الصين تحاول السيطرة على العالم اقتصادياً بـ«طريق الحرير»

فرض خيارات جديدة أمام الدول عبر ما يعد «أكبر مشاريع الاستثمار في التاريخ»

الصين تحاول السيطرة على العالم اقتصادياً بـ«طريق الحرير»
TT

الصين تحاول السيطرة على العالم اقتصادياً بـ«طريق الحرير»

الصين تحاول السيطرة على العالم اقتصادياً بـ«طريق الحرير»

يبدو أن دور المعدات العسكرية والخطط الحربية التقليدية قد تراجع، وأصبح في طور التلاشي في القرن الحادي والعشرين، كأداة لسيطرة القوى العظمى وهيمنتها على العالم، حيث ظهرت أدوات جديدة، لتحل محل الأدوات القديمة البالية، ومنها على سبيل المثال السيطرة الاقتصادية والاستثمارية، وهي الأداة التي قررت الصين استخدامها لبسط نفوذها الجيوسياسى على العالم أجمع، لترسخ أقدامها كثاني أكبر قوة اقتصادية فوق هذا الكوكب.
وتنفيذاً لهذه السياسية، أعلن الرئيس الصيني شي جينبينغ في عام 2013 عن مشروع ضخم سيسمح للصين بفرض نفسها على الساحة الدولية كثاني أكبر قوة اقتصادية عالمية، وهو المشروع المسمى «طريق الحرير»، الذي يشمل بُعدين أساسيين: يتعلق الأول بطريق برى، بينما يكمن الثاني في حزام بحري، ليرسما ويحددا الرهانات الجيوسياسية على مستويات كثيرة لا تكشفها العلاقات الدولية ولا تتعرض لها، حيث يعتمد المشروع على إجمالي العلاقات الاقتصادية، ليس فقط في آسيا ولكن أيضاً يمتد إلى ربط وتعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية بين آسيا وأفريقيا وأوروبا. ونظراً لأهمية هذا المشروع، ليس فقط على الساحة الاقتصادية الآسيوية ولكن على الساحة الدولية، فقد صدر منذ بضعة أيام فقط عن دار النشر الكندية «آسيا المعاصرة» كتاب «طريق الحرير الجديد - البعد الجيوسياسى لمشروع صيني ضخم»، الذي جاء في 300 صفحة من القطع المتوسط.
ويتمتع الكتاب بأهمية كبيرة، ليس لأنه يكشف النقاب عن الوجه الحقيقي للمشروع الصيني ولكن أيضاً لأنه يمثل عملاً موسوعياً لهذا المشروع الضخم، من خلال جهد كبير لعدد من الباحثين المتخصصين، تحت إشراف وإدارة ثلاثة من ألمع العقول في هذا المجال، وهم: بارتليمي كورمنت الأستاذ بجامعة ليل الفرنسية مدير الأبحاث بمعهد العلاقات الدولية والاستراتيجية بفرنسا، وإل إريك موتيه أستاذ الجغرافيا السياسية بقسم الجغرافيا بجامعة الكيبك بمونتريال بكندا، وفريدريك لاسيير الأستاذ بقسم الجغرافيا بجامعة لافال بالكيبك بكندا الباحث في «معهد الكيبك للدراسات الدولية العليا» مدير «مجلس الكيبك للدراسات الجيوسياسية»، الأمر الذي يضفي على الكتاب طبيعة خاصة، وميزة نوعية في هذا المجال.
وفي إطار سعي المؤلفين لتعميق الجانب المعرفي حول عمليات تحول المجتمعات والدول الآسيوية، يسعى الكتاب للرد على عدد من الأسئلة المهمة، مثل: ما مردود الانشقاقات الناجمة عن ظهور القوى العظمى في القرن التاسع عشر؟ هل هناك مفهوم للتنمية المستدامة في آسيا؟ وغيرهما من الأسئلة التي تأتي على خلفية اهتمام الكتاب بأنماط كثيرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، إضافة إلى تحديد مكانة آسيا المعاصرة في ديناميكية العولمة الاقتصادية التي ترتكز على النموذج الغربي وعالم أحادي القطب تهيمن عليه الولايات المتحدة الأميركية.

- حقائق وأرقام
يؤكد الكتاب أن صعود الصين القوي على الساحة الدولية، وترسيخ مكانتها كقوة دولية، إنما يمثل وبحق رهانات مهمة للعلاقات الدولية، وهي رهانات كان يتم تجاهلها في السابق، إلا أنها تفرض نفسها اليوم بقوة على الساحة الدولية، حيث تؤكد الأرقام هذه الحقيقة، كما تشير الإحصائيات إلى أن صافي الناتج المحلي الصيني سيتجاوز نظيره الأميركي خلال بضع سنوات، وستتربع الصين دون شك على قمة هرم القوى الاقتصادية العالمية، بفضل ما تتبناه من استراتيجيات اقتصادية تسمح لها بالحفاظ على القمة. ولتحقيق ذلك، فإن الأمر يتطلب من الصين قلب المعطيات والتوازنات والمؤسسات الراهنة، مروراً برسم علاقات جديدة بين الدول والمجتمعات، وهي السياسة التي تسعى الصين منذ عام 2000 نحو تنفيذها، حيث حدد الرئيس الصيني شي جينبينغ الأهداف التي ينبغي إنجازها، مثل «صعود الصين السلمي 2003» و«المجتمع المتجانس 2004» أو «القوى الناعمة»؛ وكلها تسميات تحمل في طياتها مشروعات السياسة الداخلية أو الخارجية للصين، كما أنها تعود في واقع الأمر إلى حقيقة تاريخية لها جذور عميقة في ثقافات وحضارات الصين وأوروبا. وقد رأت الصين أن السبيل لتحقيق ذلك يكمن في إحياء أسطورة مشروع «طريق الحرير» التجاري البري، وشقه البحري الرابط بين شرق آسيا وغرب أوروبا، مروراً بالشرق الأوسط، الأمر الذي يعزز من الوجود الصيني، ليس فقط في جنوب شرقي آسيا ولكن أيضاً في أفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط وأوروبا. ولذلك، فقد اتخذت الصين قراراً منذ نحو 20 عاماً يكمن في الانفتاح على العالم أجمع، واضعة قدراتها وإمكانياتها المهمة في مجالات متنوعة بين اقتصادية وعسكرية وثقافية. وفي أقل من عشرة أعوام، نجح الرئيس الصيني، من خلال شعار «الكل رابح»، في البدء بمشروعات طويلة المدى، من شأنها أن تسمح بترسيخ أقدام الصين كقوة دولية فاعلة عن طريق مثلث ثلاثي الأضلاع: يكمن الأول في الاقتصاد، والثاني في القدرات العسكرية، بينما يكمن الضلع الثالث في البعد الثقافي الذي يمثل أهمية خاصة كقوة ناعمة.

- مغزى طريق الحرير
الثابت أن «طريق الحرير»، كما يوضح الكتاب، ليس بجديد، إذ تعود تسميته للقرن التاسع عشر للألماني فردناند فون ريشوفيم، ويقصد به (ولقرون عدة) العلاقة الأساسية للتبادلات التجارية بين دول غرب أوروبا والصين. كما أكد بعض أساتذة الجامعات البريطانية على الأهمية النوعية لهذا الطريق، وعلى رأسهم البريطاني بيتر فرامتوبان الذي أكد بدوره على أهمية هذا الطريق خلال القرنين الماضيين، خصوصاً أنه يتعلق بإقامة بنى تحتية عملاقة آسيوية تربط الصين بباقي الدول الآسيوية وأوروبا وأفريقيا، وذلك بإقامة محاور نقل بري، وسكك حديدية عبر آسيا، وهي أفكار ليست بجديدة، إذ تعود لعام 1959، على يد الأمم المتحدة وبعض المؤسسات، ولكن التفكير في الفكرة اليوم ومدى نجاحها يعتمد على قدرة الصين المالية التي تسعى لتصدر المشهد من خلال هذا الطريق، ولكن بطابع استثماري لإضفاء الصفة الشرعية، وتعزيز أهمية المشروع الذي لن يتنازل الصينيون عن تنفيذه، إيماناً منهم بمدى أهميته للإنسانية. ولذلك، فقد حركوا التاريخ والجغرافيا لتسويق هذا المشروع الضخم عالمياً في غلاف أنه يحمل الخير والنماء للبشرية جمعاء.
ويوضح الكتاب أنه إضافة إلى البعد الاقتصادي لهذا المشروع الذي لا يمكن إغفال المبالغ الضخمة المستهدفة للاستثمار فيه، التي تتجاوز ديون بعض الدول الشريكة، فإن هذا المشروع يستفيد وبقوة من التحرك الدبلوماسي الصيني، وقوة بكين الناعمة الهائلة في القرن الـ21. كما يأتي هذا المشروع كذلك في إطار استمرار جهود إغواء وجذب المجتمع الدولي، وهو المسعى الذي تتجه نحوه الصين منذ أكثر من عشرة أعوام، استفادة من وضعها وصورتها الإيجابية في مناطق كثيرة في العالم، خصوصاً الدول النامية، وكذلك الدول التي ضربتها مؤخراً أزمات اقتصادية واجتماعية عميقة، بهدف تحويل علاقات القوة في المجتمع الدولي إلى خدمة الصين، ودعم هدفها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، مع تعديل المدركات ووضع الرهانات الثقافية في قلب اللعبة الجيوسياسية، وذلك من خلال مشروع مهيمن يراه الغرب على أنه يهدف إلى خلق نظام عالمي جديد، الأمر الذي يعنى وضع هرم جديد للمجتمع الدولي لما بعد الحرب العالمية الثانية، كما تم تسويق المشروع على أنه يحمل الأمل والرخاء والنماء للمجتمعات الناشئة.

- هدف اقتصادي أم أداة للقوة؟
يؤكد الكتاب أن أهداف مشروع «طريق الحرير» تتجاوز الأهداف التقليدية، لا سيما أنه يعد أكبر مشروع استثماري دولي في تاريخ البشرية، ليتجاوز بذلك تعديل أوضاع الفقراء في غرب الصين، وذلك بالانفتاح على العالم أجمع، من خلال إبرام شراكات اقتصادية وتجارية مستدامة، تكون الصين المستفيد الأساسي منها، هذا بالإضافة إلى مبدأ «الكل رابح» الذي يهدف بدوره إلى تعزيز قوة ووضع الصين اقتصادياً. كما يهدف أيضاً إلى تحقيق طموحات أوسع من ذلك، لا تتوقف عند الصين كقوة إقليمية في قطاع واحد فقط، وهو القطاع الاقتصادي، ولكن يمثل أداة مهمة لخدمة القوة الصينية من خلال استراتيجية التأثير التي تنتهجها الصين منذ حقبتين زمنيتين في مجالات كثيرة، باستخدام البعد الثقافي في المقدمة، والبعد الاقتصادي كوسيلة وليس غاية. كما أن هذا المشروع يأتي في إطار استراتيجية «القوة الناعمة» التي أعلنتها الصين رسمياً في 2007، وتتميز بتعدد المبادرات، والانفتاح على مئات المعاهد الدولية، كما أن استراتيجية النفوذ الصيني تكمن كذلك في ظهور نموذج للحوكمة وإدارة وضبط مفردات العلاقات الدولية، في الوقت الذي تجابه فيه سياسة تعددية القطب تحديات كثيرة، وتتراجع فيه قوة الولايات المتحدة الأميركية، بينما تسعى الصين بخطى حثيثة نحو تنفيذ مشاريع مهمة ذات طابع دولي؛ أي أننا أمام مشروع يمثل تحولاً حقيقياً في علاقة الصين بباقي دول العالم، لأنها تكرس وجودها بفرض نموذج جديد يجسد وضعها الجديد كقوة فاعلة في الساحة الدولية.
ويخلص الكتاب إلى سؤال مهم، فحواه: ما العمل في مواجهة الصين؟ ويلفت إلى أن الإجابة عنه تكمن في أن الرابط بين مشروع «طريق الحرير» وظهور الصين كقوة دولية إنما يشغل ليس فقط الدوائر السياسية والمجتمع الصيني فحسب، بل يمتد للعالم أجمع، خصوصاً في ظل مخاوف البعض الذين حققوا بعض المكاسب من الهيمنة الصينية، لكن الشيء المؤكد الآن يكمن في أن صعود الصين يشغل الجميع، ويبرر وضع سياسات تهدف من شأنها إلى مجابهة الديناميكية الصينية، أو السير في ركابها، يعزز ذلك أن المشروع الصيني يعد نموذجاً لتأكيد قوة الصين، ويستهدف جميع دول العالم، ويبرر وضع سياسات مرتبطة بذلك. هذا، مع حالة الترقب التي تجتاح القارة الأوروبية بين متحمس في الشرق ومنقسم في الغرب حول المشروع، فيما يسود انقسام داخل القارة الأفريقية حول الأهداف الصينية، رغم القمم «الأفريقية - الصينية»، وهو الأمر نفسه بالنسبة للوضع في أميركا اللاتينية والشرق الأوسط.
وفيما يتعلق بالدول الآسيوية المرتبطة بالمشروع بشكل مباشر، فتشهد حالة من التنافر الشديد يمكن أن تؤدى إلى الارتباك في جهود الاندماج الإقليمي. بالإضافة إلى ذلك، فإن هناك بعض التباين في تقدير المشروع، وفقاً للمستوى الاقتصادي للدول المعنية بالمشروع، فالدول النامية ترى أن المشروع يمثل فرصة للاستفادة أكثر من كونه يمثل مجازفة جراء التبعية، بينما يسيطر على القوى العظمى القلق على مصالحها، وما حققته من تقدم ملحوظ، ولكن موقفها في مواجهة الصعود الصيني يترافق مع استراتيجيات مختلفة أحياناً بين اغتنام الفرصة والبحث عن تبادل لاستئناف مبادرة إيمانويل ماكرون خلال زيارته للصين في يناير (كانون الثاني) 2018، أو محاولة وضع خيارات للتبادل مع اليابان والهند والولايات المتحدة الأميركية.


مقالات ذات صلة

وزير الدفاع السعودي ونظيره الفرنسي يبحثان في الرياض أفق التعاون العسكري

الخليج الأمير خالد بن سلمان خلال استقباله سيباستيان ليكورنو في الرياض (واس)

وزير الدفاع السعودي ونظيره الفرنسي يبحثان في الرياض أفق التعاون العسكري

بحث الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي مع سيباستيان ليكورنو وزير القوات المسلحة الفرنسية، مستجدات الأوضاع الإقليمية وجهود إحلال السلام في المنطقة والعالم.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق أعضاء اللجنة الوزارية أعربوا عن رغبتهم في تعزيز التعاون بما يعكس الهوية الثقافية والتاريخية الفريدة للمنطقة (واس)

التزام سعودي - فرنسي للارتقاء بالشراكة الثنائية بشأن «العلا»

أكد أعضاء اللجنة الوزارية السعودية - الفرنسية بشأن تطوير «العلا»، السبت، التزامهم بالعمل للارتقاء بالشراكة الثنائية إلى مستويات أعلى.

«الشرق الأوسط» (باريس)
الخليج وزير الخارجية السعودي مع نظيره الفرنسي خلال لقاء جمعهما على غداء عمل في باريس (واس)

وزير الخارجية السعودي يبحث مع نظيره الفرنسي تطورات غزة ولبنان

بحث الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي مع نظيره الفرنسي جان نويل، الجمعة، التطورات في قطاع غزة وعلى الساحة اللبنانية، والجهود المبذولة بشأنها.

«الشرق الأوسط» (باريس)
الخليج وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان يستقبل نظيره الفرنسي جان نويل بارو في الرياض (واس)

فيصل بن فرحان يناقش التطورات اللبنانية مع نظيريه الفرنسي والأميركي

ناقش وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، مع نظيره الفرنسي جان نويل بارو، التطورات على الساحة اللبنانية والجهود المبذولة بشأنها.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الخليج الأمير خالد بن سلمان خلال لقائه في مكتبه بالرياض السفير الفرنسي لودوفيك بوي (وزارة الدفاع السعودية)

وزير الدفاع السعودي والسفير الفرنسي يناقشان الموضوعات المشتركة

ناقش الأمير خالد بن سلمان بن عبد العزيز وزير الدفاع السعودي مع لودوفيك بوي سفير فرنسا لدى المملكة، الاثنين، عدداً من القضايا والموضوعات ذات الاهتمام المشترك.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية
TT

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية

اشتهر كارل فون كلاوزفيتز، كبير فلاسفة الحرب في الغرب، بملاحظته أن الحرب امتداد للسياسة، كما أشار إلى نقطة ثانية، وهي أن الحرب تابعة للسياسة، ومن ثم فهي تتشكّل من خلالها، مما يجعل «تأثيرها ملموساً حتى في أصغر التفاصيل العملياتية».

نحن نرى هذا اليوم في الشرق الأوسط، حيث قد تسترشد محاولات إنقاذ الرهائن الفتاكة، والاغتيالات الكبرى، كتلك التي أودت بحياة حسن نصر الله زعيم «حزب الله»، بنقاط سياسية بقدر ما تسترشد بالرغبة في إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. وعلى الجانب الآخر من المعادلة، يبدو أن أحدث سرب من الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي انفجر معظمها من دون ضرر فوق إسرائيل، كان عملاً من أعمال المسرح السياسي الذي يهدف في المقام الأول إلى رفع المعنويات على الجبهة الداخلية.

من المفيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وآية الله علي خامنئي من إيران، ناهيكم عن الرئيس الأميركي المقبل، أن يقرأوا كتاب جفري فافرو «حرب فيتنام: تاريخ عسكري» (652 صفحة، دار «بيسك بوكس» للنشر).

إنه يُلقي أفضل نظرة عامة على المغامرة الأميركية في جنوب شرقي آسيا، ومن المؤكد أنه سوف يصبح كتاباً معيارياً عن تلك الحرب، وبينما نتابع المعاناة الجارية في الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يقدّم لنا أيضاً دروساً قوية بشأن المخاطر المترتبة على شن حرب مفتوحة من دون إستراتيجية حقيقية.

تركّز أغلب كتب التاريخ عن حرب فيتنام على الدبلوماسية والسياسة في الصراع، بالعودة إلى العمليات العسكرية للأحداث الرئيسية فقط، مثل هجوم «تيت» ومعركة مدينة «هوي»؛ إذ يتبع واورو، المؤرخ في جامعة نورث تكساس، نهجاً أكثر تنويراً.

ووفقاً لرأي فافرو، كان التدخل الأميركي في فيتنام بمثابة درس كبير في كيفية تجنّب شنّ الحرب، وقد أدى الاعتقاد الطائش في فاعلية القوة النارية المحضة، إلى حملات القصف الأميركية المدمِّرة التي كما يقول واورو: «أدّت إلى إحراق سُبع أراضي جنوب فيتنام» و«خلقت خمسة ملايين لاجئ داخلي»، على أمل دفع قوات «فيت كونغ» الفيتنامية إلى العراء، ورفض الخصم الشيوعي القتال بهذه الطريقة، بل كانوا يشتبكون سريعاً، ثم ينسحبون عندما يردّ الأميركيون بوابل عنيف من نيران المدفعية والغارات الجوية. في الأثناء ذاتها، كلما حاول الرئيس ليندون جونسون - الذي لم يدرس مبادئ كلاوزفيتز - فصل الحرب عن السياسة، بالكذب بشأن تكاليفها ورفض تعبئة الاحتياطي العسكري؛ صارت الحرب أكثر سياسية، وهيمنت على الخطاب الأميركي، ثم عصفت به خارج الرئاسة.

لم يكن أداء أميركا أفضل مع الهجمات المستهدفة، وكما هو الحال مع أجهزة البيجر المتفجرة التي استخدمتها إسرائيل، فإن برنامج «فينكس» من إعداد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاغتيال أعضاء «فيت كونغ» قد «ركّز على (القبض أو القتل)»، كما كتب واورو، وأدى إلى سقوط ضحايا أبرياء، كما أنه لم يؤدِّ إلى الاقتراب من نهاية الحرب؛ لأن البرنامج بأكمله كان مبنياً على «أرقام ملفقة»، كما يوضح المؤلف، «وليس على الواقع الحقيقي»، وكان البرنامج عبارة عن طريقة أخرى لقتل الناس من دون فهم الحرب.

جعلتني قراءة التاريخ الرائع الذي كتبه فافرو أفكّر في نتيجة لازمة جديدة لنظريات كلاوزفيتز: كلما كانت الاستراتيجية أقل تماسكاً في الحرب، أصبحت أكثر تسييساً، دخلت الولايات المتحدة الحرب لأسباب سياسية ودبلوماسية غامضة (الظهور بمظهر الصرامة أمام خصوم الحرب الباردة ليس نهاية المطاف). بعد عقدين من الزمان كان الغزو القصير والفوضوي لجنوب «لاوس» من قِبل القوات البرّية الفيتنامية الجنوبية والقوة الجوية الأميركية بمثابة «مسرحية سياسية، وليس حرباً»، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1972، لم تكن هناك نهاية في الأفق، وكان الدافع وراء الهجوم هو رغبة الرئيس ريتشارد نيكسون في جعل الأمر يبدو وكأن فيتنام الجنوبية تتولّى زمام الأمور في القتال، وبدلاً من ذلك، زاد من زعزعة استقرار المنطقة، ولم يفعل شيئاً يُذكر لقطع خطوط إمداد العدو.

لحسن الحظ، خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة السياسة لخدمة المجهود الحربي بدلاً من العكس، وإن لم يكن الجميع يرَون الأمر على هذا النحو. في كتاب «أميركا أولاً: روزفلت ضد ليندبيرغ في ظل الحرب» (444 صفحة، دار «دوبلداي للنشر»)، يُصوّر إتش دبليو براندز، نجم الطيران الشهير تشارلز ليندبيرغ، الذي تحدث عن النزعة الانعزالية في البث الإذاعي الوطني، بوصفها أمراً ساذجاً، ولكن صادقاً، في حين يُصوّر الرئيس فرانكلين روزفلت بأنه مخادع بشكل ملحوظ في جهوده لدفع الولايات المتحدة إلى الحرب.

لكن في الواقع، كان فرانكلين روزفلت هدفاً كبيراً لهذه التهمة؛ إذ تعهد الرئيس أثناء حملته الانتخابية للفوز بولاية ثالثة غير مسبوقة، قائلاً: «لن يُرسَل أبناؤكم إلى أي حروب خارجية»، وكان جيمس، نجل روزفلت، يتساءل عن سبب اتخاذ والده هذا الموقف، فقال والده موضحاً: «جيمي، كنت أعلم أننا ذاهبون إلى الحرب، كنت متأكداً من أنه لا يوجد مخرج من ذلك، كان لزاماً أن أثقّف الناس بشأن الحتمية تدريجياً، خطوة بخطوة»، ربما يكون هذا مخادِعاً، لكن هذه السياسة ساعدت الأميركيين على المشاركة في المجهود الحربي، كان كلاوزفيتز ليفخر بذلك.

في الوقت نفسه، عندما يرفض ليندبيرغ الدعوة إلى هزيمة ألمانيا في أواخر يناير (كانون الثاني) 1941، يُعيد إلى الأذهان رفض دونالد ترمب دعم المعركة الأوكرانية ضد العدوان الروسي، ويلاحظ براندز، وهو مؤرخ في جامعة تكساس فرع أوستن، ليونةَ ليندبيرغ إزاء ألمانيا النازية، ولكن - في رسم صورة متعاطفة للرجل - يستبعد عديداً من التفاصيل التي تظهر في كتب أخرى، مثل السيرة الذاتية تأليف «إيه سكوت بيرغ»، الفائزة بجائزة بوليتزر لعام 1998.

لا يذكر براندز، على سبيل المثال، أن ليندبيرغ رفض في مايو (أيار) 1940 الحديث عن مخاطر انتصار النازية، بوصفه «ثرثرة هستيرية»، أو أنه، في العام نفسه، ألّفت زوجة الطيار آن مورو ليندبيرغ كتاب «موجة المستقبل»، وفيه جادلت بأن العهد الجديد ينتمي إلى أنظمة استبدادية، وكان ذلك الرجل يحمل مثل هذه الولاءات المُرِيبة حتى بعد بيرل هاربر، كما قال ليندبيرغ (في تصريحات أغفلها براندز أيضاً): «إن بريطانيا هي السبب الحقيقي وراء كل المتاعب في العالم اليوم».

إن مثل هذه الإغفالات تجعل كتاب براندز يبدو وكأنه مُوجَز متحيّز إلى ليندبيرغ أكثر من كونه كتاباً تاريخياً نزيهاً. كتب براندز يقول: «لقد أصاب ليندبيرغ كثيراً في حملته ضد الحداثة، لكنه أخطأ في أمر واحد كبير- فهو لم يرَ أن الأميركيين كانوا على استعداد للتدخل في الصراعات الخارجية». وأودّ أن أزعم أن ليندبيرغ كان مخطئاً أكثر من ذلك؛ فقد عبث بمعاداة السامية، وهو شيء ينتقص براندز من أهميته، وعلى نحو مفاجئ بالنسبة لطيار شهير، لم يكن يبدو أن لديه الكثير من البصيرة في دور القوة الجوية في الحرب، وحتى في القراءة الأكثر تعاطفاً، لا بد أن كلاوزفيتز كان ليحتدم غيظاً.

الجنرال البروسي العجوز هو موضوع تحليل جديد لاذع، وربما شديد التحريض من ناحية «أزار غات»، المؤرخ الفكري في جامعة تل أبيب. في كتابه «أسطورة كلاوزفيتز: أو ملابس الإمبراطور الجديدة» (228 صفحة، دار «كرونوس للنشر»)، يزعم غات أن كتاب كلاوزفيتز «عن الحرب» مؤثر بصورة رئيسية؛ لأنه مُحير للغاية. ويَخلُص إلى أن «الكثير من سمعة الكتاب تستند إلى سوء فهم دائم لما يعنيه في الواقع».

هناك في الأساس اثنان من كلاوزفيتز؛ الأول ألّف في وقت مبكر من حياته المهنية الكثير من كتب «عن الحرب»، بينما يسعى إلى فهم انتصارات نابليون السريعة والساحقة على بروسيا، والآخر كان يحاول بعد سنوات رسم مسارٍ لاستعادة بروسيا مكانتها في أوروبا، ولكن بدلاً من تأليف كتاب ثانٍ، كما يقول غات، عاد الضابط البروسي ونقّح كتاب «عن الحرب» بطرق تتناقض على نحو جَلِيّ مع بعض الأجزاء الأسبق من نفس الكتاب. بدأ كلاوزفيتز بكتابة أن النصر يعتمد على هزيمة سريعة للعدوّ في معركة كبيرة واحدة. وفي وقت لاحق أدرك أن العديد من الأطراف الفاعلة، سيما الأضعف منها، قد يكون لديها سبب لإطالة أمد القتال. وشرع في التنقيح، لكنه لم يكن لديه الوقت لعلاج هذا التضادّ قبل وفاته عام 1831.

وبينما كنت أقرأ كتاب غات، ظللتُ أفكّر في أنه لم يدرك النقطة الأكثر أهميةً؛ قد تشوب الأعمال الكلاسيكية حالة من النقص إلى حد بعيد؛ إذ تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات، وهو ما كان بمثابة طريق أكثر أماناً للاستمرار عبر الزمن. في الواقع، كانت واحدة من أشهر ملاحظات كلاوزفيتز تتعلّق بطرح الأسئلة، وهو يقول إنه قبل أن تتصاعد أعمال العنف يجب على القادة المفكرين أن يسألوا أنفسهم: ما نوع هذه الحرب؟ وما الذي تريد أمّتي تحقيقه؟ وهل يمكن أن تحقّق ذلك فعلاً؟

هذه اعتبارات جيدة. إن مواصلة حرب استنزاف لا نهاية لها، سواء في جنوب شرقي آسيا، أو في الشرق الأوسط، من غير المرجّح أن تؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى والموت، وعلى نحو مماثل، لو تعامل قادة أميركا بجدّية مع نهاية المسألة قبل غزو فيتنام، ناهيكم عن العراق أو أفغانستان، ربما كانت حروبهم لتسير على نحو أفضل كثيراً، أو ربما لم تكن لتحدث على الإطلاق.

-------------------

خدمة: «نيويورك تايمز».