مرشحة لرئاسة أميركا تستعين بالشعر في حملتها الانتخابية

بعدما أصبح الخطاب السياسي كئيباً ومشوهاً

مديرة حملة وارين الرئاسية كامون فيليكس
مديرة حملة وارين الرئاسية كامون فيليكس
TT

مرشحة لرئاسة أميركا تستعين بالشعر في حملتها الانتخابية

مديرة حملة وارين الرئاسية كامون فيليكس
مديرة حملة وارين الرئاسية كامون فيليكس

السيناتور إليزابيث وارين، المرشحة اختارت شاعرة مديرة لحملتها الانتخابية - هل هي فكرة جيدة؟ ربما، بعدما أصبح الخطاب السياسي كئيباً يبعث على السأم. في يونيو (حزيران)، أصبحت كامون فيليكس مديرة لشؤون الاتصالات الاستراتيجية لدى الحملة الرئاسية الخاصة بالسيناتور إليزابيث وارين. وقد أصدرت فيليكس مجموعة شعرية بعنوان «اصنع لنفسك قارباً»، التي جرى ترشيحها قبل وقت قريب لجائزة الكتاب الوطني. وتدور كتابات فيليكس حول انعكاسات التحرش الجنسي على حياة النساء النفسية والاجتماعية، والعنف الذي تمارسه الشرطة، بما في ذلك قصائد حول محاكمة جورج زيمرمان، الرجل الذي أطلق النار على تريفون مارتن.
والآن، هل ينبغي لنا الشعور بالدهشة لوجود مثل هذه الصلة بين أعلى مستويات عالمنا السياسي وأرقى مستويات عالمنا الشعري؟ لا أعتقد ذلك - وإنما يتعين علينا الاستعداد لمعاينة المزيد من هذه الصلات؛ لأنها تبدو قادمة في الأفق ونحن في حاجة إليها بالفعل، وبشدة. وفي الحقيقة، يبدو الخطاب السياسي هذه الأيام مشوهاً للغاية، في ظل التغييرات التي أدخلها الرئيس ترمب ومعاونوه على لغتنا باتجاه الأسوأ، وإعادة تسمية القوميين البيض بـ«اليمين البديل» ووصف الصحافة بـ«الأخبار الزائفة».
وتبقى هناك مشكلة قائمة منذ أمد بعيد في التعبيرات الباهتة (مثل «الشعب الأميركي») التي يجري تكرارها على الصعيد السياسي ببلادنا. ونتاجاً لكل ذلك أصبح الوضع العام اليوم أشبه بهواء محبوس داخل غرفة أغلقت نوافذها بإحكام. ونقف اليوم في مواجهة إخفاقات كثيرة للغاية، بما في ذلك حتى اللغة التي نتواصل من خلالها والسبل التي يمكن لمن هم في السلطة استغلال وإساءة استغلال اللغة من خلالها.
اليوم، تعمل فيليكس وشعراء آخرون على مزج السياسة والحياة العامة والشعر بهدف خلق أعمال تتجاوز حدود اللغة التقليدية وتتحاشى العبارات التي فقدت معناها جراء الاستخدام المفرط. وقد جعلها ذلك مناسبة للعمل مع السيناتور وارين، التي اعتمدت في سيرتها الذاتية التي نشرتها عام 2014 على لغة شعرية وعمدت إلى استخدام تكنيكات لغوية لخلق لحن خفي بين السطور.
في الشهور الأخيرة، أصبحت السيناتور وارين أكثر قدرة على السرد. على سبيل المثال، خلال مؤتمر جماهيري الشهر الماضي، قصت أحداث حريق مصنع «تريانغل للقمصان» بتفاصيل ثرية على النحو التالي: «كان التاريخ 25 مارس (آذار) 1911، وكان يوم سبت. وفي نحو الرابعة و45 دقيقة عصراً، بدأ الناس الذين كانوا يسيرون داخل هذا المتنزه يرفعون رؤوسهم نحو الأعلى ورأوا ألسنة الدخان تتصاعد باتجاه السماء». ورغم استمرار تمسكها بالمهنية، تميل خطابات الحملة الرئاسية لوارين على نحو متزايد باتجاه الشعر.
جدير بالذكر، أن هذه الاستراتيجية سبق وأن أتت بنتائج جيدة لصالح باراك أوباما أثناء حملته الانتخابية عام 2008 ـ ذلك أن الخطابات المؤثرة التي ألقى بها في تلك الفترة غالباً بالشعر، خاصة في ظل إشاراته المتكررة إلى العبارات البليغة لعدد من الخطباء والنشطاء المشاهير، مثل الدكتور مارتن لوثر كينغ ورينهولد نيبوهر. تجدر الإشارة هنا إلى أن أوباما كانت له محاولات شعرية خلال فترة دراسته الجامعية، وكان يبدي دعماً كبيراً للشعراء. وفي خطابه الشهير بعنوان «نحو اتحاد أكثر مثالية» حول التوترات العنصرية، كرر أوباما مراراً «هذا الغضب» للتوكيد:
«هذا الغضب قد لا يجري التعبير عنه علانية، أمام الزملاء أو الأصدقاء البيض». «بعض الأحيان، يجري استغلال هذا الغضب من جانب سياسيين؛ بهدف الفوز بمزيد من الأصوات تبعاً لتقسيمات عنصرية، أو تعويض نقاط قصور لدى السياسي نفسه». «هذا الغضب ليس دوماً مثمراً. في الواقع، في الكثير للغاية من الحالات يشتت الانتباه بعيداً عن حل مشكلات حقيقية».
بوجه عام، هناك بالفعل جمهور عريض للخطب الشعرية، فيما يخص القضايا الاجتماعية. على سبيل المثال، جذب فيديو الكاتبة النسوية ليلي ميرز وهي تلقي قصيدة «نساء منكمشات» أكثر عن 5.8 مليون مشاهدة عبر «يوتيوب». أيضاً، يحظى الشاعر الذي يصف نفسه بالنسوي روبين هولمز، والذي ينشر قصائده تحت اسم مستعار «آر إتش سين»، بمتابعة مليون شخص. وأشارت صحيفة «ذي نيويورك تايمز» إلى مجموعته الشعرية الأخيرة باعتبارها الكتاب الأكثر مبيعاً.
وحقق شعراء آخرون النجاح من خلال قراءات مؤثرة للغاية لنصوص سياسية عبر «يوتيوب». ويمكن القول بوجه عام بأن قراء الشعر في تزايد، فتبعاً لما كشفته دراسة مسحية أجرتها مؤسسة «ناشونال إنداومنت فور ذي آرتس»، قرأ نحو 12 في المائة من الأميركيين البالغين أعمالاً شعرية خلال عام 2017.
وفيما يخصني، أكتب الآن قصائد ذات نبرة سياسية، وأطلقت مبادرة لدعم الشعر الوثائقي، بمعنى الشعر المتداول عبر المقابلات أو التاريخ الشفهي - أعتقد أن المزج بين الشعر والسياسة يتجاوز كونه مجرد أمر يجري من باب التسلية أو كتجربة مثيرة جديدة، وإنما يبدو هذا الخطاب السياسي - الشعري حيوياً للغاية للمرء في مواجهة القصص الكثيرة حول مسائل مثل الغش والاحتيال في أوكرانيا، أو الصعود المستمر للقوميين البيض.
كما أن هناك شعوراً بالإرهاق والسأم يسيطر على القراء لدى مطالعتهم على نحو متكرر قصص حول معسكرات المشردين الكثيرة التي تعج بها كاليفورنيا حالياً، في وقت يشعرون بأنه لم يعد بمقدورهم القراءة أو التصويت بعد تعرضهم لسيل عارم من مثل هذه الأنباء المؤلمة. وهنا، فإن ما يمكن للشعر إنجازه جعل بعض هذه الظواهر حية وذات لمسة شخصية على نحو لم نألفه.
وإذا لم تعد اللغة التي نسمعها عبر نشرات الأخبار التلفزيونية تستفزنا لفعل أي شيء أكثر عن مجرد كتابة تغريدة نعبر خلالها عن صدمتنا، فإن الشعر يعبر عن شيء جديد (أو شيء قديم بأسلوب جديد)، وهذا قد يحفزنا نحو اتخاذ تحركات فعلية على أرض الواقع. إن الشعر باستطاعته محاربة العبارات النمطية والأفكار السائدة.
من ناحية أخرى، يعتبر الشعر الحر الذي يجري في إطاره التعتيم على بعض الكلمات بينما تشكل الكلمات المتبقية القصيدة، نمطاً فنياً متنامياً. وربما تدور مثل هذه الأعمال الشعرية حول جنود في العراق أو أفغانستان أو سجن أبو غريب، مثل بعض أعمال نيك فلين، في الوقت الذي تألف قصائد حرة أخرى باستخدام تقرير مولر.
في هذا الصدد، يمكننا الإشارة إلى «أوليو»، من تأليف تيمبا جيس، الذي كتب عن رجال وسيدات من أصحاب البشرة الداكنة عملوا شعراء منشدين، وكذلك وكتاب مارك نواك الشعري المعنون «كول ماونتن إليمينتري»، بجانب أعمال إريكا ميتنر ومارثا كولينز وآخرين. ومثلما أوضح المؤرخ فيليب متريز، فإن مؤلف هذا النمط من الكتابات يضطلع بدور مختلف يتمثل في دور «المؤرخ والمحقق والفيلسوف والمحرر البديل».
أعتقد هذا النمط من الشعر المدني، حسب رأيي، له تاريخ ـ وقد ربط الشاعر بيرسي بيش شيلي الذي عاش في القرن الـ19 بين الاثنين عندما وصف الشعراء بأنهم «مشرعو العالم غير المعترف بهم».
في ثلاثينات القرن الماضي، رسم موريل روكيسير صورة الرجال العاملين في مناجم ويست فيرجينيا الذين «يصبّون الخرسانة وقواعد الأعمدة، ويعرون الصخر، ويقيمون خلايا الصلب». وفي السنوات الأحدث، ظهر كتاب «مواطن: أغنية أميركية» من تأليف كلوديا رانكين، الذي حقق شهرة واسعة وتضمن قصائد نثرية مروعة حول اعتداءات عنصرية. وتشير الشعبية والمبيعات الكبيرة التي حققها الكتاب، إلى النطاق الواسع الذي يمكن أن يصل إليه المرء من خلال كتابة الشعر السياسي.
أما فيما يخص فيليكس، فإن أشعارها تتميز بطابع مباشر وفج عاطفياً. على سبيل المثال، في قصيدة حول الاعتداء الجنسي، تقول: «هل مسموح لي بتجاهل الشكل. هل مسموح لي بدلاً عن ذلك أن أعلن أنه اغتصبني». وفي القصيدة ذاتها، تقول: «إنني كنت صغيرة ورائعة، شبيهة بفاكهة أو شيء آخر يأخذ من الشمس ويتمدد».
وبالنظر إلى ما وصلت إليه فيليكس، تراودني آمال عريضة بخصوص ما يمكن للشعر تحقيقه إذا ما اندمج بدرجة أكبر في المشهد السياسي الأميركي. وهذه الأيام على وجه الخصوص، نحن في حاجة ماسة إلى ذلك.
- خدمة «نيويورك تايمز»



جيناتنا العظيمة

عبد الله القصيمي
عبد الله القصيمي
TT

جيناتنا العظيمة

عبد الله القصيمي
عبد الله القصيمي

ثمة فرق بين النقد الثقافي الساعي لإصلاح حال أمة ما وتسليط الأضواء على الأخطاء التي تعيق التطور من جهة، وجلد الذات الذي يصبح إدماناً، من جهة أخرى. هذا ما خطر ببالي وأنا أعيد قراءة كتاب الفيلسوف السعودي عبد الله العلي القصيمي «العرب ظاهرة صوتية». من وجهة نظره، العرب مُصوّتون فقط في حين لا يكتفي الآخرون بإصدار الأصوات، بل يتكلمون ويفكرون ويخططون وهم أيضاً خلاقون قاموا بإبداع الحضارات والقوة والفكر وتجاوزوا الطبيعة وفهموها وقاموا بتفسيرها قراءة فهم وتغيير وبحث عن التخطي والتفوق.

مثل هذا النقد مدمر لأنه يبشر بسقوط يستحيل النهوض منه لأن المشكلة في الجينات، والجينات لا يمكن إصلاحها. «العرب ظاهرة صوتية»، شعار رفعه العديد من الكتاب وأصبحت «كليشة» مكرورة ومملة، ولا يمكن أن يكون هذا التوجه نافعاً لأنه لا يضع خطة عمل، بل يرمي العربي في حفرة من الإحباط. مع أن هناك الكثير مما نراه من إنجازات دولنا في الجوانب النهضوية وأفرادنا على الصعيد العلمي ما يدعو إلى التفاؤل، لا الإحباط.

ما الذي خرج به جلد الذات الذي يمارسه المثقفون العرب على أنفسهم وثقافتهم بعد كل هذه العقود المتتابعة؟ بطبيعة الحال، ليس هذا موقف الجميع، إلا أن الأصوات المتطرفة توصلت إلى أن العرب لديهم مشكلة جينية، تمنعهم من مواكبة قطار الحداثة وإصلاح مشكلاتهم والانتقال إلى نظام الحياة المدنية المتحضرة. لا خلاف على تطوير أنظمة الحياة وتطبيق فلسفة المنفعة العامة للمجتمع وإعلاء قيمة حقوق الإنسان والحرية، وإنما الخلاف هو في هذا الوهم الذي يُخيل لبعض المثقفين أن المشكلة ضربة لازب وأنه لا حل، وهذا ما يجعل خطابهم جزءاً من المشكلة لا الحل، لأن هذا الخطاب أسس لخطاب مضاد، لأغراض دفاعية، يتجاهل وجود المشكلة وينكرها.

لا فائدة على الإطلاق في أن ننقسم إلى فريقين، فريق التمجيد والتقديس للثقافة العربية وفريق مشكلة الجينات. وأصحاب الرؤية التقديسية هم أيضاً يشكلون جزءاً كبيراً من المشكلة، لأنهم لا يرغبون في تحريك شيء، وذلك لأنهم يؤمنون بأنه ليس في الإمكان أفضل مما كان، وإن دخلت معهم في نقاش فتحوا لك صفحة الماضي المجيد والانتصارات العسكرية وغزو العالم في العصر الوسيط يوم كان العرب حقاً متفوقين، وكان المثقف الأوروبي يتباهى على أقرانه بأنه يتحدث العربية ويفهم فلسفة ابن رشد.

يخطئ الإسلاميون، وهم من يرفع شعار التقديس، عندما يتخيلون أن تجربتهم هي التمثيل الأوحد للديانة الإسلامية، فالنص حمَّال أوجه وفي باطنه آلاف التفاسير، والناجح حقاً هو من يستطيع أن يتخلى عن قراءاته القديمة التي ثبت فشلها ولم تحل مشكلات الشعوب التي تتوق إلى الحياة الكريمة. يخطئ من يتصور أن بإمكانه أن يسحق الأقليات ويحكم بالحديد والنار، وها هي تجربة صدام حسين وبشار الأسد ماثلة أمام عيوننا.

لقد بدأت مشكلتنا منذ زمن قديم، فالأمة العربية الإسلامية أدارت ظهرها للعلم في لحظته المفصلية في قرون الثورة العلمية والاكتشافات، ولهذا تراجعت عن المكانة العظيمة التي كانت للحضارة العربية الإسلامية يوم كانت أقوى إمبراطورية على وجه الأرض. دخلت حقاً في عصور الانحطاط عندما رفضت مبدأ السببية الذي قام عليه كل العلم بقضه وقضيضه، وولجت في عوالم من الدروشة والتخلف، ليس فقط على صعيد العلوم المادية، بل على الصعيد الأخلاقي أيضاً، وأصبحت صورة العربي في الذاكرة الجمعية تشير إلى شخص لا يمكن أن يؤتمن ولا أن يصدّق فيما يقول. هذا ما يجعله ضيفاً ثقيلاً من وجهة نظر بعض المجتمعات الغربية التي لجأ إليها العرب للعيش فيها.

لقد عاش العربي في دول تقوم على فرق ومذاهب متباغضة متكارهة قامت على تهميش الأقليات التي تحولت بدورها إلى قنابل موقوتة. هذا المشهد تكرر في كل الأمم وليس خاصاً بالعرب، فنحن نعلم أن أوروبا عاشت حروباً دينية دموية اختلط فيها الديني بالسياسي وأزهقت بسببها مئات الآلاف من الأرواح، لكنهم بطريقة ما استطاعوا أن يداووا هذا الجرح، بسبب الجهود العظيمة لفلاسفة التنوير ودعاة التسامح والتمدن والتعامل الإنساني الحضاري، ولم يعد في أوروبا حروب دينية كالتي لا زالت تقع بين العرب المسلمين والأقليات التي تعيش في أكنافهم. العرب بحاجة إلى مثل هذا التجاوز الذي لا يمكن أن يحصل إلا في ضفاف تكاثر الدول المدنية في عالمنا، وأعني بالمدنية الدولة التي تعرف قيمة حقوق الإنسان، لا الدول التي ترفع شعار العلمانية ثم تعود وتضرب شعوبها بالأسلحة الكيماوية.

الدولة المدنية، دولة الحقوق والواجبات هي الحل، ومشكلة العرب ثقافية فكرية وليست جينية على الإطلاق. ثقافتنا التي تراكمت عبر العقود هي جهد بشري أسس لأنظمة أخلاقية وأنماط للحياة، وهذه الأنظمة والأنماط بحاجة إلى مراجعة مستمرة يديرها مشرط التصحيح والتقويم والنقد الصادق، لا لنصبح نسخة أخرى من الثقافة الغربية، وإنما لنحقق سعادة المواطن العربي وحفظ كرامته.