يستعين الكاتب والروائي الإيطالي دومينيكو ستارنونه بالتلاعب اللفظي والدلالي في عنوان روايته «أربطة»، التي تظهر على غلافها أربطة حذاء كلاسيكي مُتشابكة وعسيرة الفض، وفي متن الرواية تتكشف ثمة أربطة شعورية وإنسانية مُعقدة بين أبطالها الذين ينتمون للعائلة الصغيرة ذاتها.
صدرت أخيراً الترجمة العربية لهذه الرواية عن دار «الكرمة» للنشر بالقاهرة، وترجمتها عن الإيطالية أماني فوزي حبشي، وهي الترجمة العربية الأولى لأعمال الكاتب والسيناريست دومينيكو ستارنونه الذي صدر له أكثر من 20 عملاً أدبياً حازت على اهتمام داخل إيطاليا والعالم، وحصد عنها كثيراً من الجوائز أبرزها جوائز «نابولي» و«كامبيللو» و«ستريجا» وغيرها.
يمهد الكاتب المسرح لأبطاله عبر 3 فصول تبدو مستقلة، إلا أنها متكاملة، تبني معاً في النهاية تصوّراً مترابطاً عن عالم العائلة بطلة الرواية، يبدأ الفصل الأول بصوت الزوجة والأم «فاندا»، صوت ممزوج بلغة الرسائل النازفة التي تتراوح بين الاستعطاف والثورة ومراجعة النفس والخوف والندم، تستجدي به زوجها «آلدو» الذي يبدو من بدايات الفصل الأول أنه غادر زوجته وأبناءه، وخلال ذلك تُفتش داخل ثورتها عن بعض لحظات الوقار حفاظاً على أي بارقة أمل في استرداد العلاقة بينهما.. «آلدو: أرجوك فكّر. نحن في حاجة إلى مواجهة أحدنا الآخر بطريقة جدية. لا بد أن أفهم ماذا يحدث لك. خلال فترة عشرتنا الطويلة جداً كنت دائماً رجلاً عطوفاً، سواء معي أو مع الطفلين».
يضع الفصل الأول القارئ في حالة تفهم لورطة العائلة التي غاب عنها الأب فجأة، ليتماهى مع قضية الزوجة الضحية التي غادرها الزوج دون اكتراث أو نخوة. وتعبر عن ذلك في مونولوج مثقل بالوجع الإنساني: «أشعر بالخوف. المنزل مُنعزل، وأنت تعلم كيف هي نابولي، فهي مكان سيئ.
في الليل أسمع ضوضاء وضحكات، لا أنام، أنا منهكة. ماذا لو دخل لص من النافذة؟ ماذا لو سرقوا التلفزيون، الجرامافون؟ ماذا لو قتلنا أحد أعدائك انتقاماً منك أثناء نومنا؟ هل يمكن أن تدرك العبء الذي ألقيت به عليّ؟ هل نسيت أنني لا أعمل، وأنني لا أعرف كيف يمكنني الاستمرار؟ آلدو، لا تدفعني أن أفقد صبري، احذر. إذا بدأت في هذا فسأجعلك تدفع الثمن غالياً».
ما يكاد القارئ يتورط في كراهية الزوج «آلدو»، حتى تجده هو بنفسه يقود دفة السرد على مدار الفصل الثاني للكتاب. رجل يبدو رزيناً، يصطحب زوجته فاندا في الطرقات وقد تقدم بهما العمر وصار لهم أحفاد، في سياقات مختلفة كأنه لم يُغادر يوماً كما ظلت الزوجة تستجديه طيلة الفصل الأول للرواية، وفي غمرة الزمن الآخر، وأحداث فوضوية، يُعيد البطل قراءة وفحص تاريخ زواجه بفاندا، وعبور «ليديا» في حياتهما، لتُحدث زلزالاً في علاقتهما الأسرية، وكذلك في ذاكرته الشخصية.. «هناك مسافة لا يمكن قياسها بالكيلومترات، ولا حتى بالسنوات الضوئية، هي المسافة التي يسببها التغير. ابتعدت عن زوجتي وعن طفلي مندفعاً خلف ما أهواه: المرأة الجديدة التي أحببتها، وعمل ممتع جديد أيضاً أدى، في نهاية سلسلة من الأحداث بدت بلا توقف، إلى نجاح شخصي صغير يعقبه آخر».
يتسلم الأبناء ساندرو وآنا دفة الأحداث مع الفصل الثالث للكتاب، وهما عندئذ في عمر تجاوز الطفولة بسنوات طويلة، إلا أن ذاكرتهما ما زالت مُشتبكة بالشرخ القديم في علاقة الأب والأم، يتذكران لقاءهما بوالدهما بعد قراره ترك المنزل، وهو اللقاء الذي رتبته لهم أمهما آنذاك في مقهى بميدان كارلو الثالث، لا ينسيان هيئته وقتها، ولا تعليق أمهما صباح لقائهما به مُخاطبة الابنة الصغرى آنا: «هل لاحظتِ الطريقة السخيفة التي يربط بها أخوكِ حذاءه؟ إنه خطأ أبيكِ، لم يفعل قط أي شيء حسن. قولي له هذا عدنما ترينه».
كان دأب الأم على إذكاء الغضب داخل أبنائها له شديد الأثر على حياة أفراد الأسرة الأربعة فيما بعد، ويستدعي الأبناء على خلفية تعليق الأم حول ربط الحذاء انفعال الأب وقتها بوراثة ابنه ربط الحذاء منه، ويتداخل السرد للجمع بين فكرة الأربطة كتيمة مع تقييم الأبناء لعلاقاتهم كعائلة. يقول ساندرو لشقيقته: «إن قصة الأربطة تلك جمعتنا كلنا، فقد عاد بابا من أجل ماما، ومن أجلي ومن أجلك. ونحن الثلاثة أردنا عودته». وفي موضع آخر تقول شقيقته آنا: «الأربطة الوحيدة التي وضع والدنا لها اعتباراً هي تلك التي عذّب بها كل منهما الآخر طول حياته»، في تشابك بين مشاعر الغفران وعدم تجاوز القسوة كأنها أربطة مُستعصية، مهما مرّ الوقت.
لعبة الأربطة المعقدة شعورياً
رواية الإيطالي دومينيكو ستارنونه بالعربية
لعبة الأربطة المعقدة شعورياً
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة