعين اقتناصها».
بيد أن الاتصال حصل أخيراً، وعلى أعلى مستوى. لكن المفارقة أنه جاء في اليوم نفسه الذي أسقط فيه القضاء الإيراني عن الباحثة الأكاديمية الإيرانية - الفرنسية فريبا عادل خاه، المعتقلة في طهران منذ شهر يونيو (حزيران) الماضي، تهمتي التجسس والمساس بالنظام العام. لكنها ما زالت، وفق محاميها سعيد دهقان، متهمة بالدعاية ضد النظام السياسي، والتآمر ضد الأمن الوطني.
ومنذ أشهر، تطالب باريس بالإفراج الفوري عن عادل خاه، وعن رفيق دربها الذي اعتقل في اليوم نفسه الأكاديمي رولان مارشال. ومؤخراً، أعلنت عادل خاه الإضراب عن الطعام. وتجدر الإشارة إلى أن هذه المسألة «ومسائل أخرى» وترت العلاقات الفرنسية - الإيرانية. لكن لم يعرف أمس ما إذا كان الاتصال الهاتفي بين الرئيسين على علاقة مباشرة بملف عادل خاه أم لا.
بيد أن عودة التواصل بين باريس وطهران لا تعني أن الشوائب التي ألمت بسبب وبعد مقتل سليماني قد تبددت. فالعملية العسكرية الأميركية وضعت باريس في موقف صعب، خصوصاً أنها سعت دوماً إلى الإبقاء على مسافة ما بينها وبين واشنطن لتمكنها من لعب دور الوسيط.
والحال أنه بعد أن أعلنت وزيرة الدولة للشؤون الخارجية أملي دو مونشالين أن «دور باريس ليس أن تقف إلى جانب هذا الطرف أو ذاك»، تغير الوضع سريعاً، وبدا ذلك بوضوح في بيان قصر الإليزيه، عقب الاتصال الهاتفي يوم الأحد بين ماكرون وترمب، بمبادرة من الأول. ففي الاتصال المذكور، أعرب ماكرون عن «كامل تضامننا مع حلفائنا بمواجهة الهجمات التي استهدفت مواقع التحالف في العراق».
كذلك عبر عن القلق إزاء النشاطات المزعزعة للاستقرار التي تقوم بها قوة «القدس» بقيادة الجنرال سليماني، و«ضرورة أن تضع إيران حداً لها، وأن تمتنع عن أي إجراء عسكري يفاقم انعدام الاستقرار الإقليمي». وفي السياق عينه، عد لودريان أن سليماني «ليس شخصاً بريئاً... والمرشد الإيراني كلفه بالقيام بأعمال تنسف الاستقرار في كامل المنطقة».
وكان واضحاً أن باريس اقتربت كثيراً من واشنطن، وذلك في إطار توجه أوروبي عام. إلا أن ذلك لم يمنعها من أن تواصل الجهود لوضع حد للتصعيد، بل إن وزير الخارجية، في مقابلة تلفزيونية مع القناة الإخبارية الفرنسية «بي إف إم»، رسم ما يشبه «خريطة طريق» لذلك، حيث قال لودريان: «لا أحد يريد الحرب، والجميع يقولون إنه علينا لجم التدهور، ولذا نحن نحدد الوسائل لذلك، وهي أنه يتعين على إيران أن تتخلى عن الرد والانتقام، وأن نفتح الباب لإطلاق مفاوضات بشأن الاستقرار الإقليمي. كما أنه يتعين على إيران أن تعود للالتزام باتفاق فيينا النووي». وخلاصة قول لودريان أنه رغم التأزم الحاد الحالي «ما زال هناك منفسح للدبلوماسية»، والشرط «الوحيد» لذلك أن «ينخرط الطرفان (واشنطن وطهران) في مسار تفاوضي يفضي إلى الاستقرار الإقليمي». وبهذا الطرح، يكون لودريان قد رمى المسؤولية على الطرف الإيراني، كما أنه حمله وزر أي تصعيد لاحق.
وهذه المقاربة أثارت غيظ وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الذي عد في حديث لمحطة «سي إن إن» الأميركية، أمس، أن مواقف الدول الأوروبية من الأحداث الأخيرة «خطأ استراتيجي، ولن تكون في صالحها». وربما ستتوفر الفرصة له، يوم الجمعة المقبل، للتعبير عن ذلك مباشرة للوزراء الأوروبيين الذين سيلتقون في بروكسل، في حال لبى دعوة جوزيف بوريل.
ويبدو بوضوح أن مصدر «الحنق» الإيراني اعتبار طهران أن هناك تفهماً أوروبياً، وربما تأييداً للعملية التي قضت على قاسم سليماني. وفي المقابل، فإن وزير الخارجية الأميركي بومبيو غير متحمس لمواقف الأوروبيين «غير المفيدين» لبلاده في الأحداث الأخيرة. وما تخشاه المصادر الأوروبية أن تكون صورة العلاقات المتدهورة بين الطرفين الأوروبي والإيراني قد تحولت إلى عائق يحول مستقبلاً دون الجهود التي يبذلها الطرف الأول من أجل منع الانزلاق نحو نزاع مفتوح بين واشنطن وطهران. كذلك تخشى هذه المصادر أن تكون إيران قد وأدت نهائياً وعملياً الاتفاق النووي، رغم نفي نائب وزير خارجيتها ذلك أمس، من خلال إعلانها تحللها من أي قيود بخصوصه، مما قد يدفعها مجدداً باتجاه الوصول إلى ما يسمى «العتبة النووية». وقد استبق ترمب ذلك بإعلانه أنه «لن يسمح أبداً» لإيران بأن تمتلك القنبلة النووية.
وفي سياق ذي صلة، أعلن مصدر حكومي فرنسي أن باريس «لا تعتزم» سحب جنودها (نحو 200 جندي) العاملين في العراق في إطار التحالف الدولي، عكس ما قررته برلين. ويأتي قرار باريس في ظل تخبط أميركي برز في الساعات الأخيرة.
غيظ إيراني من المواقف الأوروبية المقتربة من واشنطن وظريف يعدها «خطأ استراتيجياً»
غيظ إيراني من المواقف الأوروبية المقتربة من واشنطن وظريف يعدها «خطأ استراتيجياً»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة