3 صحف مصرية أمام اختبار استعادة دورها في الحياة الثقافية

مشرط جابر عصفور يطال «القاهرة» و«إبداع» و«الهلال» ويطلق رهانات وانتقادات

غلاف جريدة {القاهرة}
غلاف جريدة {القاهرة}
TT

3 صحف مصرية أمام اختبار استعادة دورها في الحياة الثقافية

غلاف جريدة {القاهرة}
غلاف جريدة {القاهرة}

تاريخ طويل من المد والجذر، والصعود والانكسار، قطعته المجلات الثقافية في مصر، بلغ ذروته في الستينات من القرن الماضي، من حيث الكم والكيف، الذي شهد باقة متنوعة من المجلات الثقافية استطاعت أن تقدم وجبة دسمة لجمهور المبدعين والقارئ المتذوق العادي، في السينما والمسرح والقصة والشعر والفن، وقضايا الفكر الإنساني والثقافة بشكل عام، كما استطاعت هذه المجلات في تلك الفترة أن تشكل امتدادا حيا لجذورها القريبة والبعيدة، مثل مجلة «روضة المدارس المصرية» التي أسسها رفاعة الطهطاوي عام 1870. لينقل من خلالها الثقافة الأوروبية، التي عاشها خلال بعثته في أوروبا إلى القارئ المصري والعربي.
وتقاطعت هذه المجلات مع عدد من المجلات المهمة صدرت في خضم الحرب العالمية الثانية، من أبرزها «التطور» لأنور كامل 1940، «المجلة الجديدة» التي كان يصدرها المفكر سلامة موسي، ثم أصبح رمسيس يونان رئيسا لتحريرها عام 1943. وقد أفردت مساحات أكبر للفنون التشكيلية، ثم مجلة «الكاتب المصري» لطه حسين في عام 1945. كما شهد مخاض الحرب العالمية الثانية صدور 3 مجلات مهمة في تاريخ الحياة الثقافية المصرية والعربية، وهي مجلة «الرسالة» لأحمد حسن الزيات في عام 1933، و«الثقافة» لأحمد أمين في عام 1934، و«أبوللو» 1932، التي أسسها الشاعر أحمد زكي أبو شادي.
ربطت هذه المجلات قضايا الأدب والفن والفكر بالمجتمع، ودافعت عن حرية الرأي والتعبير، ورفضت التبعية لنظام الحكم، وكانت صوتا معارضا للاستبداد السياسي، وحفرت ركائز أساسية لأفكار التنوير والتأصيل والتغيير، وشكلت منابر حقيقية للكتاب والأدباء والشعراء في تلك الفترة، كما كشفت عن الكثير من المواهب الطليعية في شتى مناحي الإبداع.
ومع بداية حقبة السبعينات، بدأ نجم هذه المجلات في الأفول والانحسار، وطغت هزيمة 1967 العسكرية على مجريات الحياة في مصر، ووضعت النكسة المثقفين والمبدعين على المحك أمام سؤال الهوية بكل تبدياته الملتبسة، وكان لا بد من البحث عن صيغة لوضع المثقفين في خندق السلطة، لمواجهة هذه الهزيمة، وبوصف هذه المواجهة خيارا ثوريا وحيدا يتضمن ضمنيا الإجابة عن سؤال الهوية الشائك.
لكن، مع ذلك، جرى البطش بالمثقفين والكتّاب المعارضين للسلطة آنذاك، ومطالبتهم بمحاكمة المسؤولين عن الهزيمة. وعلى أرض الواقع أسفر هذا المناخ عن إغلاق وتصفية عدد من المجلات المحورية، كان أبرزها مجلة «الطليعة» صوت اليسار المصري، التي كان يرأسها الكاتب اليساري لطفي الخولي، كما جرى السطو على مجلة «الكاتب» ذات الطبيعة الاشتراكية التقدمية التي كان يرأسها الكاتب أحمد عباس صالح، وتحويلها إلى مجلة أدبية برئاسة الشاعر صلاح عبد الصبور. وكلتا المجلتين تصدر عن مؤسسة حكومية؛ الأولى عن مؤسسة صحيفة «الأهرام»، والثانية عن وزارة الثقافة.
خيمت أجواء هذا المناخ المعادي للثقافة على حقبتي الثمانينات والتسعينات، حتى إن البحث عن نقطة توازن بين التبعية الكاملة أو التناقض أو الصراع مع السلطة، كان بمثابة تهمة تصم المثقفين بالتميع والانتهازية، ومحاولة إرضاء كل الأطراف، التي تكرسها سياسة «مسك العصا من الوسط».. وفكريا، برزت قضايا الفن للفن، والعلم للعلم، والعودة للجذور الثقافية في تراثنا المحلي، ومراعاة قيم المجتمع وأعرافه وتقاليده، بل إن الإبداع الرفيع أيا كان، مسرحا أو شعرا أو رواية، أو قصة، أو فيلما سينمائيا أو فنا تشكيليا، اتهم بالغموض واحتقار وعي الجماهير العريضة.
وباستثناء مجلتي «إبداع» في فترة رئاسة الدكتور عبد القادر القط، و«القاهرة»، في فترة رئاسة الدكتور غالي شكري، لم يكن ثمة نافذة ثقافية تُذكر في البلاد، خلال فترتي الثمانينات والتسعينات، ورغم دورهما النشط، فإنهما لم تتمكنا من سد الفراغ الثقافي، وحين توقفتا وتغير مسارهما برحيل الرجلين خلت مصر تقريبا من مجلة ثقافية حقيقية، فتكلست «إبداع» على يد مجلس تحرير رأسه الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، وأصبح مقياس النشر فيها يخضع في المقام الأول لذائقة مجلس التحرير نفسه، على عكس رحابة الدكتور القط، الذي أنشأ بابا خاصا بالمجلة سماه «تجارب»، أصبح سجلا للتجريب والحداثة الشعرية، كما تحولت مجلة «القاهرة» إلى صحيفة أسبوعية برئاسة الكاتب الصحافي صلاح عيسي، لكنها ظلت بمثابة عين لوزارة الثقافة أولا، تفسح المجال لكتبتها وسدنتها، ثم الحياة الثقافية ثانيا، وعلى استحياء بعيدا عن الدخول في معارك حقيقية يفرزها الحراك الثقافي وحركة الإبداع، وهو ما جعل الكتاب والمثقفين الجادين ينصرفون عنها.
وفي مسعى لاستعادة مجلات وزارة الثقافة دورها المفتقد في الحياة الثقافية، وجذب المثقفين والمبدعين للالتفاف حولها، ولتصبح نبضا حقيقيا لواقع مجتمع خاض ثورتين خلال السنوات الـ3 الأخيرة، أصدر الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة المصري قرارا بتولي الكاتب الصحافي الشاعر سيد محمود رئاسة تحرير صحيفة «القاهرة» الأسبوعية، لكن مشرط عصفور الإصلاحي أبقى على الكاتب الصحافي صلاح عيسى في منصب رئيس مجلس إدارة الصحيفة، وهو ما أثار انتقادات جمة في أوساط المثقفين، الذين تضافروا مع الصحيفة في ثوبها الجديد برئاسة محمود، بل راهنوا على أنها ستشكل إضافة حقيقة للثقافة المصرية.. ونجحت الصحيفة في هذا الرهان مع أول عدد جديد يصدر منها، محققا أعلى عائد توزيع لها على مدار تاريخها، وهو ما أشار له سيد محمود نفسه، في متابعته لمنافذ التوزيع في القاهرة والأقاليم.
وصف محمود مهمته الجدية في افتتاحية هذا العدد بـ«الشاقة»، واختتمها قائلا: «لكن ليس أمامنا سوى خيار المغامرة والتمسك بنور الخيال».. وحفل العدد بموضوعات ونصوص وتحقيقات وشهادات تؤكد روح المغامرة والحداثة والتجريب.
وفي مجلة «إبداع»، اتسم مشرط الوزير عصفور بروح ثورية، حيث أطاح بمجلس تحرير المجلة القديم برئاسة الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، وأصدرا قرارا بتولي الكاتب والقاص الروائي محمد منسي قنديل رئاستها، وكذلك تولي القاص الشاب طارق إمام مسؤولية مدير تحرير المجلة، على أن تصدر بشكل شهري كما كانت في السابق. وكانت مجلة تحولت إلى مجلة فصلية نظرا لتدهور أوضاعها وتدني أرقام توزيعها.
يكمل هذا المشهد الذي يراه كثير من الكتاب والمبدعين بمثابة صحوة ثقافية تولي الكاتب الروائي الصحافي سعد القرش مسؤولية تحرير مجلة «الهلال» الشهرية، وهي واحدة من أقدم المجلات الثقافية في مصر، أسسها جورجي زيدان في عام 1892، ومن ضمن إصداراتها «روايات الهلال»، التي تصدر بشكل شهري، وتُعد سجلا للأدب الروائي الرفيع سواء في نسيجه المصري أو العربي أو العالمي. وأيضا عانت «الهلال» طيلة السنوات الماضية من رؤساء تحرير لا علاقة لهم بالثقافة والإبداع بمعناهما الحقيقيين، حتى تحولت إلى مجرد قالب فارغ من القيمة الفكرية والإبداعية في شتى المستويات.
دشن القرش هذا المعنى الحقيقي عن علاقة الإبداع بهموم الوطن، في افتتاحية عدد «الهلال» لشهر أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، قائلا: «مصر كبيرة، ولا يكاد قارئ تاريخ مصر يصدق أنها ما زالت تحيا، بعد قرون من الاستعمار والاستنزاف. لا يدرك هذه الحقيقة كثير من أبنائها، بمن فيهم المرضى بالشوفينية. بعد جمعة الغضب 28 يناير 2011 كان العرب، في بلادهم وفي المنافي، يرون جوهر مصر التي يحلمون بها (مصرهم) القادرة على صنع المستحيل، الناهضة من رماد الموت».



إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر
TT

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

أعلنت لجنة الجائزة العالمية للرواية العربية (المعروفة بـ«البوكر العربية») صباح اليوم القائمة الطويلة لدورة عام 2026. وتم اختيار الـ16 المرشحة من بين 137 رواية، ضمن 4 روايات من مصر، و3 من الجزائر، و2 من لبنان، ورواية واحدة من السعودية، والعراق، والمغرب، وسوريا، واليمن، وتونس، وعمان. وتنوعت الموضوعات والرؤى التي عالجتها هذه الروايات كما جاء في بيان اللجنة، وهي:

«ماء العروس» للسوري خليل صويلح، و«خمس منازل لله وغرفة لجدتي» لليمني مروان الغفوري، و«الاختباء في عجلة الهامستر» للمصري عصام الزيات، و«منام القيلولة» للجزائري أمين الزاوي، و«عمة آل مشرق» لأميمة الخميس من السعودية، و«عزلة الكنجرو» لعبد السلام إبراهيم من مصر، و«أيام الفاطمي المقتول» للتونسي نزار شقرون، و«البيرق» للعُمانية شريفة التوبي، و«فوق رأسي سحابة» للكاتبة المصرية دعاء إبراهيم، و«في متاهات الأستاذ ف. ن.» للمغربي عبد المجيد سباطة، و«الرائي: رحلة دامو السومري» للعراقي ضياء جبيلي، و«غيبة مي» للبنانية نجوى بركات، و«أصل الأنواع» للمصري أحمد عبد اللطيف، و«حبل الجدة طوما» للجزائري عبد الوهاب عيساوي، و«الحياة ليست رواية» للبناني عبده وازن، و«أُغالب مجرى النهر» للجزائري سعيد خطيبي.

وستُعلَن القائمةُ القصيرة للجائزة في فبراير (شباط) المقبل، والرواية الفائزة في التاسع من أبريل (نيسان) 2026 في احتفالية تُقام في العاصمة الإماراتية أبوظبي.


متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال
TT

متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال

كان للسوري خالد سماوي مشروع رؤيوي مهم عبر، من خلال قاعته «أيام»، عن سعته في احتواء التجارب الفنية العربية، السورية منها بشكل خاص. ولقد سعدت حين رأيت ذات مرة معرضاً للفنان ثائر هلال في قاعة «أيام بلندن». ما فعله سماوي كان ريادياً من جهة أنه كان جديداً من نوعه. فلأول مرة هناك قاعة عربية تعرض لفنانين عرب وسط لندن. وفي دبي كانت له قاعة أيضاً. ولكن سماوي كان قبل ذلك قد فشل في فرض فكرته عن الاحتكار الفني المعمول به عالمياً يوم أصدر فنانون سوريون بياناً يتخلون من خلاله عن العلاقة بقاعته.

أتذكر منهم عيد الله مراد ويوسف عبد لكي وفادي يازجي وياسر صافي. السوريون يعرفون بضاعتهم أكثر منا. من جهتي كنت أتمنى أن ينجح خالد سماوي في مشروعه. فهو رجل طموح، ما كان لشغفه بالفن أن ينطفئ لولا جرثومة الوصاية التي تصيب أصحاب القاعات الفنية الناجحين في العالم العربي. في العالم هناك وصاية يمارسها صاحب قاعة على عدد من الرسامين الذين يتعامل معهم وهو ما يُسمى الاحتكار المحدود، غير أن ما يحدث في العالم العربي أن تلك الوصاية تتحول إلى وصاية وطنية شاملة. كأن يمارس شخص بعينه وصاية على الفن التشكيلي في العراق ويمارس آخر وصاية على الفن في لبنان وهكذا.

الخوف على المال

حين بدأ اهتمام المزادات العالمية بعد أن أقامت فروعاً لها في دبي بالنتاج الفني العربي، حرصت على أن تقدم ذلك النتاج بوصفه جزءاً من بضاعتها القادمة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وليس من العالم العربي. ومن الطبيعي أن يكون لتلك المزادات خبراؤها الذين حتى وإن لم تكن لهم دراية فنية أو معرفة تاريخية بتحولات الحداثة الفنية في العالم العربي فإنهم كانوا على استعداد لصناعة تاريخ مجاور من أجل الترويج للبضاعة المعروضة. وبذلك صنعت المزادات إحداثيات زائفة، ذهب ضحيتها الكثير من رجال الأعمال العرب الذين لم يسمعوا بشيء اسمه النقد الفني، وهم لذلك لم يعدّوا ما يقوله نقاد الفن العرب مرجعاً يُعتد به. كانت كتيبات ومنشورات المزادات هي مرجعهم الوحيد الموثوق به. وإذا ما قلنا لهم اليوم «لا تصدقوا ما يقوله خبراء المزادات» فسيسخر الكثير من مقتني الأعمال الفنية منا، لا لشيء إلا لأن ذلك يؤثر على القيمة المادية للأعمال الفنية التي اقتنوها.

الأسوأ من ذلك أن الكثير من أصحاب القاعات الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي صاروا يتحينون الفرص من أجل أن يتم عرض ما تكدس لديهم من أعمال فنية في تلك المزادات بسبب معرفتهم بحقيقة أن خبراءها لا خبرة لهم بالفن في العالم العربي وأن وصايتهم عليه مستلهمة من قوة المال لا من قوة الثقافة.

غياب سلطة النقد

لقد انتهى النقد الفني في العالم حين انتصر عليه المال. عبر أكثر من عشر سنوات لم تُعقد ندوات نقدية عن الفن في العالم العربي إلا بطريقة فقيرة بعيداً عن المراكز الحيوية التي كانت سوق الفن تحقق فيها نجاحاتها وأرباحها. لم يكن ذلك إلا انتصاراً لإرادة الخبراء الأجانب الذين نجحوا في العمل بعيداً عما يسببه نقاد الفن من صداع وإزعاج. في ذلك الفراغ تم تمرير الكثير من الأعمال المزورة كما تم إسباغ أهمية فنية على فنانين لا قيمة تاريخية أو فنية لأعمالهم.

قبل سنوات اتصلت بي سيدة نمساوية وطلبت اللقاء بي في أحد مقاهي لندن. حين التقيتها عرفت أنها اشترت مجموعة من الأعمال الورقية بنصف مليون درهم إماراتي رغبة منها في الاستثمار. حين رأيت تلك الأعمال اتضح لي أن تلك المرأة كانت ضحية لعملية استغفال، وأنها لن تتمكن من إعادة بيع ورقياتها لأنها لا قيمة لها. فجعت المرأة برأيي وكان واضحاً عليها أنها لم تصدقني. ذلك ما يفعله كل مقتني الأعمال الفنية العرب فهم لا يرغبون في أن يصدقوا أنهم كانوا ضحايا عمليات احتيال متقنة. في ظل غياب سلطة النقد الفني واختفاء النقاد أو اكتفاء بعضهم بالمتابعات الصحافية بعد أن أجبرتهم لقمة العيش على التحول إلى صحافيين، تستمر المزادات في تكريس سلطتها معتمدة على أموال المقتنين العرب.

محاولة لكسر الوصاية الأجنبية

وإذا ما تركنا المزادات وما يجري في كواليسها جانباً واتجهنا إلى أسواق الفن التي صارت تُقام سنوياً في مدن بعينها، فسنكتشف أن تلك الأسواق تُدار من قبل خبيرات أوروبيات. أصحاب القاعات الفنية العربية الذين شاركوا في العرض في تلك الأسواق يعرفون حقائق أكثر من الحقائق التي نعرفها ولكنهم لا يصرحون بها خشية على مصالحهم. ذلك لأن هناك شبكة من المنتفعين من تلك الأسواق في إمكانها أن تضر بهم أو هو ما يتوهمونه. ليس لأن المال جبان كما يُقال، بل لأن الإرادة ضعيفة. قيام سوق فنية عربية للفن هو الحل. ولكن ذلك الحل لن يكون ممكناً إلا بتضافر جهود أصحاب القاعات الفنية في العالم العربي. حقيقة أنا معجب بتجربة التعاون الحيوي والخلاق والنزيه بين غاليري مصر في القاهرة وغاليري إرم في الرياض. وفق معلوماتي، هذه هي المرة التي يتم فيها اختراق الحدود العربية بنتاج فني عربي. أجمل ما في الموضوع أن ذلك لا يتم من خلال فرض وصاية لا على الفن ولا على الفنانين. ليست الفكرة مدهشة فحسب، بل مفردات تنفيذها أيضاً. ذلك لأنها لا تقوم على تبادل ثقافي بين بلدين عربيين بقدر ما هي مساحة لعرض أعمال فنانين عرب بغض النظر عن هوياتهم الوطنية. ذلك التعاون مهم، كما أنه لا ينهي الوصاية الأجنبية على الفن في العالم العربي فحسب، بل أيضاً لأنه يمهد لولادة سوق نزيهة ومنصفة للفن.

حين حُول الفنانون إلى أجراء

في ظل غياب الملتقيات الفنية العربية نشط البعض في إقامة لقاءات فنية، غالباً ما تكون الجهات الراعية لها لا علاقة لها بالثقافة. فهي إما فنادق تسعى إلى الاستفادة من أوقات الكساد السياحي أو مصارف تقتطع الأموال التي تنفقها على النشاط الفني من الضرائب التي تدفعها. وهكذا ولدت ظاهرة اصطلح على تسميتها «السمبوزيوم». ذلك تعبير إغريقي يعني مأدبة الشرب من أجل المتعة مصحوباً بالموسيقى والرقص أو الحفلات أو المحادثة. ومن تجربتي الشخصية - وقد حضرت عدداً من تلك اللقاءات - فإن الأمر لا يخرج عن ذلك التوصيف إلا في منطقة واحدة، وهي أن القائمين على الـ«سمبوزيوم» كانوا يمارسون على الفنانين وصاية تجعلهم أشبه بالأجراء. لقد رأيت الرسامين والنحاتين يذهبون في ساعة محددة إلى العمل الذي لا ينتهون منه إلا في ساعة محددة. كان حدثاً فجائعياً أن يُطلب من الرسام أن يرسم ومن النحات أن ينحت.

كنت أشعر باليأس كلما رأيت تلك المشاهد. من الإنصاف القول هنا إن هناك مَن رفض أن ينضم إلى تلك الظاهرة حفظاً لكرامته. لذلك صار القيمون على تلك اللقاءات يتداولون فيما بينهم قوائم الفنانين الصالحين للوصاية. يشهد العالم لقاءات فنية شبيهة كل يوم. غير أنها لقاءات حرة فيها الكثير من البذخ، لا يشعر الفنان فيها بأن كرامته قد خُدشت وأنه صار أجيراً.


الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس
TT

الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس

رواية «مياو» لبينيتو بيريز غالدوس، التي صدرت في منتصف مسيرته المهنية، بترجمة مارغريت جول كوستا من الإسبانية، 302 صفحة، تصوّر معاناة موظف حكومي بيروقراطي مُسرّح من عمله.

كنت تعرّفتُ على روايات القرن التاسع عشر عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وأعيش مع عائلتي في مدريد. لكن القرن التاسع عشر الذي تعرّفتُ عليه لم يكن إسبانياً. وإذا كانت المكتبة الصغيرة للمدرسة البريطانية التي التحقتُ بها قد تضمّنت أعمالاً مترجمة لبينيتو بيريز غالدوس، فأنا لا أتذكرها، مع أن مدريد هي المدينة التي تدور فيها معظم رواياته. بدلاً من ذلك، كان هناك رفّ من روايات ديكنز، قرأتها بنهمٍ، وإن كان عشوائياً، ناسية حبكاتها وأنا أقرأها. كان غالدوس، الذي يصغر ديكنز بثلاثين عاماً قارئاً نهماً لأعمال الروائي الإنجليزي في شبابه، ويمكن ملاحظة تأثير ديكنز في شخصياته المتنوعة، وأنماطه المرسومة بشكل واسع، ومشاهده لقذارة المدن. ويشترك الكاتبان أيضاً في حماسة الإصلاح، مع أن شخصيات ديكنز في إنجلترا تُكافح التصنيع السريع، بينما في إسبانيا تُواجه شخصيات غالدوس عجز الحكومة وقوى رجعية راسخة.

غالدوس غير معروف في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وإن لم يكن ذلك بسبب قلة جهد المترجمين والناشرين.

عندما شرعت في كتابة هذه المراجعة، تخيلت أن عدداً قليلاً فقط من كتبه قد تُرجم، ولكن في الواقع، ظهرت نحو ثلاثين رواية باللغة الإنجليزية على مدار المائة وخمسين عاماً الماضية، نُشر العديد منها أكثر من مرة. هذه الروايات لم يبقَ منها إلا القليل، ومن المرجح أن يكون القراء المعاصرون الذين سبق لهم الاطلاع على أعمال جالدوس قد قرأوا إحدى الروايتين: «فورتوناتا وجاسينتا» (1887) أو «تريستانا» (1892)، اللتين تجذبان قراء مختلفين. «فورتوناتا وجاسينتا» رواية واقعية طموحة تُصعّد من حدة الأحداث، وتُعتبر عموماً أعظم رواية إسبانية في القرن التاسع عشر. وهي تروي قصة امرأتين على علاقة برجل واحد (غير جدير بالثقة)، بالإضافة إلى قصة مدينة مدريد، من مركزها النابض بالحياة إلى ضواحيها المتوسعة. أما «تريستانا»؛ فهي رواية أقصر وأكثر غرابة، وتدور حول فتاة يتيمة في التاسعة عشرة من عمرها يتبناها صديق لوالدها ويستغلها ببراعة. وكان لويس بونويل قد حوَّلها إلى فيلم سينمائي، وأصبحت من كلاسيكيات السينما. (قام بونويل أيضاً بتكييف روايتي غالدوس «نازارين» و«هالما»، والأخيرة بعنوان «فيريديانا»).

لم تُترجم روايتا «فورتوناتا» و«جاسينتا» إلى الإنجليزية حتى عام 1973، أي بعد نحو قرن من نشرها الأصلي. ربما يُعزى ذلك جزئياً إلى حجمها الضخم، لكن هذا التأخير يُشير إلى تدني مكانة إسبانيا في أدب القرن التاسع عشر - ففي نهاية المطاف، يُعتبر طول رواية مثل: «الحرب والسلام» أو «البؤساء» وسام فخر.

وقد يُشار أيضاً إلى ميل القراء المترجمين إلى توقع أن تُناسب الأدبيات الوطنية نمطاً مُعيناً - رومانسياً وتقليدياً في حالة إسبانيا القرن التاسع عشر. عند الأجيال السابقة، كانت رواية «دونيا بيرفكتا» أشهر رواية غالدوس بالإنجليزية، وهي عمل مبكر عن أم ريفية مُسيطرة تُحبط زواج ابنتها من ابن عمها الحضري. لغتها وحبكتها ميلودرامية، وأجواء قريتها أبسط من مدريد فورتوناتا وجاسينتا متعددة الطبقات. لكن موضوعها الأساسي - إسبانيا الحديثة الليبرالية في حرب مع قوى التقاليد المفسدة - حاضر في جميع أعماله الروائية.

تحت تأثير الكوميديا الإنسانية لبلزاك، شرع غالدوس في سبعينات القرن التاسع عشر في أولى روايتين ضخمتين، إحداهما تاريخية والأخرى اجتماعية. وفي هذه الأيام، تحول الاهتمام في إسبانيا إلى روايته التاريخية: «الحلقات الوطنية»، وهي غير متوفرة في الغالب باللغة الإنجليزية. كان هذا مشروعاً ضخماً: ست وأربعون رواية، نُشرت في خمس سلاسل على مدار مسيرته المهنية، تناول فيها تاريخ الصراع المستمر بين الملكيين الإسبان والليبراليين خلال القرن التاسع عشر.

* خدمة «نيويورك تايمز»