تحديات الاتحاد الأوروبي الرئيسية في 2020

أخيراً؛ وبعد أكثر من 3 سنوات من الجدل العقيم وتغيير 3 رؤساء حكومة و3 انتخابات عامة وكثير من الإثارة والمشهدية الدرامية، ستحقق بريطانيا ما طلبه مواطنوها في استفتاء جرى في عام 2016 بالخروج من الاتحاد الأوروبي ليتراجع عدد أعضائه من 28 إلى 27 عضواً.
لكن الخروج الرسمي المنتظر نهاية يناير (كانون الثاني) 2020 لا يعني أن المسائل الخلافية قد حسمت؛ إذ ما زالت «خريطة الطريق» العملية تحتاج إلى جهود جبارة وساعات طويلة من المفاوضات والتغلب على المسائل المعلقة لتستعيد بريطانيا حريتها.

- «بريكست»
في الأحوال كافة، ومهما كانت الطريق للخروج متعرجة، إلا إنها المرة الأولى في تاريخ الاتحاد الأوروبي الذي يقرر فيه عضو (وهو في حالة بريطانيا من الأطراف الرئيسية)، التخلي عن انتمائه إلى إحدى أهم المجموعات الإقليمية في العالم التي رأت النور بعد الحرب العالمية الثانية ونجحت في تحقيق الصلح والمحافظة على السلام في القارة القديمة. ويكمن التحدي الذي يواجهه الاتحاد في إنجاح عملية الخروج وتحقيقه بأقل الخسائر لدى الطرفين، رغم أن المستشارة الألمانية سارعت إلى تحذير حكومة بوريس جونسون من تحويل بلاده إلى «سنغافورة جديدة» لا تحترم أصول المنافسة الشريفة وتسعى لاجتذاب الشركات من خلال تليين قوانين العمل. ولم يقل قادة أوروبيون أشياء بعيدة عما جاءت به المستشارة الألمانية، ومنهم الرئيس الفرنسي، وجميعهم يؤكد على التمسك بقواعد واضحة للتعامل مع بريطانيا التي مانع الجنرال شارل ديغول طويلاً في انضمامها إلى «السوق الأوروبية المشتركة»، باعتبار أنها تنظر بالدرجة الأولى إلى ما وراء الحلف الأطلسي (أي الولايات المتحدة الأميركية) بدل أوروبا.
ثمة 5 تحديات رئيسية يواجهها «الاتحاد»، إضافة إلى «بريكست»، وكلها ذات أهمية قصوى. ولا شك في أنها ستكون مطروحة باستمرار في السنوات المقبلة.

- توسعة جديدة؟
أول هذه التحديات يتناول توسيع الاتحاد وضم بلدان جديدة إليه. والحال أنه اليوم هناك 5 بلدان، هي: ألبانيا، والجبل الأسود، ومقدونيا الشمالية، وصربيا وتركيا، منخرطة في مفاوضات مع الاتحاد، إضافة إلى مرشحَين محتملين هما البوسنة والهرسك من جهة؛ وكوسوفو من جهة أخرى. وثمة أصول وقواعد للانضمام تسمى «معايير كوبنهاغن» وتتناول الحريات بمختلف أنواعها، ودولة القانون، والنظام الاقتصادي الليبرالي. وتعود آخر توسعة لعام 2013 بانضمام كرواتيا إلى «الاتحاد» الذي انتقل من 6 أعضاء في عام 1957، إلى 28 عضواً في العام المذكور. والحال؛ أن صعوبات جمة أخذت تطرح على القادة الأوروبيين وفق ما حدث في 18 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي؛ إذ رفض الرئيس الفرنسي إطلاق مفاوضات الانضمام مع ألبانيا وجمهورية مقدونيا الشمالية، الأمر الذي أثار حفيظة المستشارة ميركل التي عدت ذلك «خطأً تاريخياً»، واستجلب رداً قاسياً من رئيس المفوضية «وقتها» جان كلود يونكر. وحجة ماكرون الذي حظي بدعم هولندا، أنه «تتعين إعادة النظر في قواعد الانضمام» قبل مواصلة السير فيه.
وتمثل ألبانيا معضلة؛ حيث ثلث سكانها اضطر للهجرة بسبب الفقر والبطالة، ويشكل مواطنوها العدد الأكبر من طالبي اللجوء إلى فرنسا، وبالتالي فإن باريس «لا تفهم» كيفية التوفيق بين الانضمام من جهة؛ وحالة ألبانيا الاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى. وثمة مشكلة أعصى على الحل، وهي طلب تركيا الانضمام الذي قدمته أنقرة منذ 20 عاماً على الأقل، ولا يبدو أن في الأفق حلاً يمكن أن يرضي الجانب التركي نظراً لأوضاع حقوق الإنسان فيها، وغياب دولة القانون. من هنا، فإن إشكالية توسيع «الاتحاد» ستكون موضع جدل لسنوات، خصوصاً أن هناك من يطرح سؤالين متلازمين: أين يجب أن يتوقف التوسيع؟ ووفق أي قواعد تتعين إدارة هذه المجموعة الواسعة والمعقدة؟
حقيقة الأمر أن العلاقات الأوروبية مع تركيا تطرح مجموعة تحديات تحت أسماء مختلفة، أوّلها التوتير المستمر الذي يسم هذه العلاقات. فأنقرة دأبت على إطلاق التهديدات باتجاه أوروبا يوماً بتأكيد استعدادها لفتح الحدود أمام مئات الآلاف من المهاجرين واللاجئين؛ وأكثريتهم من سوريا، وآخر بشأن إعادة المئات من مقاتلي تنظيم «داعش» الإرهابي إلى البلدان الأوروبية التي يتحدرون منها. وبين «الاتحاد» وتركيا خلافات كبرى ليس أقلها سياسة أنقرة في سوريا وتدخلها العسكري هناك، أو سياستها البحرية الجديدة في المتوسط وسعيها لفرض نفسها قوة إقليمية تدوس القوانين الدولية والأعراف. وآخر تجليات هذه السياسة التنقيب عن الغاز في مياه ليست مياهها، وبحجج لا تستقيم وفق منطوق قوانين البحار، وبالتالي فإنها تثير التوترات مع دولتين عضو في «الاتحاد» وهما قبرص واليونان، إضافة إلى دول إقليمية أخرى. لكن مشكلة أوروبا أنها تعاني من مَكْمَنَيْ ضعف: الهجرات من جهة؛ ومقاتلو «داعش» المعتقلين من جهة؛ وهما ورقتا الضغط التركية.

- توحيد السياسات الخارجية والدفاعية
في سعيها للتخلص من تشبيه أنها «عملاق اقتصادي لكن رجلاه من طين»، تسعى أوروبا لبناء سياسة خارجية موحدة، خصوصاً لبناء قوة عسكرية أوروبية تكون قادرة على التعاطي مع التحديات الأمنية التي يمكن أن تواجهها من غير الحاجة للحلف الأطلسي. وبطلا هذه الدعوة هما بلا منازع ماكرون وميركل: الأول يكرر أنه «لا يمكن توفير الحماية للأوروبيين إن لم نقرر بناء جيش أوروبي وبمواجهة روسيا، الموجودة على حدودنا، والتي تبدو أحياناً مهددة. علينا أن نقيم أوروبا القادرة على الدفاع عن نفسها أكثر فأكثر من غير الحاجة للولايات المتحدة وبشكل سيادي». والثانية دعت في الفترة عينها أمام البرلمان الأوروبي في استراسبورغ إلى «بلورة رؤية تتيح لنا الوصول يوماً إلى قيام جيش أوروبي حقيقي»، مقترحة إنشاء «مجلس أمن أوروبي» مهمته اتخاذ القرارات المهمة في المسائل الدفاعية والأمنية. وحتى اليوم، ليس لأوروبا «دفاع أوروبي»، بل هناك مجموعة من مشاريع التعاون الدفاعي والصناعي المحدودة.
بيد أن هذا «الدفاع» يفتقر إلى عقيدة عسكرية موحدة، كما يفتقر لقوة عسكرية للتدخل السريع ولقيادة مشتركة. وما يعوقه سياسياً واستراتيجياً أن دول البلطيق وأخرى شرق أوروبا، وعلى رأسها بولندا ورومانيا، لا ترغب في الاستبدال بالمظلة الأطلسية «الأميركية» مظلة أوروبية غير موجودة بسبب خوفها الدائم من روسيا، التي بينت في ضمها شبه جزيرة القرم أنها تسعى لاستعادة مجدها السابق. لذا، فإن مشروع «الجيش الأوروبي» و«الاستقلالية الاستراتيجية» العزيزين على قلب ماكرون وميركل لن يريا النور في المستقبل المنظور؛ وفي أي حال لن يكونا بديلاً عن الحلف الأطلسي. وشخّص وزير الخارجية الفرنسي الأسبق هوبير فيدرين وضْع أوروبا بأنها «تعاني من الشلل الاستراتيجي»، مما يعني أن موضوع الدفاع الأوروبي سيكون التحدي الدائم للسنوات المقبلة.

- دور الـ«ناتو»
في قمة الحلف الأطلسي الأخيرة في لندن (3 و4 ديسمبر/ كانون الأول الماضي) أثارت عبارة ماكرون عن «موت الحلف السريري» جدلاً واسعاً وردود فعل مستهجنة من غالبية الأعضاء؛ وعلى رأسهم الرئيس الأميركي. وبغض النظر عن نية الرئيس الفرنسي الاستفزازية الواضحة في انتقاء العبارات، إلا إن ما قاله يضع الأصبع على نوعية العلاقات المستقبلية بين جناحي الحلف؛ الأوروبي والأميركي، الأمر الذي يشكل تحدياً من الطراز الأول للأوروبيين الذين رأوا أن الشريك الأميركي في عهد الرئيس دونالد ترمب لا يعيرهم كبير اهتمام.
والدليل؛ أنه خرج من اتفاقية الصواريخ النووية متوسطة المدى من غير استشارتهم، وأنه سيتخلى عن اتفاقية «ستارت» بعيداً عنهم، فضلاً عن أن مواقفه من الحلف متأرجحة، وهو «يغمسهم»، كما تركيا؛ العضو في الحلف، في مسائل يفترض توضيحها، مثل تفعيل البند الخامس من معاهدة الحلف، الذي ينص على الدفاع عن أي عضو يتعرض لاعتداء خارجي. وما يريده ماكرون جهاراً وآخرون سراً أن يعيد الحلف النظر في استراتيجيته ويحدد من هم أعداؤه وما دوره. وكلها أسئلة استراتيجية؛ وعلى رأسها العلاقة مع موسكو، وهي التحدي الدائم ومصدر الانقسامات داخل الحلف كما داخل «الاتحاد».