الحب.. والألم و«أنجلينا جولي»

الشاعرة المصرية بهية طلب تقلِّب دلالاته وتلويحاته

غلاف «قبل هروب أنجلينا جولي»
غلاف «قبل هروب أنجلينا جولي»
TT

الحب.. والألم و«أنجلينا جولي»

غلاف «قبل هروب أنجلينا جولي»
غلاف «قبل هروب أنجلينا جولي»

تهيمن مفارقات الحب ودلالاته الشجية على ديوان «قبل هروب أنجلينا جولي» للشاعرة المصرية بهية طلب الصادر أخيرا عن دار «الأدهم» بالقاهرة. ولا يبدو الحب مجرد فكرة ذات طابع فلسفي محض، وإنما توحد الشاعرة بينه وبين فعل الكتابة نفسه. فالكتابة في جوهرها الإبداعي أيا كانت هي فعل حب، يبحث دائما عن نقطة توازن بين تعارضات الروح والجسد. ويحاول أن يقوض المسافة بين ثنائية الحلم والواقع، حتى ليبدو الحلم أحيانا أكثر واقعية من الواقع نفسه. وشعريا تتبدى هذه الثنائية في انحياز الحب الدائم للحلم كطاقة متوهجة مفتوحة على فضاء الذاكرة والطفولة واللغة، وسلاح للتحرر من تناقضات الواقع وعبثيته التي قد تصل إلى حد القمع والتشيؤ.
وتلون هذه المفارقات ثنائية الحب الأثيرة بين الرجل والمرأة، فتتراءى في الديوان كلغز، أو متاهة لحرية ناقصة، مبتورة ومستلبة، يتناوب كل طرف الاحتفاظ بمفاتحيها، وأسرارها، وطرق الوصول إليها، أو حتى كسرها واجتراحها. لكنها تبقى في المحصلة النهائية علاقة اكتمال يبحث عن نقص أو العكس أيضا.
ومن ثم، تتنوع تلويحات الحب بالديوان، فهو صنو الحرية، صنو الأمومة والأبوة، بل صنو الأخوة والود، والإحساس بالدفء والأمل والعدل، ودونه يصبح الإناء فارغا، ولا شيء أمام الذات سوى العراء؛ وهنا لا مسافة بين الحب والعشق، فكلاهما وعي بالوجود، لكن هذا الوعي يكتسب خصوصيته من كونه وعيا خاصا، يشكل في لحظة ما فضاء حميما، لمصداقية الحلم والواقع معا. كما أنه بهذا الوعي تضيق الفجوة بين الذات وموضوعها، حتى تحت وطأة الخوف ومكابدات القلق والانتظار.. تقول الشاعرة في ظلال هذه الأجواء:
«أحبكَ
هذا مؤكدٌ
لكن لا أعرف أن أكون تابعةً جيدة
......
سأحتمي من مطركَ
بمظلات كثيرة لا تغويني
......
بانتظارك أتحول إلى شجرة ذات حراشف
دون غيمة أو ظل
......
كم مرةً أخبرتكَ
أنك جزء مني
هل لو آلمتني عيني
أثقبها؟
.......
خائفة
كيف سأجتاز حزنكَ
وليس لدي بستانٌ واحدٌ من الضحك؟».

تكتنز هذه النصوص فعل الحب، وتقطره في دفقات شعرية واخزة، وعبر لغة شعرية شفيفة، تنفض عن كاهلها بلاغة الجنون بالحب، أو الموت تحت جناحيه، بل تلتمس الرثاء لكل محمولاته التراثية الكلاسيكية في الشعر العربي وأبطالها العشاق المجانين، من أمثال مجنون ليلي، مجنون لبنى، وغيرهما، ممن حولوا الحب إلى مجرد خيمة استعمارية في صحراء اللغة، أقصى طاقاته أن يوحد ما بين الحبيبة وخيط نور هابط من السماء، أو أن ينفلت الحب كالريح من تخوم الزمان والمكان، ومن خطى البشر، ليبقى معلقا كتميمة موت وشهادة على سطوة القبيلة والأعراف والتقاليد، والتي كثيرا ما وصمت الحب بـ«العبودية» والأنانية الإنسانية، أو أنه ثمرة محرمة، أو فعل يشارف «التحريم»، خاصة في شقه العاطفي بين الرجل والمرأة، حيث «الحبيبة» دائما محرمة على العاشق، بينما يؤول مصيره غالبا إلى الفناء أو الجنون.
وعلى ذلك، يتجاوز الديوان فكرة الأسطورة التقليدية للحب، أو أنه كائن خرافي خارق، فالشاعرة تلامسه وتتعاطاه كفعل يومي معيش، يمنح الحياة صيرورتها، ويدفعها إلى عتبة سؤال دائم عن الخير والعدل والجمال. كما تتواصل معه في فضاءات إنسانية أثيرة، بوسائل تشبه التناص أحيانا، والاستعارة البصرية أحيانا أخرى، لتوسع مدارك الحب نفسه، وتقلِّب شواغله وأنواءه ليظل معجزة الروح والجسد معا، فهو الرقصة الهاربة التي تطارد «فرانشيسكا» بطلة الفيلم السينمائي الشهير «فوق جسور ماديسون» وهو «عقد الرمان» الذي ذبل في صدر النجمة السينمائية الشهيرة «أنجلينا جولي»، بعد إصابتها بمرض السرطان.
تخاطب الشاعرة، بطلتها النجمة قائلة:
«أنجلينا
لا بد أنك كنت فزعة تماما
فالمشارطُ لا تصادق الجميلات
والسرطانُ طفلٌ نائمٌ
حين يصحو
يبدو الموتُ معجزة نرجو أن تلحق بنا
أنت استطعت الهروبَ وحدك
وأنا اشتغلتُ بالألم
لا بكاءَ..
ليس لديوان شعر أن يُبكي
نهديك ونهدي».
ورغم أن هذا التماهي الإنساني بين الشاعرة وبطلتها يلوح بفكرة الخلاص من المرض بالموت، فإنه يظل خلاصا شكليا يطفو كموجة ناتئة فوق السطح.. تجرف معها أفكارا وحكما، لم تعد صالحا لإثارة الدهشة في زمن تعقدت مفاصله ورؤاه وأفكاره ومصالحه، وأصبح فيه إناء الحب ماديا بصرف النظر عما يحتويه، أو ما يثيره هذا المحتوى من علاقات تتقاطع وتتجاور مع المحيط الخارجي للإناء. لكن مع ذلك لا خلاص من المرض إلا بالحب، بل لا خلاص من الحب إلا بالحب نفسه، بل لا أمان مطلقا في الكون من دون الحب الذي ينأى دائما عن أن يتقولب أو يصبح حرفة أو سلعة، وإنما هو ابن الحلم والمصادقة، مصادفة الروح والجسد معا، حتى في أدق لحظات الاختيار وأكثرها عقلانية.
هذه الأسئلة والهواجس والأفكار يثيرها الديوان بخفة طازجة، يتشكل ثقلها وعمقها من مراودة الحب كفضاء مفتوح على الإنسان والحياة، وكونه همزة الوصل التي تنهي غربة أحدهما عن الآخر، وتجعل من الحنين والشوق لغة إيصال، تظل مشتعلة تحت رماد الأيام والسنين والذكريات، فباسم الحب نفسه تتحصن الذات، وتدافع عن وجودها حتى بالسخرية من الألم والمرض.. وكما تقول الشاعرة متسائلة:
«ما الذي يجعل أصدقائي يعتقدون أني كتبت
قصائدي الأخيرةَ عن المرض
أنا حفرت أنفاقا سرية وأودعتُ فيها الألمَ بعيدا عن الكلمات
وغسلتها بعطري الخاص - البنفسج
ليعلم الجميع أني كتبت عن الحب كعادتي
ليس معنى أنني دائما ما أضع ديوان أمل دنقل تحت وسادتي
أنني سأعيد كتابة (أوراق الغرفة رقم 8)
عامة غرفتي كانت 203..
رقم ليس شعريا بالمرة».
واللافت أن هذا التماثل في محنة المرض لا يفرز نوعا من الانتقائية المقصودة تغلف رمزية هذه الشخوص، أو تضفي عليها ملمحا مأساويا مفتعلا، سواء أنجلينا جولي أو أمل دنقل، أو مكابدات الشاعرة نفسها مع هذا المرض، وإنما يفتح هذا التماثل أمامنا نافذة لمتعة هارية، رغم قسوتها فإنها تتشبث بالأمل وإرادة الحياة.
لقد نجحت الشاعرة في نسج هذه المشهد بتلقائية شعرية شيقة، ابتعدت كثيرا عن التعسف والحشو، سواء في بناء الصورة السلسة الموحية، أو في التعامل الشفيف مع اللغة وكأنها ثمرة حب، وتكثف هذا النسج في التعامل مع المفارقة كقيمة فنية نابعة من داخل النص، وليس مقوما دلاليا مقحما عليه. أيضا في الاعتماد على إيقاع المشهد والحالة، خاصة في توترهما الدرامي المسكون بهواجس الداخل والخارج معا.



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لأحد أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذه العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف عن سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى إن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفاعلية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني ويستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقية تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسمح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

من جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين بأن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق بوصفها مكاناً لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».