لا مستقبل للناتو من دون موسكو

لا مستقبل للناتو من دون موسكو
TT

لا مستقبل للناتو من دون موسكو

لا مستقبل للناتو من دون موسكو

أثبتت قمة الناتو التي جرت في 3 و4 من هذا الشهر في بريطانيا أن أحد العوامل التي تساهم في الحفاظ على وحدة صفوف هذا الحلف هي روسيا. تنظر هذه المنظمة إلى موسكو كـ«تهديد للأمن الأوروبي - الأطلسي»، وذلك وفقاً للبيان الختامي. ولكن تشير تصريحات بعض الدول من أعضاء الناتو حول روسيا وأيضاً الأحداث ما قبل القمة إلى خلافات عميقة داخل الحلف.
قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالتصريح المخلص للغاية قبل القمة عندما وصف الناتو بأنه في حالة «موت دماغي»، مشيراً إلى عدم وجود تنسيق بين أعضاء الناتو. لم يوافق معه الأمين العام للحلف الشمالي الأطلسي ينس ستولتنبرغ وقادة بعض الدول، وهاجمه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وقال لماكرون: «توجه بنفسك إلى طبيب لفحص حالة الموت السريري لديك قبل كل شيء».
ولا يقتصر الأمر على التصريحات والاتهامات فقط. هناك أيضاً نقاط الخلاف بين دول الناتو. وما يلفت النظر هو أن من أثار أكثرية هذه الخلافات هي الولايات المتحدة، أي الدولة التي تترأس حلف شمال الأطلسي، ومن المفترض أن تقوم بإطفاء التناقضات.
طبعاً قبل كل شيء هناك خلافات عميقة بين أميركا وتركيا في اﻵونة الأخيرة، وهناك كثير من المشاكل بينهما. لا ننسى أن واشنطن تقدم الدعم العسكري والسياسي لأكراد سوريا، وهذا خط أحمر بالنسبة لتركيا التي ردت على ذلك مؤخراً بالعملية العسكرية «نبع السلام» ضد مقاتلي «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد). ومن جديد استعملت الولايات المتحدة ضد أنقرة لغة العقوبات وحتى هددت بتدمير الاقتصاد التركي. أكثر من ذلك، بدأ النقاش في الولايات المتحدة حول احتمال استثناء تركيا من الناتو. وقد تدعم ذلك وفقاً لاستطلاعات الرأي بعض الدول الأوروبية. فقد أجرت شركة YouGov الاستطلاع في ألمانيا الذي أشار إلى أن 58 في المائة من مواطنيها يؤيدون طرد أنقرة من الناتو. وجدير بالذكر أيضاً مسألة تسليم منظومة إس - 400 الروسية لتركيا. وهذا ما أدى إلى توتر إضافي ليس فقط في العلاقات الأميركية التركية بل أيضاً في صفوف الناتو. واﻵن هناك أصوات متزايدة داخل الحلف للرد على تصرفات أنقرة.
ولكن ليست تركيا هي الوحيدة التي تحصد التداعيات السلبية للسياسة الأميركية على الساحة العالمية. انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران أدى ليس فقط إلى التوتر الحالي في الخليج، بل إلى رد حاد من قبل بعض الدول الأوروبية. وهذا لأسباب مفهومة. فقد حطم الرئيس الأميركي دونالد ترمب في لحظة واحدة الجهود التي بذلتها خلال 10 سنوات، ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، بالتعاون مع روسيا والصين.
يمكن القول الشيء نفسه عن الانسحاب الأميركي من معاهدة الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى. شعرت الدول الأوروبية بالأمن والأمان قبل هذه الخطوة، والآن على ما يبدو ستجبر واشنطن بعض هذه الدول على نشر صواريخ من هذا النوع على أراضيها، وقد أبلغت روسيا أنها سترد على هذه الإجراءات بالخطوات نفسها، لذلك تقع المسؤولية جميعها على واشنطن بهذا التطور الخطير. والسؤال يطرح نفسه: أليس من الأفضل أن تكون لدى الدول الأوروبية السياسة المستقلة والقرارات السيادية بدلاً من تلقي الأوامر من قائد الناتو؟ خاصة أن للتعاون الأوروبي - الأميركي تداعيات سلبية، ليس فقط في المجال الأمني بل أيضاً الاقتصادي والتجاري، مثلاً حول «السيل الشمالي - 2». ومن المعروف أن واشنطن تحاول عرقلة دخول هذا المشروع حيز التنفيذ، بغض النظر عن أن أنابيب الغاز هذه ستساهم في تأمين الدول الأوروبية في مجال الطاقة. مثال آخر هو التناقضات بين الولايات المتحدة وفرنسا حول الشركات الإلكترونية الأميركية. باريس تود أن تفرض ضرائب عليها وواشنطن تهدد برفع التعريفات الجمركية على بضائع فرنسية.
وعلى ما يبدو أصبح الناتو بالنسبة للولايات المتحدة قبل كل شيء مشروعاً مدراً للأموال، وليس حلفاً لمواجهة التحديات المشتركة. هذا الاستنتاج واضح في ضوء الطلبات الأميركية المستمرة والمتكررة لترفع الدول الأعضاء في الناتو إنفاقها الدفاعي بنسبة 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وبطبيعة الحال فإن المستفيد الرئيسي من ذلك هي الشركات الأميركية المنتجة للأسلحة. وهنا من جديد يتصرف دونالد ترمب كرجل أعمال وليس كسياسي، ويدرك ذلك أعضاء الناتو الآخرون.
ولكن هناك أيضاً الخلافات بين الدول المتحالفة الأخرى. وقعت تركيا مذكرتي تفاهم أمني وبحري مع حكومة الوفاق في طرابلس، وهذا قبل أيام فقط من قمة الناتو، وأدى ذلك إلى رد متشدد من قبل اليونان، وأيضاً مصر وقبرص، وطلبت أثينا نص الاتفاق حول التعاون التركي - الليبي في البحر، وبعدما لم تحصل عليها طردت اليونان السفير الليبي، وقام الاتحاد الأوروبي بالطلبات نفسها، والآن يدرس خيارات رد فعل على تركيا.
وتشير كل هذه الخلافات داخل حلف شمال الأطلسي إلى أن الدول المتحالفة لا تريد تلبية الأوامر الأميركية دون تحفظات كما لبتها في أيام الحرب الباردة. لديها المصالح الوطنية. وتتناقض تلك المصالح مع المصالح الأميركية ومصالح دول الأخرى. طبعاً هذا لا يعني أن الناتو على وشك الانهيار أو سيتفكك في المستقبل القريب. هذا السيناريو وارد فقط في حال التغيرات الجذرية على الساحة العالمية المشابهة لانهيار الاتحاد السوفياتي ومعاهدة وارسو، ولكن سيتحول الناتو بالنسبة لأعضائه إلى الرمال المتحركة أكثر وأكثر؛ أي لا تفيد العضوية في هذا الحلف ولا يمكن الخروج منه.
هذا من جهة. ومن جهة أخرى، الناتو لا يزال منظمة قوية. والدليل على ذلك، الدور الذي لعبه الحلف في ليبيا في عام 2011، وهي تعاني من تداعيات هذا التدخل حتى اﻵن ولا يستطيع المجتمع الدولي أن يعالج الأوضاع هناك. أكثر من ذلك الناتو يتوسع، ومن المفترض أنه سيضم مقدونيا الشمالية في المستقبل، وأيضاً هناك نوايا لضم جورجيا وأوكرانيا إلى صفوفه، وأكد ذلك ينس ستولتنبرغ خلال القمة، وهذا هو خط أحمر بالنسبة لروسيا، التي لن تكون صامتة في حال تنفيذ هذه الخطط. وبشكل عام توسيع الناتو واقترابه من حدودها يقلق موسكو للغاية، ويجبر القيادة الروسية على أن ترد على هذه الخطوات.
واللافت للنظر أن بعض الدول لا تعتبر روسيا عدواً لحلف شمال الأطلسي، بل تسميها شريكاً. هذا ما أشار إليه إيمانويل ماكرون خلال القمة، ورفض أيضاً الرئيس البولندي أندجي دودا أن يسمي روسيا عدواً. ولكن عندما تحتاج الدول المتحالفة إلى شريك فهي تحتاج أيضاً إلى عدو، وهذا الشرط الرئيسي لمن يريد أن يحافظ على صفوفه ووحدته، ولكن ليس العدو الضعيف الذي يمكن أن يدمره الناتو خلال بعض الأسابيع بل العدو الصامد والقوي. ويمكن أن تلعب هذا الدور روسيا فقط، ولهذا السبب تستمر الموجة الإعلامية لشيطنة موسكو، كما تستمر الضغوط السياسية والعسكرية والاقتصادية عليها، والكل يدرك أنه من دون موسكو لا مستقبل للناتو.
* كاتب روسي



الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
TT

الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)

ما لم يكن أكثرها أهمية، فإن الربيع العربي أحد أهم أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط. الذكريات السلبية التي يثيرها حديث الربيع تزيد كثيراً عما يثيره من مشاعر إيجابية. هناك بهجة الحرية المرتبطة بمشهد آلاف المحتشدين في الميادين؛ احتجاجاً ضد حكام طغاة، أو احتفالاً بسقوطهم. لكن هذا المشهد يكاد يكون لقطة خاطفة تبعها شريط طويل من المناسبات المحزنة. فما الذي سيبقى في ذاكرة التاريخ من الربيع العربي: لقطة الحرية القصيرة، أم شريط المعاناة الطويل؟

بين ديسمبر (كانون الأول) 2010 ومارس (آذار) التالي، اشتعلت نيران العصيان في عدة بلاد عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. انفجار الثورة بشكل متزامن في عدة بلاد لا يكفي لافتراض التجانس بينها. للمشرق العربي خبراته التاريخية وتركيبته الاجتماعية المختلفة عن شمال أفريقيا.

في المشرق فسيفساء عرقية ودينية وقومية لا يشبهها شيء في شمال أفريقيا التعددي، لكن غير المفتت. تاريخياً، أدى قرب المشرق من مركز الحكم الإمبراطوري العثماني إلى حرمانه من تكوين خبرة خاصة مع السلطة ذات الأساس المحلي. البعد الجغرافي عن مركز السلطة العثماني سمح بظهور سلطات ذات منشأ محلي، لها علاقة ما بالمحكومين في الشمال الأفريقي.

لقاء جمع بشار الأسد بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك في القاهرة عام 2000 (أ.ف.ب)

مصر بين مركزين

وقوع مصر في منتصف المسافة بين مركز الحكم العثماني والمغرب البعيد، أسس لعلاقة مراوحة مترددة بين السلطة في مصر ومركز السلطنة، حتى جاء محمد علي باشا الكبير ليحسم التردد. الصحراء الليبية المحرومة من تجمعات سكانية كبرى، والمنجذبة إلى مراكز متعددة للسلطة شرقاً وغرباً، تأخر قيام السلطة المحلية وظهور تقاليد السياسة والحكم فيها.

الأفكار والآيديولوجيات والمشاعر والخيالات والأوهام تنتقل بين الجمهوريات على لغة جامعة ووسائل إعلام يجري استهلاكها بشكل مشترك، وإن كانت تَصنَع في كل «جمهورية» أثراً مختلفاً طبقاً لطبيعته الخاصة المميزة. لهذا انتقل الربيع من مكان إلى آخر، ولم تنتقل مؤثرات الموجة الديمقراطية الثالثة قبل ذلك. لهذا أيضاً أنتج الربيع نتائج مختلفة في كل بلد. التركيز هنا سيكون على بلاد الشمال الأفريقي، خاصة مصر وتونس، مع ملاحظات وتعريجات على خبرات أخرى بغرض الإيضاح.

السقوط السريع لأنظمة حكمت لعقود في شمال أفريقيا مستخدمة قبضة أمنية قوية، برهن على وجود أخطاء جسيمة غير قابلة للاستمرار. التفاوت الاجتماعي، وبطالة الشباب والجامعيين، واحتكار السلطة، وانتهاك الحقوق، واستباحة المال العام، وخواء مؤسسات التمثيل السياسي، وتجريف الحياة السياسية والفكرية في جمهوريات عدة؛ كل هذا أفقد الطبقة الحاكمة الأساس الأخلاقي المبرر لأحقيتها وجدارتها بالسلطة، وهو أمر ضروري في مجتمع «الجماهير الغفيرة» الحديث.

سقوط النظام القديم

هذا هو الفارق بين الهيمنة والسيطرة. كلما تآكل الأساس الأخلاقي للسلطة، ازدادت الحاجة للقمع، وارتفعت تكلفة ممارسة الحكم، حتى نصل إلى لحظة تزيد فيها تكلفة السلطة على عوائدها، فينهار النظام. هذا بالضبط ما حدث في الربيع، فعندما تراخت القبضة الأمنية، أو تعرضت لتعطل مفاجئ عجزت السلطة عن الاستمرار.

سقوط النظام القديم لم يتبعه ظهور نظام جديد بروعة الشعارات المرفوعة في الميادين. لقد تعلمنا بالطريقة الصعبة أن ما كان لدينا من عناصر التمرد على النظام القديم أكبر بكثير مما كان لدينا من عناصر بناء النظام الجديد، وأن النجاح في هدم الجمهوريات القديمة لا يضمن النجاح في إقامة جمهوريات جديدة.

خلال أسابيع قليلة تحرَّرت دول شرق أوروبا الشيوعية، وأسست ديمقراطيات فعالة. عقد ونصف العقد بعد الربيع العربي، وما زالت حروبه مستمرة في بعض البلاد، وأسئلته الكبرى مُعلَّقة بلا إجابات في كل البلاد، أسئلة الديمقراطية، ونظام الحكم المناسب، والإسلام السياسي، والاستمرارية والتغير.

سقطت أنظمة، وتم إطلاق الوعد الديمقراطي. تأسست ديمقراطية عرجاء وانشغل القائمون عليها بالمكايدات والانقسامات، فلم تعمل سوى لفترة قصيرة، عادت بعدها أشكال من النظام القديم إلى الحكم. هذه جمهوريات لا تعيش فيها دولة الاستبداد الأمني، ولا تعيش فيها الديمقراطية أيضاً. إنها محيرة، فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني، لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية مستدامة.

لدى المصريين تعبير بليغ عن الراقصين على السلم، لا شاهدهم سكان الطابق الأعلى ولا سمع بهم سكان الطابق الأسفل. هذا هو حال بلاد الشمال الأفريقي مع الديمقراطية.

إخفاق المحاولات الديمقراطية في منطقتنا يدعونا لنقاش جدّي حول شروط الديمقراطية. النشطاء المتحمسون لا يحبون النقاش الجدي في هذه المسألة؛ لأنها في نظرهم تهرُّب من الاستحقاق الديمقراطي الصالح لكل مكان وزمان. ما نعرفه هو أن الديمقراطية الحديثة بدأت في الظهور في القرن الثامن عشر، وليس قبله، عندما نضجت الظروف اللازمة لقيامها. حدث ذلك في بعض البلاد أسبق من غيرها؛ لأن المجتمعات لا تتطور بشكل متكافئ.

هذه جمهوريات محيرة... فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية

يحدث التحول الديمقراطي في موجات تعكس عملية تاريخية، نطاقها النظام الدولي كله، لإنضاج شروط التحول الديمقراطي في البلاد المختلفة. محاولة دول الربيع تحقيق الديمقراطية جاءت منفصلة عن أي موجة عالمية للتحول الديمقراطي.

على العكس، فقد حدثت المحاولة العربية للتحول الديمقراطي عندما كان العالم يشهد موجة عكسية للانحسار الديمقراطي. وصلت الديمقراطية الليبرالية إلى ذروة ازدهارها بعد نهاية الحرب الباردة. في عام 2006 كان 60 في المائة من سكان العالم يعيشون في دول تحكمها نظم ديمقراطية ليبرالية، لكن طوال الثمانية عشر عاماً التالية، وفقاً لمؤسسة «بيت الحرية» التي ترصد وتقيس حالة الحرية في بلاد العالم المختلفة، فإن عدد الدول التي تناقص مستوى الحرية المتاح فيها زاد عن عدد الدول التي زاد مستوى الحرية المتاح فيها، بمعدل اثنين إلى واحد. هناك أيضاً تراجع في جودة الديمقراطية.

فبعد أن شهدت الدول والمجتمعات الغربية ما بدا أنه إجماع على القيم الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة خلال العقد التالي لانتهاء الحرب الباردة، تزايدت خلال العقدين الأخيرين الشكوك حول القيم الليبرالية، وتآكل الإجماع حول المقصود بالقيم الديمقراطية، وانكمشت اتجاهات الوسط الآيديولوجي والسياسي. في ظل هذه الشروط غير المواتية حدثت محاولة الربيع الفاشلة لتحقيق الديمقراطية.

عتبة قيام الديمقراطية

للديمقراطية شرط اقتصادي. الدراسات الجادة تبين أن هناك عتبة معينة يكون قيام ديمقراطية فعالة ومستدامة تحتها أمراً غير مرجح. ستة آلاف دولار لمتوسط دخل الفرد هي العتبة التي رصدها الدارسون، فعند هذا المستوى تحقق الطبقات الاجتماعية درجة مناسبة من التبلور، وتظهر طبقة وسطى تلعب دوراً مركزياً في التحول الديمقراطي.

تحدث التمردات الديمقراطية حتى قبل الوصول إلى هذه العتبة، لكنها نادراً ما تقود إلى تأسيس ديمقراطية مستدامة. لم تشهد كل البلاد التي اجتازت العتبة الاقتصادية تحولاً ديمقراطياً، ولا كل البلاد الواقعة تحتها تعاني من الاستبداد. الشرط الاقتصادي لا يختزل التاريخ والواقع الاجتماعي والسياسي المعقد في عامل واحد، إلا أن العلاقة بين الديمقراطية والثروة تظل قائمة، فالحديث هنا عن نمط واتجاه واحتمالات، لا عن حالات بعينها. في كل الأحوال ليس من بين دول الشرق الأوسط التي جربت حظها في أثناء الربيع من اجتاز العتبة الاقتصادية للديمقراطية، وربما كان هذا أحد أسباب إخفاق المحاولة.

للديمقراطية شرط ثقافي - سياسي. قيام الديمقراطية يحتاج إلى قدر مناسب من الإجماع والتوافق الآيديولوجي والقيمي بين قوى المجتمع الرئيسية. الديمقراطية نظام فعال لحل الخلافات الآيديولوجية، لكن فقط ضمن حدود معينة.

عندما انقسم الأميركيون بين أنصار العبودية وأنصار التحرير، توقف النظام عن العمل، ووقعت الحرب الأهلية. الجمهورية الثانية في إسبانيا انتهت بحرب أهلية بالغة الفظاعة بين اليمين واليسار. الانقسام الآيديولوجي المتزايد في الولايات المتحدة وبلاد أوروبا الغربية يهدد بتراجع جودة الديمقراطية. في الديمقراطية يسلم الطرف الخاسر في الانتخابات السلطة طواعية، أولاً لأنه يدرك أن لديه فرصة أخرى للمنافسة، وثانياً لانتمائهما معاً، الخاسر والرابح، لنفس عائلة الأفكار والقيم.

عندما ينظر أحد الأطراف للطرف الآخر بوصفه العدو، تتوقف الديمقراطية عن العمل، ويمتنع الخاسر عن تسليم السلطة. اقتحام الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) قبل أربع سنوات كان بروفة محدودة لما يمكن أن يحدث عندما يقع انشقاق آيديولوجي وقيمي في المجتمع. على العرب إيجاد صيغ لتسوية الخلافات الآيديولوجية العميقة السائدة قبل محاولة الديمقراطية، فالأخيرة لم يتم تصميمها لحل الصراعات الآيديولوجية الحادة.

صورة أرشيفية للرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي (غيتي)

صراع المعنى والهوية

صراعات الربيع لم تكن كلها من أجل الوظائف والأجور والخدمات والتمثيل السياسي، بل كانت أيضاً صراعات حول المعنى والهوية، والتي تتفجر في كل البلاد، من الهند وحتى الولايات المتحدة، وما الترمبية والتيارات الشعبوية اليمينية في أوروبا إلا تعبيراً عن هذه الظاهرة. حتى تيارات اليسار في بلاد غربية كثيرة أصبحت أكثر انشغالاً بالهويات المهمشة من انشغالها بالطبقات المحرومة. العرب ليسوا أعجوبة، وليس لديهم شيء يخجلون منه، رغم فجاجة أشكال التعبير عن صراعات الهوية في بلادنا.

الانقسام الآيديولوجي هو أحد أهم أسباب إخفاق الربيع. في كل مكان زاره الربيع في الشرق الأوسط دار صراع عنيف وحاد بين المصدرين الأكبر للمعنى: الوطن والدين. حاول الأصولي تهميش الوطني، فرد عليه الوطني بتهميش مضاد، فيما القوى الأخرى، الليبرالية واليسارية، تكتفي بعزف الموسيقى التصويرية والتشجيع. هذا الاستقطاب الثنائي مدمر، ولا مخرج منه إلا بظهور تيار ثالث يفكك الثنائية، أو بترويض المتطرفين، ليتقدموا بنسخة جديدة مقبولة غير مثيرة للفزع من أنفسهم.

قد تكون الديمقراطية صيغة صعبة المنال في بلاد لها ظروف بلادنا. ربما توافرت الظروف لبناء ديمقراطية كاملة في وقت لاحق. حتى لو لم نكن قادرين على بناء ديمقراطية كاملة، فإن جمهوريات الاستبداد المفرط لم تعد قابلة للحياة.

هذا هو درس الربيع العربي. الاستبداد الوحشي ليس هو البديل الوحيد لدمقرطة الجهوريات، فهناك صيغ تحقق الشرعية، فيما تضمن درجة عالية من الانضباط وفاعلية المؤسسات العامة. النظام السياسي للدولة الوطنية التنموية في سنغافورة يقوم على تعددية، تتنافس فيها الأحزاب السياسية في انتخابات نزيهة تحظى بالاحترام، يفوز بها نفس الحزب الذي حكم البلاد منذ عام 1959. سنغافورة من بين الدول العشر الأقل فساداً في العالم، ومن بين أسرعها نمواً، رغم أنها ليست ديمقراطية كاملة. هناك مساحات واسعة للتقدم حتى في غياب الديمقراطية.

قد تفترض الحكمة السائدة في العلوم السياسية أن الديمقراطية الليبرالية - جدلاً - أفضل نظام للحكم، لكن عملية بناء نظام سياسي لا تشبه في شيء التجول في الأسواق بحثاً عن أفضل نظام سياسي. المجتمعات تبني النظام السياسي الذي يناسبها، وليس النظام السياسي الأفضل. وفي الحقيقة، فإن النظام السياسي المناسب هو النظام السياسي الأفضل ضمن الميراث التاريخي والحقائق الاجتماعية والسياسية لكل مجتمع. هذا ما يجب على العرب مواصلة السعي إليه في ربع القرن المقبل.

* باحث مصري