سنوات السينما: الرجل من لندن

لقطة من «الرجل من لندن»
لقطة من «الرجل من لندن»
TT

سنوات السينما: الرجل من لندن

لقطة من «الرجل من لندن»
لقطة من «الرجل من لندن»

الرجل من لندن
The Man From London
‪(‬2007‪)‬
(ممتاز)
المخرج المعتزل بيلا تار قد يعود وقد لا يعود عن قراره باعتزال الأفلام الروائية الطويلة، ينجز أفلاماً قصيرة وأخرج فيلماً تسجيلياً طويلاً هذا العام عنوانه «أناس مفقودون». إذا ما عاد عن قراره المتخذ في أعقاب فيلمه «حصان تورينو» سنة 2011 سيواجه، على الأغلب، بالعدد ذاته من المعجبين الذين تحلقوا حول أفلامه الرائعة السابقة مثل «تانغو الشيطان» (1994) و«فركمايستر هارمونيز».
«الرجل من لندن» لم يكن من بينها. مهرجان «كان»، حيث شهد عرضه العالمي الأول، لم يمنحه جائزة والمهرجانات العالمية الأخرى لم تتهافت عليه. كذلك فإن عروضه التجارية لم تشهد أي التفاف شعبي حوله. بكلمات أخرى، لم ينجز المخرج تار عبره ما يضيفه على سجله.
لكن «الرجل من لندن» هو نموذج للفيلم المظلوم. الفيلم هو الكابوس الذي يخشاه أي منتج والعمل الذي لا يمكن لمعظم المشاهدين تقديره حق قدره لأنه يختار أن يكون، كأفلام تار كلها، مثل ثمرة على غصن عال لا يطالها المرء إلا بسلم.
القصّة المقتبسة عن رواية تحت العنوان نفسه للكاتب البوليسي‮ ‬البلجيكي‮ ‬جورج سيمنون، ‮ ‬تتناول حياة رجل عادي‮ ‬يعمل مشرفاً‮ ‬على حركة وصول المراكب والسفن إلى ميناء صغير، حيث‮ ‬ينتظر الركاب قطاراً‮ ‬ينقلهم‮ ‬إلى المدينة‮. حياة ذلك المشرف الوحيد في‮ ‬صومعته عند أعلى‮ ‬نقطة ممكنة في‮ ‬المرفأ تتغيّر ذات ليلة ‬عندما‮ ‬يرمي‮ ‬كابتن إحدى السفن حقيبة إلى رجل‮ ‬ينتظره عند الرصيف وعندما‮ ‬يستدير الرجل ويبتعد قليلاً‮ ‬يهاجمه آخر راغباً‮ ‬انتزاع الحقيبة ويقتله في‮ ‬أثناء المحاولة، ‮ ‬لكن الرجل إذ‮ ‬يسقط في‮ ‬الماء‮ ‬يأخذ الحقيبة معه ويختفيان‮ - ‬كذلك القاتل‮. ‬
في‮ ‬رواية سيمنون أحداث أخرى تختلف عما نراه‮. ‬هو كاتب‮ ‬يمضي‮ ‬في‮ ‬الوصف ويؤلف كتبه حسب السرد الكلاسيكي‮ ‬للقصّة البوليسية. لكن ما‮ ‬يفعله بيلا تار هنا هو تفريغ الفيلم من الحكاية ومعظم عناصرها وترجمتها إلى صور ومشاهد تروي القصة بأسلوب مختلف‮. ‬لذلك اللقطة الطويلة من ثلاث إلى سبع دقائق هي‮ ‬هناك لكي‮ ‬تحكي‮ ‬ما حكته القصّة إنما بكتابة مختلفة‮. ‬في‮ ‬رحى هذه الترجمة لا تستعيد القصّة معظم ما خسرته‮. ‬تفتقد الوضوح والمواقع التي‮ ‬تدافع عنها الشخصيات أو تنطلق منها‮. ‬تصبح أشكالاً‮ ‬مقصودة بذاتها‮. ‬كتومة معظم الوقت وعلى المشاهد أن‮ ‬يقرأها بمعزل عن أي‮ ‬شيء آخر سوى أنها من صنع هذا المخرج المجري‮ ‬بالذات‮.‬ ‮ ‬
رغم خصوصيّته، الفيلم‮ ‬احتفالٌ‮ ‬مبهرٌ‮ بأسلوب مخرجه التأملي والممعن في التفاصيل. ‬على الشاشة تتحرّك العناصر القليلة للقصّة‮ ‬تبعاً‮ ‬للخط العريض المذكور أعلاه مع انعطافات صغيرة هنا وهناك‮. ‬في‮ ‬الأساس، ‮ ‬يستمد الفيلم الكثير من عناصره من فيلم بيلا تار الأسبق‮ «‬تانغو الشيطان‮» ‬فهو مصوّر بالأبيض والأسود، ‮ ‬وفيه الحانة نصف المضيئة حيث‮ ‬يعزف واحد على الأكورديون وحيث تعيش شخصيات قليلة فيه لا تتغير. هناك البلدة الغارقة في‮ ‬العزلة الكاملة‮. ‬لا‮ ‬أحد‮ ‬يمشي‮ ‬في‮ ‬شوارع بيلا تار‮. ‬المدينة تبدو كما لو كانت خالية من الناس‮. ‬لا أحد يوجد فيها‮. ‬والنوافذ تبدو كأعين مقلوعة‮ ‬غير عاكسة لحياة أحد وراءها‮. ‬حين سألته ذات مرّة عن نوافذ المنازل لماذا هي‮ ‬دائماً‮ ‬مغلقة قال‮: «‬لمَ‮ ‬لا‮؟ ‬تفتحها‮ ‬يصير عليك أن تحكي‮ ‬قصصا من فيها‮. ‬تلك النوافذ».
بذلك يلغي المخرج عنصر التشويق من النص ويحافظ على عنصر اللغز ويحتفظ بحقه في تحويل الفيلم من الرواية البوليسية إلى الرواية المتأملة في الحياة. بذلك أيضاً «رجل من لندن» فيلم من البحث الإنساني في حاضر أوروبا تتحدث فيه الصور عن ذلك الحاضر وبأسلوب متين من حركات الكاميرا المدروسة والبطيئة لتفعيل التأثير الناتج.



«العواصف» و«احتفال»

«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
TT

«العواصف» و«احتفال»

«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
«العواصف» (فيستيڤال سكوب)

LES TEMPÊTES

(جيد)

* إخراج: دانيا ريمون-بوغنو

* فرنسا/ بلجيكا (2024)

الفيلم الثاني الذي يتعاطى حكاية موتى- أحياء، في فيلم تدور أحداثه في بلدٍ عربي من بعد «أغورا» للتونسي علاء الدين سليم («شاشة الناقد» في 23-8-2024). مثله هو ليس فيلم رعب، ومثله أيضاً الحالة المرتسمة على الشاشة هي في جانب كبير منها، حالة ميتافيزيقية حيث العائدون إلى الحياة في كِلا الفيلمين يمثّلون فكرةً أكثر ممّا يجسّدون منوالاً أو حدثاً فعلياً.

«العواصف» إنتاج فرنسي- بلجيكي للجزائرية الأصل بوغنو التي قدّمت 3 أفلام قصيرة قبل هذا الفيلم. النقلة إلى الروائي يتميّز بحسُن تشكيلٍ لعناصر الصورة (التأطير، والإضاءة، والحجم، والتصوير نفسه). لكن الفيلم يمرّ على بعض التفاصيل المكوّنة من أسئلة لا يتوقف للإجابة عليها، أبرزها أن بطل الفيلم ناصر (خالد بن عيسى)، يحفر في التراب لدفن مسدسٍ بعد أن أطلق النار على من قتل زوجته قبل 10 سنوات. لاحقاً نُدرك أنه لم يُطلق النار على ذلك الرجل بل تحاشى قتله. إذن، إن لم يقتل ناصر أحداً لماذا يحاول دفن المسدس؟

الفيلم عن الموت. 3 شخصيات تعود للحياة بعد موتها: امرأتان ورجل. لا أحد يعرف الآخر، وربما يوحي الفيلم، أنّ هناك رابعاً متمثّلاً بشخصية ياسين (مهدي رمضاني) شقيق ناصر.

ناصر هو محور الفيلم وكان فقد زوجته «فجر» (كاميليا جردانة)، عندما رفضت اعتلاء حافلة بعدما طلب منها حاجز إرهابي ذلك. منذ ذلك الحين يعيش قسوة الفراق. في ليلة ماطرة تعود «فجر» إليه. لا يصدّق أنها ما زالت حيّة. هذا يؤرقها فتتركه، ومن ثَمّ تعود إليه إذ يُحسن استقبالها هذه المرّة. الآخران امرأة ورجل عجوزان لا قرابة أو معرفة بينهما. بذا الموت الحاصد لأرواح تعود إلى الحياة من دون تفسير. الحالة نفسها تقع في نطاق اللا معقول. الفصل الأخير من الفيلم يقع في عاصفة من التراب الأصفر، اختارته المخرجة ليُلائم تصاعد الأحداث الدرامية بين البشر. تنجح في إدارة الجانبين (تصوير العاصفة ووضعها في قلب الأحداث)، كما في إدارة ممثليها على نحوٍ عام.

ما يؤذي العمل بأسره ناحيةٌ مهمّةٌ وقعت فيها أفلام سابقة. تدور الأحداث في الجزائر، وبين جزائريين، لكن المنوال الغالب للحوار هو فرنسي. النسبة تصل إلى أكثر من 70 في المائة من الحوار بينما، كما أكّد لي صديق من هناك، أن عامّة الناس، فقراء وأغنياء وبين بين، يتحدّثون اللهجة الجزائرية. هذا تبعاً لرغبة تشويق هذا الإنتاج الفرنسي- البلجيكي، لكن ما يؤدي إليه ليس مريحاً أو طبيعياً إذ يحول دون التلقائية، ويثير أسئلة حول غياب التبرير من ناحية، وغياب الواقع من ناحية أخرى.

* عروض مهرجان مراكش.

«احتفال» (كرواتيا إودڤيحوال سنتر)

CELEBRATION

(ممتاز)

* إخراج: برونو أنكوڤيتش

* كرواتيا/ قطر (2024)

«احتفال» فيلم رائع لمخرجه برونو أنكوڤيتش الذي أمضى قرابة 10 سنوات في تحقيق أفلام قصيرة. هذا هو فيلمه الطويل الأول، وهو مأخوذ عن رواية وضعها سنة 2019 دامير كاراكاش، وتدور حول رجل اسمه مِيّو (برنار توميتش)، نَطّلع على تاريخ حياته في 4 فصول. الفصل الأول يقع في خريف 1945، والثاني في صيف 1933، والثالث في شتاء 1926، والرابع في ربيع 1941. كلّ فصل فيها يؤرّخ لمرحلة من حياة بطله مع ممثلٍ مختلف في كل مرّة.

نتعرّف على مِيو في بداية الفيلم يُراقب من فوق هضبة مشرفة على الجيش النظامي، الذي يبحث عنه في قريته. يمضي مِيو يومين فوق الجبل وتحت المطر قبل أن يعود الفيلم به عندما كان لا يزال فتى صغيراً عليه أن يتخلّى عن كلبه بسبب أوامر رسمية. في مشهد لا يمكن نسيانه، يربط كلبه بجذع شجرة في الغابة ويركض بعيداً يلاحقه نباح كلب خائف، هذا قبل أن ينهار مِيو ويبكي. ينتقل الفيلم إلى شتاء 1926. هذه المرّة الحالة المعيشية لا تسمح لوالده بالاختيار، فيحمل جدُّ مِيو فوق ظهره لأعلى الجبل ليتركه ليموت هناك (نحو غير بعيد عمّا ورد في فيلم شوهاي إمامورا «موّال ناراياما» The Ballad of Narayama سنة 1988). وينتهي الفيلم بالانتقال إلى عام 1941 حيث الاحتفال الوارد في العنوان: أهالي القرى يسيرون في استعراضٍ ويرفعون أيديهم أمامهم في تحية للنازية.

«احتفال» معني أكثر بمراحل نمو بطله وعلاقاته مع الآخرين، وسط منطقة ليكا الجبلية الصعبة كما نصّت الرواية. ما يعنيه هو ما يُعانيه مِيو وعائلته وعائلة الفتاة التي يُحب من فقر مدقع. هذا على صعيد الحكاية وشخصياتها، كذلك وَضعُ مِيو وما يمرّ به من أحداث وسط تلك الطبيعة القاسية التي تُشبه قسوة وضعه. ينقل تصوير ألكسندر باڤلوڤيتش تلك الطبيعة وأجواءها الممطرة على نحوٍ فعّال. تمثيلٌ جيدٌ وناضجٌ من مجموعة ممثلين بعضُهم لم يسبق له الوقوف أمام الكاميرا، ومن بينهم كلارا فيوليتش التي تؤدي دور حبيبة مِيو، ولاحقاً، زوجته.

* عروض مهرجان زغرب (كرواتيا).