مؤامرة لموت العمّ داود...

قصة قصيرة

TT

مؤامرة لموت العمّ داود...

لم يكن قد انقضى غير يوم على اكتمال المبنى، حين توفّي المعماري الذي بناه. فالعمّ داود، الذي بدا فخوراً بصنيعه الجديد، كان يهيئ نفسه لبيوت أخرى يعمرها، بيوتٍ تعود عليه بالمال، وبشهرة تتعدى منطقته. يومذاك، كان المهاجرون يرسلون الأموال التي تُنفَق على منازل يخططون للإقامة فيها بعد عودتهم من أفريقيا وأميركا اللاتينية. أمّا الطلب على داود نفسه، فكان بدوره كبيراً: فهو مَن أجمعوا كلهم على أنّ البيوت لا تصلح للسكن والتباهي إلا إذا بَنَـتْها يداه الماهرتان.
لكن العمّ، ولم يكن قد بلغ الستين، خذلهم جميعاً؛ لقد نام ولم يُفق.
الذين شاهدوه في أيامه الأخيرة وصفوه بأنّه في صحة جيدة. زوجته التي فُجعت بوفاته قالت إنها لم تسمعه مرة يتألم أو يتذمر. هكذا، جزمت بأن أحداً ما «كتب له»، وأنه إنما قضى جراء تلك «الكتابة». وقد فتشت ثيابه كلها علها تقع على تلك الورقة التي ربما دُسّت فيها على غفلة منه. لكنها وقد أعياها الفشل، راحت تتذكر كل من كرههم أو كرهوه على امتداد السنوات الطويلة التي عاشاها معاً، وكل من سمعت منه أسماءهم مصحوبة بالمآخذ. ذاك أن واحداً منهم هو لا بد المرتكب.
أهل القرية فكروا على نحو مغاير، فاستقر رأي بعضهم على أن ذاك المبنى هو قاتل بانيه، لأنه مسكون بالأرواح ومصدر للشؤم. هكذا باتوا، في اليومين الأولين، يمرون بالبيت ولا ينظرون إليه، احتجاجاً على رحيل العم داود وتضامناً معه، لكن أيضاً كي يتجنبوا الشر الذي لا بد أن ينبعث منه. كذلك، راحوا يتحفظون على صاحبه الذي كان لا يزال في الأرجنتين، ويعددون عيوباً منسوبة إليه. شفيق مثلاً زعم ما هو أبعد من التحفظ، مدعياً أنه يعرف تاريخ الرجل، وسبب هجرته: لقد هرب قبل ثلاثين سنة لتسميمه رجلاً محترماً من القرية كان قد أقرضه مالاً، لكنه لم يسدده. صديقه فؤاد أضاف أن أهل صاحب البيت الجديد سيئون بالفطرة، مجبولون على الشر، وأنه يعرف عنهم قصصاً تؤكد ذلك، أخبره إياها المرحوم جده. وليد، المعروف بالتروي، رأى أن الحكمة تقتضي مطالبة المُهاجِر بألا يعود إلى القرية كي لا يموت أبرياء آخرون. وبالفعل، تعددت الآراء في تفسير الوفاة غير المتوقعة التي صرعت العم داود، لكنها كلها أجمعت على الشيطنة، فيما اختلفت على تحديد الشيطان.
لكن بعد أيام ثلاثة، تجمع بعض الشبان الذين قرروا هدم البيت الجديد وإحراقه بما لا يبقي له أثراً، كما يجفّف كلّ مصدر محتمل للأرواح الشرّيرة. عندها، كما قال فؤاد، يكون المعلم داود قد أسدى لنا خدمتين جليلتين، مرّة بحياته التي حفلت بتعمير البيوت، ومرّة بمماته الذي نبّهنا إلى مخاطر شيطانيّة كانت تنتظرنا، فاستأصلناها.
إلا أنّ رجل دين ما لبث أن أطلّ من مكان بعيد وهو يناديهم، ويلوّح بيديه مناشداً: «لا تهدموا البيت، ولا تحرقوه». وهو كان يقول هذا للمتجمّعين، فيما يختلط صوته بلهاثه المتقطّع. ذاك أنّ الوافد الجليل يحمل رأياً آخر يعصمهم عن ارتكاب الخطأ: إنّ المشكلة لا تكمن في البيت، بل في الأرض التي بني عليها. فتحت سطحها تقيم أرواح تنبعث منها، بين الحين والحين، غازات صفراء. وهو أكّد لهم جازماً أنّه رأى تلك الغازات بأمّ العين مرّاتٍ عدّة. وتعزيزاً لرأيه، أشار بإصبعه إلى عينه اليسرى، وقال: ألا ترون أنّها أصغر قليلاً من أختها اليمنى؟ لقد انفجرت تلك الغازات ذات مرّة في وجهي بعدما اقتربتُ منها، فشوّهتْ عيني وكادت تقتلعها.
في تلك اللحظة، توقّف المتجمّعون عن تنفيذ رغبتهم في الهدم والتحريق، وراحوا ينظرون إلى رجل الدين الذي يُجلّونه كما لو أنّه صاحب علم جديد لم يكونوا على دراية به. ذاك أنّ الكلام في الغازات السامّة بدا موضوعاً جديداً عليهم يشبه العلوم الطبيعيّة التي يتعلّمها أبناؤهم في المدارس. أمّا أن تنطوي تلك الغازات على أسرار، فهو ما زاد الأمر صعوبة وتعقيداً. وكان ما رجّح الرأي هذا أنّ لصاحبه عليهم واجب الطاعة والتقدير.
وعلى العموم، تحوّلت القرية إلى سوق مفتوحة لكلّ أنواع التأويل والتكهّن. كذلك، انتشرت في البيوت بلبلة لا تريح المصابين بها ولا تطمئنهم. فهم، مصحوبين بزوجاتهم وأبنائهم، راحوا يتداولون في سهراتهم تلك الآراء التي تردّدت ويحلّلونها، ويستخلصون منها ما أمكنهم استخلاصه. ولم يمرّ أسبوع، استولى خلاله هذا الهاجس الأوحد على كلام الناس وأوقاتهم، حتّى توصّلت القرية إلى خلاصة سمّاها أبناؤها بالمؤامرة: إنّ الشرّ الذي قتل العمّ داود سوف يقتلهم واحداً واحداً، سيّان أكان البيت مصدر ذاك الشرّ أم الأرض. ولوهلة، فكّر شفيق في أن يقترح على أهل القرية التخلّص من بيوتهم بهدمها وحرقها، لكنّه ما لبث أن ارتدع لإدراكه أنّ ما يطلبه منهم مستحيل. فوق هذا، فهو حين صارح صديقه فؤاد بفكرته، زاده فؤاد استهوالاً: ماذا لو أنّ الشرّ انبعث من الأرض نفسها وليس من البيوت؟ هل نطالب الناس، والحال هذه، بإحراق القرية؟
ومرّة أخرى، قرّ الرأي على نسيان الموضوع، والعودة الهادئة إلى الحياة الطبيعيّة. دعوا العمّ داود يرقد بسلام، قال وليد كأنّه يقفل المسألة، وينهي النقاش حولها. بيد أنّ وجهة نظر أخرى ما لبثت أن تسلّلت إليهم من دون أن يستطيع أحد تحديد مصدرها الدقيق: في الليلة التي قضى فيها المعلّم داود، زار القرية شخص غريب من خارجها، ولم يتردّد في الوقوف طويلاً أمام بيته. وبالفعل، انشغلت القرية ليومين آخرين بمن يكون هذا الغريب، وكيف يقبضون عليه، وكيف يتجنّبون أفعالاً شيطانيّة أخرى قد يرتكبها.
شيء واحد قطع عليهم تكهّناتهم، هو تدخّل طبيب القرية الذي شاء الخروج عن صمته، وتقديم روايته التي باغتَتْهم جميعاً: إنّ المعلّم داود، رغم مظهره الخارجيّ، كان مريضاً جداً، وأنا كنت الشخص الوحيد الذي أعرف ذلك. لقد نصحتُه مراراً بالذهاب إلى المستشفى، وكان يرفض ذلك. ذات مرّة صارحته بأنّ وفاته متوقّعة في أي لحظة بسبب تلك الذبحات الصدريّة الصغرى التي يتعرّض لها، ويتكتّم عليها، لكنّه لم يأبه. ولسبب أجهله، بدا شديد الحرص على ألا تعرف زوجته بالأمر، حتى لو توفّي من جرّائه.
الطبيب الطيّب تعامل مع كلام داود كأنّه وصيّة شاء أن ينفّذها بتمامها، لكنّ ما آلت إليه القرية من بلبلة مصحوبة بالهيجان دفعه لأن يتكلّم. الآخرون كلهم صمتوا مذهولين.



حزن في مصر لرحيل «القبطان» نبيل الحلفاوي... رجل «الأدوار الوطنية»

نبيل الحلفاوي في لقطة من مسلسل «رأفت الهجان» (يوتيوب)
نبيل الحلفاوي في لقطة من مسلسل «رأفت الهجان» (يوتيوب)
TT

حزن في مصر لرحيل «القبطان» نبيل الحلفاوي... رجل «الأدوار الوطنية»

نبيل الحلفاوي في لقطة من مسلسل «رأفت الهجان» (يوتيوب)
نبيل الحلفاوي في لقطة من مسلسل «رأفت الهجان» (يوتيوب)

سادت حالة من الحزن في الوسطين الفني والرسمي المصري، إثر الإعلان عن وفاة الفنان نبيل الحلفاوي، ظهر الأحد، عن عمر ناهز 77 عاماً، بعد مسيرة فنية حافلة، قدّم خلالها كثيراً من الأدوار المميزة في الدراما التلفزيونية والسينما.

وكان الحلفاوي قد نُقل إلى غرفة العناية المركزة في أحد المستشفيات، الثلاثاء الماضي، إثر تعرضه لوعكة صحية مفاجئة، وهو ما أشعل حالة من الدّعم والتضامن معه، عبر جميع منصات التواصل الاجتماعي.

ونعى رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي الفنان الراحل، وقال في بيان: «كان الفقيد قامة فنية شامخة؛ إذ قدّم عبر سنوات إبداعه الطويلة أعمالاً فنية جادة، وساهم في تجسيد بطولات وطنية عظيمة، وتخليد شخوص مصرية حقيقية خالصة، وتظلّ أعماله ماثلة في وجدان المُشاهد المصري والعربي».

الفنان الراحل نبيل الحلفاوي (حسابه على «إكس»)

وعبّر عددٌ من الفنانين والمشاهير عن صدمتهم من رحيل الحلفاوي. منهم الفنانة بشرى: «سنفتقدك جداً أيها المحترم المثقف الأستاذ»، مضيفة في منشور عبر «إنستغرام»: «هتوحشنا مواقفك اللي هتفضل محفورة في الذاكرة والتاريخ، الوداع لرجل نادرٍ في هذا الزمان».

وكتبت الفنانة حنان مطاوع: «رحل واحدٌ من أحب وأغلى الناس على قلبي، ربنا يرحمه ويصبّر قلب خالد ووليد وكل محبيه»، مرفقة التعليق بصورة تجمعها به عبر صفحتها على «إنستغرام».

الراحل مع أحفاده (حسابه على «إكس»)

وعدّ الناقد الفني طارق الشناوي الفنان الراحل بأنه «استعاد حضوره المكثف لدى الأجيال الجديدة من خلال منصات التواصل الاجتماعي، حيث اعتاد أن يتصدّر الترند في الكرة والسياسة والفن»، مشيراً في حديث لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «الحلفاوي رغم موهبته اللافتة المدهشة وتربيته الفنية الرّاسخة من خلال المعهد العالي للفنون المسرحية، لم يُحقّق نجوميةَ الصف الأول أو البطل المطلق».

وعبر منصة «إكس»، علّق الإعلامي اللبناني نيشان قائلاً: «وداعاً للقدير نبيل الحلفاوي. أثرى الشاشة برقِي ودمَغ في قلوبنا. فقدنا قامة فنية مصرية عربية عظيمة».

ووصف الناقد الفني محمد عبد الرحمن الفنان الراحل بأنه «صاحب بصمة خاصة، عنوانها (السهل الممتنع) عبر أدوار أيقونية عدّة، خصوصاً على مستوى المسلسلات التلفزيونية التي برع في كثير منها»، لافتاً في حديث لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «السينما خسرت الحلفاوي ولم تستفِد من موهبته الفذّة إلا في أعمال قليلة، أبرزها فيلم (الطريق إلى إيلات)».

حنان مطاوع مع الحلفاوي (حسابها على «إنستغرام»)

وُلد نبيل الحلفاوي في حي السيدة زينب الشعبي عام 1947، وفور تخرجه في كلية التجارة التحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية الذي تخرج فيه عام 1970، ومن ثَمّ اتجه لاحقاً إلى التلفزيون، وقدّم أول أعماله من خلال المسلسل الديني الشهير «لا إله إلا الله» عام 1980.

ومن أبرز أعمال الحلفاوي «رأفت الهجان» عام 1990 الذي اشتهر فيه بشخصية ضابط المخابرات المصري «نديم قلب الأسد» التي جسدها بأداءٍ يجمع بين النبرة الهادئة والصّرامة والجدية المخيفة، بجانب مسلسل «غوايش» و«الزيني بركات» 1995، و«زيزينيا» 1997، و«دهشة» 2014، و«ونوس» 2016.

مع الراحل سعد أردش (حسابه على «إكس»)

وتُعدّ تجربته في فيلم «الطريق إلى إيلات» إنتاج 1994 الأشهر في مسيرته السينمائية، التي جسّد فيها دور قبطانٍ بحريّ في الجيش المصري «العقيد محمود» إبان «حرب الاستنزاف» بين مصر وإسرائيل.

وبسبب شهرة هذا الدور، أطلق عليه كثيرون لقب «قبطان تويتر» نظراً لنشاطه المكثف عبر موقع «إكس»، الذي عوّض غيابه عن الأضواء في السنوات الأخيرة، وتميّز فيه بدفاعه المستميت عن النادي الأهلي المصري، حتى إن البعض أطلق عليه «كبير مشجعي الأهلاوية».

نبيل الحلفاوي (حسابه على «إكس»)

ووفق الناقد محمود عبد الشكور، فإن «مسيرة الحلفاوي اتّسمت بالجمع بين الموهبة والثقافة، مع دقة الاختيارات، وعدم اللهاث وراءَ أي دور لمجرد وجوده، وهو ما جعله يتميّز في الأدوار الوطنية وأدوار الشّر على حد سواء»، مشيراً في حديث لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه «لم يَنل ما يستحق على مستوى التكريم الرسمي، لكن رصيده من المحبة في قلوب الملايين من جميع الأجيال ومن المحيط إلى الخليج هو التعويض الأجمل عن التكريم الرسمي»، وفق تعبيره.