الولايات المتحدة تريد تعزيز وجودها العسكري في جنوب أوروبا

TT

الولايات المتحدة تريد تعزيز وجودها العسكري في جنوب أوروبا

علمت «الشرق الأوسط» من مصادر إسبانية مسؤولة أن مدريد تبلغت من واشنطن مؤخراً رغبة الولايات المتحدة تعزيز قواتها العسكرية الموجودة في قاعدة «روتا» بالقرب من مدينة قادش الأندلسية، والتي تعتبر القاعدة العسكرية الأكبر في جنوب أوروبا.
وتقول المصادر إن الإدارة الأميركية تريد استبدال السفن الحربية الموجودة حالياً في القاعدة بواسطة سفن حديثة أكثر تطوراً، وزيادة قواتها بإرسال 600 عنصر إضافي من مشاة البحرية، إضافة إلى سرب من طائرات الهليكوبتر.
وتفيد مصادر عسكرية إسبانية بأن هدف البحرية الأميركية هو أن تكون القاعدة مجهّزة بمجموعة كاملة من السفن المدمّرة والطرّادات، وأن تكون «القوة البحرية الأميركية المتقدمة» في أوروبا مكوّنة من أربع وحدات عملية بشكل دائم، إذ من المعتاد أن تكون اثنتان غير جاهزتين بسبب أعطال تقنية أو صيانة مبرمجة. وتقول هذه المصادر إن القاعدة الإسبانية قادرة على استيعاب المزيد من المعدات والقوات الأميركية، وإن المنشآت التابعة لها مجهزة للقيام بأعمال الصيانة في القاعدة.
المصادر الحكومية من جهتها تقول إن الرغبة الأميركية قد نوقشت على المستوى التقني، لكنها لم تُناقَش على المستوى السياسي، وأشارت إلى أن التجاوب مع هذه الرغبة يقتضي تعديل الاتفاقية الثنائية الموقعة بين إسبانيا والولايات المتحدة عام 1988، وأنه من غير الوارد في الوقت الراهن الدخول في أي مفاوضات حالياً قبل تشكيل حكومة جديدة بكامل الصلاحيات وليس مع حكومة تصريف أعمال كالحكومة الحالية.
وتفيد معلومات أن هذه المبادرة الأميركية تندرج في سياق خطة لوزارة الدفاع (البنتاغون) من أجل تجهيز قاعدة «روتا» بأحدث المعدات العسكرية، تحسّباً لأي عمليات في المنطقة المحيطة بالبحر المتوسط، والتي أصبحت بعد التطورات التي شهدتها في السنوات الأخيرة «منطقة عالية التوتّر تراجع فيها النفوذ الأميركي بشكل ملحوظ لحساب الاتحاد الروسي وقوى إقليمية مثل إيران وتركيا»، كما يقول مصدر عسكري إسباني يتابع ملفّ العلاقات مع واشنطن.
وتجدر الإشارة إلى أن قاعدة «روتا» تضمّ حاليّاً 4250 جنديا أميركيا، بينهم وحدة للتدخّل السريع تابعة لسلاح مشاة البحرية (مارينز) تريد واشنطن مضاعفة عدد أفرادها وتجهيزها بسرب إضافي من طائرات الهليكوبتر المتطورة.
ويذكر أن رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز كان قد تناول الموضوع مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب على هامش القمة الأخيرة للحلف الأطلسي التي عقدت في لندن، كما قال مصدر مسؤول، حيث شدّد على مشاركة القوات المسلّحة الإسبانية في بعثات عسكرية دولية لحفظ السلام في أفغانستان والعراق ولبنان ومالي، وعلى الخدمات التي تقدّمها في قاعدتي «روتا» و«مورون» للقوات الأميركية والأطلسية. وأضاف المصدر أن الرئيس الأميركي خفّف من حدة انتقاداته لإسبانيا بسبب عدم استيفائها شرط نسبة 2 في المائة من إجمالي الناتج المحلي كحد أدنى للإنفاق العسكري، عندما حذّر الدول التي لا تستوفي هذا الشرط من أنها ستدفع مقابله فاتورة أعلى كضرائب جمركية إضافية على صادراتها إلى الولايات المتحدة.
وتعدّ المنظومة العسكرية الأميركية في قاعدة «روتا» جزءا أساسيا من الدرع المضادة للصواريخ التي صممها الحلف الأطلسي لمواجهة هجوم مفترض من إيران أو كوريا الشمالية، كما تقوم بعمليات في محيط المتوسط كما حصل في أبريل (نيسان) من العام 2017 عندما أطلقت المدمرتان «روس» و«بورتر» صواريخ «كروز» على أهداف تابعة للجيش السوري، ردّاً على استخدام قوات النظام أسلحة كيماوية.
وكانت حكومة مدريد قد كشفت أول من أمس عن رسالة تلقّتها وزيرة الدفاع الإسبانية مارغاريتا روبليس من نظيرها الأميركي مارك إسبر، يشكر فيها إسبانيا على استضافتها القوات المسلحة الأميركية في قاعدتي «مورون» و«روتا»، وعلى تعاونها داخل الحلف الأطلسي وفي التحالف الدولي ضد «تنظيم داعش».
ويذكر أن إسبانيا كانت قد قررت مؤخراً تمديد وجود بطاريّة من صواريخ «باتريوت» في الجنوب الشرقي من تركيا لفترة ستة أشهر، بعد أن كانت إيطاليا قد سحبت بطاريتها. ويقول مصدر إسباني إن القرار هو «لفتة تجاه الحلفاء، ورسالة على أن التضامن مع تركيا لم يتأثر رغم الخلافات العميقة معها بسبب اجتياحها مناطق في الشمال السوري».



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟