لا مستقبل للناتو من دون موسكو

لا مستقبل للناتو من دون موسكو
TT

لا مستقبل للناتو من دون موسكو

لا مستقبل للناتو من دون موسكو

أثبتت قمة الناتو التي جرت في 3 و4 من هذا الشهر في بريطانيا أن أحد العوامل التي تساهم في الحفاظ على وحدة صفوف هذا الحلف هي روسيا. تنظر هذه المنظمة إلى موسكو كـ«تهديد للأمن الأوروبي - الأطلسي»، وذلك وفقاً للبيان الختامي. ولكن تشير تصريحات بعض الدول من أعضاء الناتو حول روسيا وأيضاً الأحداث ما قبل القمة إلى خلافات عميقة داخل الحلف.
قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالتصريح المخلص للغاية قبل القمة عندما وصف الناتو بأنه في حالة «موت دماغي»، مشيراً إلى عدم وجود تنسيق بين أعضاء الناتو. لم يوافق معه الأمين العام للحلف الشمالي الأطلسي ينس ستولتنبرغ وقادة بعض الدول، وهاجمه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وقال لماكرون: «توجه بنفسك إلى طبيب لفحص حالة الموت السريري لديك قبل كل شيء».
ولا يقتصر الأمر على التصريحات والاتهامات فقط. هناك أيضاً نقاط الخلاف بين دول الناتو. وما يلفت النظر هو أن من أثار أكثرية هذه الخلافات هي الولايات المتحدة، أي الدولة التي تترأس حلف شمال الأطلسي، ومن المفترض أن تقوم بإطفاء التناقضات.
طبعاً قبل كل شيء هناك خلافات عميقة بين أميركا وتركيا في اﻵونة الأخيرة، وهناك كثير من المشاكل بينهما. لا ننسى أن واشنطن تقدم الدعم العسكري والسياسي لأكراد سوريا، وهذا خط أحمر بالنسبة لتركيا التي ردت على ذلك مؤخراً بالعملية العسكرية «نبع السلام» ضد مقاتلي «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد). ومن جديد استعملت الولايات المتحدة ضد أنقرة لغة العقوبات وحتى هددت بتدمير الاقتصاد التركي. أكثر من ذلك، بدأ النقاش في الولايات المتحدة حول احتمال استثناء تركيا من الناتو. وقد تدعم ذلك وفقاً لاستطلاعات الرأي بعض الدول الأوروبية. فقد أجرت شركة YouGov الاستطلاع في ألمانيا الذي أشار إلى أن 58 في المائة من مواطنيها يؤيدون طرد أنقرة من الناتو. وجدير بالذكر أيضاً مسألة تسليم منظومة إس - 400 الروسية لتركيا. وهذا ما أدى إلى توتر إضافي ليس فقط في العلاقات الأميركية التركية بل أيضاً في صفوف الناتو. واﻵن هناك أصوات متزايدة داخل الحلف للرد على تصرفات أنقرة.
ولكن ليست تركيا هي الوحيدة التي تحصد التداعيات السلبية للسياسة الأميركية على الساحة العالمية. انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران أدى ليس فقط إلى التوتر الحالي في الخليج، بل إلى رد حاد من قبل بعض الدول الأوروبية. وهذا لأسباب مفهومة. فقد حطم الرئيس الأميركي دونالد ترمب في لحظة واحدة الجهود التي بذلتها خلال 10 سنوات، ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، بالتعاون مع روسيا والصين.
يمكن القول الشيء نفسه عن الانسحاب الأميركي من معاهدة الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى. شعرت الدول الأوروبية بالأمن والأمان قبل هذه الخطوة، والآن على ما يبدو ستجبر واشنطن بعض هذه الدول على نشر صواريخ من هذا النوع على أراضيها، وقد أبلغت روسيا أنها سترد على هذه الإجراءات بالخطوات نفسها، لذلك تقع المسؤولية جميعها على واشنطن بهذا التطور الخطير. والسؤال يطرح نفسه: أليس من الأفضل أن تكون لدى الدول الأوروبية السياسة المستقلة والقرارات السيادية بدلاً من تلقي الأوامر من قائد الناتو؟ خاصة أن للتعاون الأوروبي - الأميركي تداعيات سلبية، ليس فقط في المجال الأمني بل أيضاً الاقتصادي والتجاري، مثلاً حول «السيل الشمالي - 2». ومن المعروف أن واشنطن تحاول عرقلة دخول هذا المشروع حيز التنفيذ، بغض النظر عن أن أنابيب الغاز هذه ستساهم في تأمين الدول الأوروبية في مجال الطاقة. مثال آخر هو التناقضات بين الولايات المتحدة وفرنسا حول الشركات الإلكترونية الأميركية. باريس تود أن تفرض ضرائب عليها وواشنطن تهدد برفع التعريفات الجمركية على بضائع فرنسية.
وعلى ما يبدو أصبح الناتو بالنسبة للولايات المتحدة قبل كل شيء مشروعاً مدراً للأموال، وليس حلفاً لمواجهة التحديات المشتركة. هذا الاستنتاج واضح في ضوء الطلبات الأميركية المستمرة والمتكررة لترفع الدول الأعضاء في الناتو إنفاقها الدفاعي بنسبة 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وبطبيعة الحال فإن المستفيد الرئيسي من ذلك هي الشركات الأميركية المنتجة للأسلحة. وهنا من جديد يتصرف دونالد ترمب كرجل أعمال وليس كسياسي، ويدرك ذلك أعضاء الناتو الآخرون.
ولكن هناك أيضاً الخلافات بين الدول المتحالفة الأخرى. وقعت تركيا مذكرتي تفاهم أمني وبحري مع حكومة الوفاق في طرابلس، وهذا قبل أيام فقط من قمة الناتو، وأدى ذلك إلى رد متشدد من قبل اليونان، وأيضاً مصر وقبرص، وطلبت أثينا نص الاتفاق حول التعاون التركي - الليبي في البحر، وبعدما لم تحصل عليها طردت اليونان السفير الليبي، وقام الاتحاد الأوروبي بالطلبات نفسها، والآن يدرس خيارات رد فعل على تركيا.
وتشير كل هذه الخلافات داخل حلف شمال الأطلسي إلى أن الدول المتحالفة لا تريد تلبية الأوامر الأميركية دون تحفظات كما لبتها في أيام الحرب الباردة. لديها المصالح الوطنية. وتتناقض تلك المصالح مع المصالح الأميركية ومصالح دول الأخرى. طبعاً هذا لا يعني أن الناتو على وشك الانهيار أو سيتفكك في المستقبل القريب. هذا السيناريو وارد فقط في حال التغيرات الجذرية على الساحة العالمية المشابهة لانهيار الاتحاد السوفياتي ومعاهدة وارسو، ولكن سيتحول الناتو بالنسبة لأعضائه إلى الرمال المتحركة أكثر وأكثر؛ أي لا تفيد العضوية في هذا الحلف ولا يمكن الخروج منه.
هذا من جهة. ومن جهة أخرى، الناتو لا يزال منظمة قوية. والدليل على ذلك، الدور الذي لعبه الحلف في ليبيا في عام 2011، وهي تعاني من تداعيات هذا التدخل حتى اﻵن ولا يستطيع المجتمع الدولي أن يعالج الأوضاع هناك. أكثر من ذلك الناتو يتوسع، ومن المفترض أنه سيضم مقدونيا الشمالية في المستقبل، وأيضاً هناك نوايا لضم جورجيا وأوكرانيا إلى صفوفه، وأكد ذلك ينس ستولتنبرغ خلال القمة، وهذا هو خط أحمر بالنسبة لروسيا، التي لن تكون صامتة في حال تنفيذ هذه الخطط. وبشكل عام توسيع الناتو واقترابه من حدودها يقلق موسكو للغاية، ويجبر القيادة الروسية على أن ترد على هذه الخطوات.
واللافت للنظر أن بعض الدول لا تعتبر روسيا عدواً لحلف شمال الأطلسي، بل تسميها شريكاً. هذا ما أشار إليه إيمانويل ماكرون خلال القمة، ورفض أيضاً الرئيس البولندي أندجي دودا أن يسمي روسيا عدواً. ولكن عندما تحتاج الدول المتحالفة إلى شريك فهي تحتاج أيضاً إلى عدو، وهذا الشرط الرئيسي لمن يريد أن يحافظ على صفوفه ووحدته، ولكن ليس العدو الضعيف الذي يمكن أن يدمره الناتو خلال بعض الأسابيع بل العدو الصامد والقوي. ويمكن أن تلعب هذا الدور روسيا فقط، ولهذا السبب تستمر الموجة الإعلامية لشيطنة موسكو، كما تستمر الضغوط السياسية والعسكرية والاقتصادية عليها، والكل يدرك أنه من دون موسكو لا مستقبل للناتو.
* كاتب روسي



إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
TT

إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)

عاشت إيران على مدى 25 عاماً صراعاً داخلياً مريراً بين البعد الآيديولوجي «الثوري» والنظرة الاستراتيجية الساعية لحماية الدولة ومصالحها في عالم متغير.

ورغم الآمال بتحولات جذرية، اصطدمت محاولات الإصلاح بمقاومة مراكز القوى التقليدية، مما حال دون حسم التناقض بين مبادئ «الثورة» ومتطلبات المصالح القومية بشكل جذري، أو تحقيق توافق مستدام بين هذين النهجين المتعارضين.

منذ عام 2000، شهدت إيران تداول السلطة بين خمسة رؤساء للجمهورية بصلاحيات محدودة، وتعاقب خمسة برلمانات تأثرت بالتيارين الرئيسيين «الإصلاحي» و«المحافظ»، في ظل جدل مستمر حول طبيعة الحكم، اتجاهاته، وأولوياته.

ومع دخول إيران منتصف العقد الرابع من عمر ثورة 1979، لا تزال صلاحيات الجهازين المنتخبين، التشريعي (البرلمان) والتنفيذي (الحكومة)، خاضعة بالكامل لهيمنة مراكز صنع القرار، على رأسها مؤسسة المرشد علي خامنئي الذي يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة تجعله فوق جميع مؤسسات الدولة.

في المقابل، توسع دور المؤسسات العسكرية والسياسية مثل «الحرس الثوري» و«مجلس صيانة الدستور» اللذين يحملان على عاتقهما حماية المبادئ الآيديولوجية لنظام الحكم، المستند إلى دستور يقوم على مبدأ «ولاية الفقيه» الركيزة الثابتة في موازين القوى الداخلية. هذه المؤسسات تشكل أدوات أساسية في الحفاظ على هوية «الجمهورية الإسلامية» وتعزيز نهجها المعادي للغرب.

بعد نحو 45 عاماً من «الثورة الإسلامية» في إيران لم يحسم التناقض بين مبادئها والمصالح القومية (غيتي)

خاتمي وتحول الصراع

تزامنت بداية الألفية الجديدة في إيران مع مرحلة حاسمة من عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، تحديداً الفترة الأخيرة من رئاسته (1997 - 2005). اتسمت هذه المرحلة بتصاعد المواجهة بين الإصلاحيين والمحافظين، إذ عمل التيار المحافظ على عرقلة الشعارات الإصلاحية التي رفعها خاتمي، خصوصاً في مجالي الحريات المدنية وحرية التعبير.

ولعبت المؤسسات غير المنتخبة التي تخضع لإشراف مباشر من المرشد علي خامنئي، مثل «مجلس صيانة الدستور» والقضاء، دوراً حاسماً في تعطيل الإجراءات الإصلاحية، مما جعل الإصلاحيين يواجهون تحديات متزايدة في تحقيق أجندتهم السياسية والاجتماعية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية. عدَّ خاتمي أن الإصلاحات ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية نظام الحكم وتكيّفه مع المتغيرات الداخلية والخارجية، بينما رأى منتقدوه في طروحاته تدخلاً خطيراً يهدد أسس نظام «ولاية الفقيه».

عملت طهران على تحسين علاقاتها مع الغرب وتعزيز الهوية الوطنية من خلال مبادرات مثل «حوار الحضارات»، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والغزو الأميركي للعراق عام 2003 شكّلا ضربة لهذا التوجه. ومع سقوط نظام صدام حسين، وجدت إيران فرصة لتوسيع نفوذها الآيديولوجي في العراق عبر دعم جماعات مرتبطة بها كانت قد نشأت وتشكّلت داخل أراضيها.

ساهم الملف النووي في تقويض مبادرة «حوار الحضارات» لخاتمي، وزيّف محاولات بناء الثقة مع الغرب، مما زاد من عزلة إيران والتوترات الإقليمية والدولية.

لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في البرنامج النووي وحروب المنطقة (موقع خامنئي)

«الحرس» والدور الإقليمي

كما لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في قضايا البرنامج النووي، والتطورات الداخلية، وحروب أفغانستان والعراق في نهاية عهد خاتمي.

في أفغانستان، دعم «الحرس الثوري»، الولايات المتحدة، في إطاحة حركة «طالبان». أما في العراق، فقد قاد «فيلق القدس» جماعات عراقية مسلحة لتعزيز النفوذ الإيراني الذي استمر لسنوات. كما توسعت أنشطة الفيلق بقيادة الجنرال قاسم سليماني في لبنان، مما أسهم في إنشاء شبكة عمل موازية للدبلوماسية الإيرانية في السياسة الإقليمية.

تعزيز الحضور العسكري الأميركي في المنطقة دفع إيران إلى الشعور بالتهديد، مما أدى إلى توسيع برامجها الأمنية والاستراتيجية، على رأسها البرنامج النووي وتطوير الصواريخ الباليستية.

وفي عام 2002، أثار اكتشاف منشآت نووية سرية شكوك المجتمع الدولي حول نيّات البرنامج الإيراني، بما في ذلك احتمال إنتاج أسلحة نووية. ومع تصاعد التوترات، تحولت أولويات الغرب مع طهران إلى لجم أنشطتها النووية.

كما هدد المسؤولون الأميركيون، خصوصاً خلال فترة حكم جورج بوش، مراراً باستخدام الخيار العسكري إذا استمرت إيران في أنشطتها النووية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية

«النووي» ملفاً للجدل الداخلي

مُذّاك، أثار الملف النووي جدلاً داخلياً في إيران حول الأولويات الوطنية، إذ سعى الإصلاحيون للحفاظ على العلاقات الدولية وتقليل التوتر، بينما دفع المحافظون نحو التشبث بالمبادئ الآيديولوجية.

في 2003، أعلنت طهران وقف تخصيب اليورانيوم «طواعية» كجزء من اتفاق «سعد آباد» مع الترويكا الأوروبية، مع تعهد بعدم إحالة الملف إلى مجلس الأمن، وإقامة علاقات اقتصادية مع أوروبا. في العام نفسه، بدأت إيران الترويج لفتوى المرشد علي خامنئي التي تحرم إنتاج السلاح النووي أو تخزينه أو استخدامه، مما أصبح أساس الموقف الإيراني الدولي حول البرنامج النووي.

لكن الولايات المتحدة المتشككة في نيّات طهران، عدّت الاتفاق غير كافٍ، واتهمت إيران بتوسيع برنامجها النووي، ما دفعها لفرض عقوبات اقتصادية على البنوك الإيرانية وقطاع الطاقة.

ولاحقاً أحالت ملف إيران إلى مجلس الأمن في خطوة لاقت مساندة دولية. حدث ذلك في بداية عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، مما دفع إيران لتبني سياسة هجومية تجاه القوى الغربية.

لم تعلن إيران رسمياً امتلاكها برنامجاً لتطوير السلاح النووي. ونشرت الاستخبارات الأميركية في 2007 تقريراً يفيد بأن إيران أوقفت برنامجاً لتطوير السلاح النووي في 2003، وساهم التقرير في تعديل الموقف الأميركي.

خلال ثماني سنوات من رئاسة محمود أحمدي نجاد، تصاعد التوتر مع الغرب بسبب البرنامج النووي الإيراني الذي ارتفع تخصيب اليورانيوم فيه إلى 20 في المائة. وأصر أحمدي نجاد على حق إيران في استخدام التكنولوجيا النووية سلمياً. رداً على ذلك، فرضت عقوبات مشددة على إيران استهدفت برنامجها النووي، ومبيعات النفط، والاقتصاد، ووُضعت تحت الفصل السابع.

عززت إيران نفوذها في الشرق الأوسط فازداد التوتر مع قوى إقليمية (أ.ب)

إيران وفرصة «الربيع»

على صعيد العلاقات الخارجية، سعت إيران لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية والأفريقية وأميركا اللاتينية، ودعمت جماعات مسلحة مثل «حزب الله» و«حماس».

مع اندلاع ثورات «الربيع العربي»، سعت إيران لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما زاد التوترات مع القوى الإقليمية والدول العربية. وكان دعم نظام بشار الأسد في سوريا من أولويات حكومة أحمدي نجاد، قبل تسليم السلطة لحسن روحاني.

داخلياً، شهدت إيران أزمة كبيرة بعد فوز أحمدي نجاد في انتخابات 2009، ما أدى إلى احتجاجات «الحركة الخضراء» إثر رفض نتائج الانتخابات التي جرت بين أحمدي نجاد والمرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

بعد انتهاء فترة رئاسة أحمدي نجاد، سعت إيران إلى تهدئة التوترات مع الغرب، ودخلت في مفاوضات نووية بهدف إدارة هذه التوترات مع القوى الكبرى. استمرت المفاوضات لعامين، وأسفرت عن اتفاق نووي في 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذي أدى إلى تجميد العقوبات الأممية المفروضة على إيران وفرض قيود على برنامجها النووي.

لعب المرشد الإيراني دوراً محورياً في المفاوضات، إذ مهّد لذلك بمفاوضات سرية خرجت للعلن بإعلان «المرونة البطولية». ووضع خامنئي خطوطاً حمراء تتضمن الحفاظ على حق إيران في تخصيب اليورانيوم، ورفع العقوبات الاقتصادية، ورفض دخول المفتشين الدوليين إلى المنشآت العسكرية.

دعم خامنئي بحذر فريق الرئيس حسن روحاني في المفاوضات النووية، رغم الضغوط من التيارات المحافظة، من دون أن يتحمل المسؤولية المباشرة عن النتائج. كانت المفاوضات توازناً بين الآيديولوجيا والمصالح الاستراتيجية، إذ سعت إيران للحفاظ على شعاراتها «الثورية»، وفي الوقت نفسه التعامل مع المتغيرات الدولية، ومواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، وتمويل أنشطتها الإقليمية، وضمان استمرارها لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط.

استمر «الحرس الثوري» الإيراني في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق، وتوسعت أنشطته في دعم الجماعات التي تدعمها إيران وتعزيز وجودها العسكري هناك. كما وسّع أنشطته الصاروخية. وفي الوقت نفسه، هدد المرشد الإيراني بطرد القوات الأميركية من المنطقة. هذه الأنشطة أثارت قلق الإدارة الأميركية، ما دفع الرئيس دونالد ترمب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي.

خامنئي خلال لقائه قدامى المحاربين في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية (إ.ب.أ)

«الصبر» لمواجهة «الضغوط»

وفي مواجهة «الضغوط القصوى» التي مارستها إدارة ترمب، بما في ذلك منع إيران من مبيعات النفط، تمسكت طهران أكثر بسياسات «السير على حافة الهاوية» و«الصبر الاستراتيجي». كما شهدت المياه الإقليمية توترات بسبب احتجاز ناقلات نفط من قبل «الحرس الثوري» بعدما هددت طهران بعرقلة خطوط النفط. وقرر ترمب تصنيف «الحرس الثوري» على قائمة الإرهاب.

جاء مقتل قاسم سليماني بأمر من ترمب في لحظة مفصلية من تفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، مما قرب البلدين من حافة الانزلاق إلى حرب مباشرة.

في تسجيل مسرب عام 2021، دعا وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، إلى تحقيق توازن بين السياسة الخارجية و«الميدان»، مشيراً إلى تأثير «فيلق القدس» الذراع الخارجية لـ«الحرس الثوري». وكشف عن انقسام داخلي بين التيار الآيديولوجي والبراغماتي، إذ سعى الأخير لتحقيق مصالح مثل رفع العقوبات. دافع ظريف عن قناعته بأن العمل الدبلوماسي يعتمد على الواقع الميداني، والعكس صحيح، إذ يمكن للدبلوماسية أن تمنح «شرعية دولية» للإنجازات الميدانية.

مع مجيء الرئيس الأميركي جو بايدن، استخدم المرشد الإيراني نفوذه لدعم «الحرس الثوري»، وأبدى مرونة محدودة لإدارة التوترات عبر المفاوضات النووية. حاول بايدن العودة للاتفاق النووي مع طهران، لكن الإجراءات النووية غير المسبوقة التي اتخذها الجانب الإيراني وتولي حكومة محافظة بقيادة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، ودخول روسيا في حرب مع أوكرانيا، عرقلت المسار الدبلوماسي إلى حد كبير.

قاسم سليماني (تسنيم)

رئيسي و«الحكومة الثورية»

مع تولي رئيسي، تمسكت طهران بالإبقاء على المسار الدبلوماسي لطاولة المفاوضات مع الغرب، من دون أن تعبر المفاوضات خط النهاية.

فسرت مرحلة رئيسي في البداية بأنها امتثال لمقاربة طرحها المرشد الإيراني بشأن تولي «حكومة ثورية» في بداية العقد الرابع من نظام الحكم، وتوحيد توجهات أركان الدولة، وحصرها بيد المحافظين، بعدما واصل هيمنته على البرلمان.

حملت حكومة إبراهيم رئيسي نقاط تشابه كبيرة مع حكومة محمود أحمدي نجاد؛ فمن جهة عادت طهران لمساعي التقارب مع القوى الإقليمية، ومن جهة أخرى راهنت على الالتفاف على العقوبات وإبطال مفعولها. وسرعت خطواتها النووية، اعتماداً على قانون أقره البرلمان في نهاية 2020، بدعم كبير من المرشد.

شهد عام 2024 تطورات غير متوقعة في إيران، إذ أدى تحطم مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي إلى انتخابات رئاسية مبكرة فاز فيها النائب مسعود بزشيكان. تعهد الرئيس المدعوم من الإصلاحيين بمواصلة سياسة «التوجه نحو الشرق» وتعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، إضافة إلى السعي لرفع العقوبات عبر العودة للمفاوضات النووية.

إقليمياً، تحولت طهران من «حرب الظل» مع إسرائيل إلى ضربات مباشرة، بينما تعرضت لانتكاسات استراتيجية مهمة، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد وتراجع دور «حزب الله» و«حماس». ومن شأن هذه التطورات أن تضعف دور «الحرس الثوري» الإقليمي، لكنها قد تنذر بانتقاله لمحاولة تعويض ذلك في مناطق أخرى، بما في ذلك الداخل الإيراني.

بزشكيان ومصالحة داخلية

تأتي رئاسة بزشكيان التي ينظر إليها على أنها محاولة للمصالحة الداخلية في إيران، في فترة حساسة مع ترقب الإيرانيين لملف خلافة المرشد. من غير المتوقع أن تحدث تغييرات جذرية في العلاقات مع الغرب، ويُحتمل أن يحصل بزشكيان على صلاحيات محدودة في المفاوضات النووية.

شدد بزشكيان بعد فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية على ضرورة إدارة العلاقة والمواجهة مع الولايات المتحدة من قبل الإيرانيين أنفسهم. قال بزشكيان إن نهج حكومته سيكون في إطار استراتيجية نظام الحكم وتوجهاته الشاملة.

من المرجح أن يحصل بزشكيان على دعم خامنئي والتيار «الثوري» للتوصل إلى تسوية تهدف إلى تخفيف الضغوط على إيران. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة الابتعاد عن حافة الهاوية، بل يعكس توجهاً لتوسيع هامش المناورة في مواجهة التوترات مع الغرب. ومن المتوقع أن تستمر إيران في هذا النهج على المدى القريب، على الأقل حتى تتضح ملامح هوية المرشد الإيراني الثالث.