عكس الاجتماع الأخير لـ«ضامني» عملية سوتشي - آستانة، روسيا وتركيا وإيران، في العاصمة الكازاخية طغيان المشاغل الجيو-سياسية على حساب الاهتمامات بأولويات السوريين، وتحول البوصلة من إدلب في شمال غربي سوريا إلى شمالها الشرقي سواء ما يتعلق بالوجود الأميركي أو الغارات الإسرائيلية على «مواقع إيرانية».
وتبادلت الدول الثلاث «الضامنة» المقايضات في المواقف للوصول إلى توافقات مشتركة تخص مصالحها أكثر مما يخص مصالح السوريين وعملية الإصلاح الدستوري أو المعتقلين والمخطوفين... مع ثبات الدول في تكرار العبارة الآسرة من أن العملية السياسية يجب أن تكون «بملكية سورية وبقيادة سورية لإطلاق الحوار السوري - السوري».
تفاهم روسي ـ تركي
وهيمنت التطورات العسكرية في شرق الفرات الحاصلة منذ الاجتماع الأخير لـ«ضامني آستانة» في أغسطس (آب) الماضي على اهتمام المشاركين، إذ كرر المشاركون رفض «محاولات خلق واقع جديد على الأرض، بما في ذلك مبادرات الحكم الذاتي غير الشرعية» وعزمهم «التصدي لجميع الأجندات الانفصالية الرامية» في إشارة إلى «قوات سوريا الديمقراطية» ومكونها الرئيسي «وحدات حماية الشعب» الكردية، لسببين: الأول، أن ذلك «يقوض سيادة والسلامة الإقليمية لسوريا» في وقت يجدد القرار الدولي 2254 التزام سيادة سوريا ووحدتها. الثاني، «يهدد الأمن الوطني للدول المجاورة» في إشارة إلى تركيا أولاً وإيران ثانياً. وهناك اعتقاد تركي، أن «قيام كيان كردي شمال شرقي سوريا سيؤدي فورا إلى كيان كردي جنوب شرقي تركيا».
واستطاع الوفد الروسي إقناع نظيره التركي للاقتراب خطوة إضافية من تفعيل اتفاق أضنة بين أنقرة ودمشق للعام ١٩٩٨. كان الرئيس فلاديمير بوتين روج لهذا الاتفاق مع نظيره التركي رجب طيب إردوغان. كما أن مذكرة التفاهم في 22 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تضمنت إشارة لهذا الاتفاق، ذلك أن موسكو تعتقد أنه يعطي أساساً لـ«التطبيع» بين أنقرة ودمشق واحتمال فتح الأقنية السياسية والدبلوماسية بعد الأمنية لاستعادة تعاون بين الطرفين كان تولد في نهاية تسعينات القرن الماضي. لكن هذا الطموح يقع «في المدى البعيد» بالنسبة إلى موسكو. أما «المدى الحالي» فإنه يخص تنفيذ مذكرة التفاهم لضبط انتشار القوات السورية وانتشارها على الحدود والقوات الكردية وإعادة فتح شرايين المنطقة الشرقية عبر تسيير دوريات مشتركة على الطريق السريع بين القامشلي وحلب.
الوجود الأميركي الجديد
حسب المعلومات، فإن معظم النقاش بين «الضامنين» الثلاثة تناول الوجود الأميركي بصيغته الجديدة شرق الفرات، إذ أن الرئيس دونالد ترمب وافق على اقتراح وزارة الدفاع (بنتاغون) نشر 600 جندي لـ«حماية النفط»، الأمر الذي شجع دولا أوروبية على الإبقاء على قواتها ضمن التحالف الدولي لملاحقة خلايا «داعش» بالتعاون مع «قوات سوريا الديمقراطية».
واقعياً، تقاسمت روسيا وتركيا السيطرة على مناطق شرق الفرات مع أميركا التي كانت تسيطر مع حلفائها عليها، ما يتطلب الكثير من التنسيق العملياتي العسكري بين الأطراف الثلاثة في وقت تلعب الشرطة الروسية دور الميسر للأطراف العسكرية في مساحة تساوي ثلث سوريا البالغة 185 ألف كلم مربع.
هناك اتفاق بين واشنطن وأنقرة ينظم الوجود التركي بين رأس العين وتل أبيض. وهناك مذكرة بين موسكو وأنقرة تنظم وجود تركيا شمال طريق القامشلي - حلب. وهناك مذكرة روسية - أميركية لـ«منع الاحتكاك» في أجواء شرق الفرات. وهناك مذكرة بين دمشق و«قوات سوريا الديمقراطية» لتحديد مسارات الانتشار هناك. أما إيران، فإن وجودها رهن التعاون مع دمشق و«غض الطرف» من روسيا، في وقت يتعرض لقصف إسرائيلي وتضييق أميركي.
عليه، فإن «الضامنين» الثلاثة، ذهبوا إلى رفع سقف المواجهة مع الوجود الأميركي من دون اعتباره «غير شرعي» على عكس ما يأتي في الخطاب الانفرادي لكل دولة. وأفاد البيان الثلاثي: «ناقشوا الوضع في شمال شرقي سوريا واتفقوا على أن أمن واستقرار هذه المنطقة على المدى البعيد لا يمكن تحقيقه سوى على أساس الحفاظ على سيادة والوحدة الإقليمية للبلاد (...) ويعربون عن معارضتهم للاستيلاء على نحو غير قانوني على عائدات النفط وتحويلها، بينما ينبغي أن تنتمي هذه العائدات إلى الجمهورية العربية السورية».
إسقاط الجولان
في المقابل، حصلت إيران لأول مرة على موقف متقدم من «شريكيها» الروسي والتركي، إذ نص البيان على أن الدول الثلاث تدين «استمرار الهجمات العسكرية الإسرائيلية في سوريا بما يشكل انتهاكاً للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني ويقوض سيادة سوريا والدول المجاورة، بجانب تشكيله خطراً على استقرار وأمن المنطقة».
كان «المرصد السوري لحقوق الإنسان» أفاد بتعرض «مواقع إيرانية» في البوكمال على حدود العراق لغارات مكثفة من إسرائيل خلال الأسبوع الماضي، في وقت حذر وزير الدفاع الإسرائيلي الجديد نفتالي بينيت: «نقول لهم – أي الإيرانيين – ستتحول سوريا إلى فيتنام الإيرانية، وستواصلون النزيف حتى مغادرة آخر جندي إيراني الأراضي السورية».
لكن اللافت أن البيان الختامي حذف فقرة سابقة كانت موجودة في بيان آستانة السابق، نصت على أن «الضامنين» الثلاثة «أعادوا التأكيد مجددا، في هذا الصدد، على احترام القرارات القانونية الدولية المعترف بها عالميا، بما في ذلك أحكام القرارات ذات الصلة الصادرة عن الأمم المتحدة الرافضة لاحتلال هضبة الجولان السورية، أولا وقبل كل شيء قرار مجلس الأمن الدولي رقم 497». وكان هذا ردا على قرار الرئيس ترمب الاعتراف بـ«السيادة الإسرائيلية» على الجولان السوري المحتل.
أولويات السوريين
في مقابل هذا المقايضات للاعبين الخارجيين، تراجعت أهمية ملف إدلب ولم يتضمن الموقف أي إجراءات جديدة بالنسبة إلى السوريين في الاجتماع الذي شارك فيه ممثلو الحكومة والمعارضة. ولم يجر أي تقدم في ملف المخطوفين أو المعتقلين وعمل اللجنة المشتركة لهذا الملف، إضافة إلى غياب أي اتفاق على تسريع عمل اللجنة الدستورية التي تعثرت في الجولة الثانية من عملها منتصف الشهر الماضي وسط رفض دمشق استقبال المبعوث الأممي غير بيدرسن الذي سيقدم قريباً إيجازا لمجلس الأمن.
لكن «الضامنين»، الذين لم يكونوا مرتاحين لاستبعادهم من رعاية إطلاق أعمال اللجنة الدستورية بداية نوفمبر (تشرين الثاني) حسب رغبة بيدرسن المتمسك بمرجعية القرار 2254 ومسار جنيف الدولي، نجحوا في تعزيز مرجعية آستانة وسوتشي بدلا من جنيف، عبر التأكيد أن «تشكيل اللجنة الدستورية وعقد اجتماعها في جنيف جاء نتيجة الإسهام الحاسم من الدول الضامنة التي اجتمعت في آستانة وتنفيذ قرارات مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي» الذي عقد بداية العام الماضي. قد يفسر هذا ضمن المساعي المستمرة لتعزيز مرجعية سوتشي - آستانة وتوسيع ثقوب مسار جنيف.
هنا اقتربت أنقرة من موقف موسكو وطهران ودمشق في رفض مطالبات المعارضة السورية وحلفائها بوضع جدول زمني لأعمال اللجنة الدستورية أو فتح بوابات جديدة لتنفيذ القرار 2254. حيث أكد «الضامنون» أن الإصلاح الدستوري محكوم بـ«الرغبة في إقرار تسوية والتعاون البناء دون تدخل أجنبي أو جداول زمنية مفروضة من الخارج ترمي للتوصل إلى اتفاق عام بين الأعضاء»، في انتقاد ضمني لموقف واشنطن ولندن الذي حمل دمشق مسؤولية تعثر أعمال «الدستورية».
استفادت موسكو من رغبة أنقرة في طرح مشاريع إعمار منطقة «نبع السلام» شرق الفرات بسحبها إلى موقفها المتعلق بشروط المساهمة في بناء «البنية التحتية» السورية، عبر دعوة البيان «المجتمع الدولي والأمم المتحدة والوكالات الإنسانية التابعة لها، لزيادة مساعداتها لسوريا، عبر سبل منها استعادة الأصول المرتبطة بالبنية التحتية»، ما اعتبر بمثابة رد على مطالب الدول الأوروبية وأميركا بـربط المساهمة بإعمار سوريا ورفع العقوبات عن دمشق بـ«التقدم في عملية سياسية ذات صدقية».