يبلغ عدد المستفيدين من خدمات الهواتف المحمولة في الهند نحو 1.21 مليار مشترك، وهو عدد أكبر من تعداد سكان الولايات المتحدة الأميركية وإندونيسيا مجتمعتين، ووفقاً لذلك، يمر قطاع الاتصالات الهندي بأزمة هائلة في تاريخه الحديث إثر الديون الباهظة، والخسائر الفادحة، وأعباء التخبط السياسي، التي نزعت حالة الاستقرار عن أعمال ذلك القطاع المهم للغاية.
وعلى الرغم من الإرهاق الشديد الذي اتسم به أغلب الأمور، وكان آخرها ذلك الحكم القضائي الصادر عن المحكمة العليا الهندية مؤخراً. إذ صدر الحكم بإلزام كثير من شركات الاتصالات الهندية بسداد رسوم إضافية إلى الحكومة الهندية، تقدر بنحو 13 مليار دولار بشأن النزاع القضائي طويل الأمد حول كيفية حساب حصة الحكومة من الأرباح، الذي تحصل عليه الحكومة الهندية في جزء من رسوم إتاحة وتسليم طيف الخدمات لقطاع الاتصالات السلكية واللاسلكية في البلاد. وتسدد شركات الاتصالات بالفعل ما نسبته 8 في المائة من إجمالي الأرباح المعدلة ضمن رسوم الترخيص، وما بين 3 إلى 5 في المائة مسددة إلى الحكومة ضمن رسوم استخدام الطيف.
وقالت الشركات إنه ينبغي احتساب الأرباح على استخدام الطيف فحسب، لكن الحكومة تريد الحصول على حصة من كل شيء، على سبيل المثال، حصة من أرباح الإيجار. وبعد صدور حكم المحكمة العليا، صارت شركات الاتصالات الهندية اليوم مدينة للحكومة، ليس فقط بالعجز في إجمالي الأرباح المعدلة على مدار السنوات الـ14 الماضية، وإنما على ذلك المبلغ، بالإضافة إلى العقوبة المقررة والفائدة المحتسبة على العقوبة.
ولقد أصدرت المحكمة العليا أوامرها الآن إلى شركات الاتصالات بأن تسدد إلى الحكومة المدفوعات المستحقة، جنباً إلى جنب مع الغرامة الباهظة، فضلاً عن الفائدة المحتسبة على كلا المبلغين، الأمر الذي يثير علامات الاستفهام حول مقدرة الشركات على البقاء قيد العمل بعد ذلك.
وتدين نحو 15 شركة من شركات الاتصالات الهندية بذلك المبلغ الضخم إلى الحكومة الهندية. ومع ذلك، هناك 10 شركات منهم إما أنها قد أغلقت أعمالها بالكامل أو شرعت بالفعل في إجراءات الإعسار المالي خلال السنوات الـ14 الماضية.
كانت الهند في الماضي القريب تعتبر من أسواق الاتصالات اللاسلكية الواعدة في آسيا من خلال وجود 20 شركة عاملة في ذلك القطاع هناك، كثير منها هي أفرع لشركات عالمية. لكن الحماقات التنظيمية الصادرة عن الحكومة الهندية، والسياسات المعيبة التي تخضع لنفوذ جماعات الضغط في المؤسسات الكبيرة، والممارسات غير الأخلاقية لبعض شركات الاتصالات ذات التطلعات الآنية والنظرات القاصرة، قد حولت قطاع الاتصالات الهندي إلى ما يشبه المقبرة لعشرات الشركات التي اضطرت إلى إغلاق أعمالها في الهند بعد استثمار بلايين الدولارات من دون جدوى.
وكانت عدة شركات للاتصالات من النرويج، والإمارات العربية المتحدة، وروسيا، واليابان، وماليزيا، من بين الشركات التي توافدت على سوق الاتصالات الهندي المتصاعد بوتيرة سريعة. وتعاونت تلك الشركات الدولية مع الشركاء المحليين، وراهنت للحصول على موجات البث ومختلف التراخيص، وأرسلت بلايين الدولارات من أموال الاستثمار بغية إعداد شبكات العمل في البلاد.
وفي العام 2012، قررت المحكمة العليا الهندية إلغاء 122 ترخيصاً لشركات الاتصالات وللأطياف ذات الصلة بها والمخصصة لأعمالها، اعتباراً من العام 2008، واعتبرت المحكمة أن عملية التخصيص مشوبة بكثير من العيوب الإجرائية. ولذلك، تعين على الشركات العالمية شطب استثمارات بقيمة 2.5 مليار دولار إثر قرار المحكمة العليا إلغاء التراخيص بصورة جماعية.
وصدرت توجيهات أخرى من المحكمة العليا بشأن خضوع الطيف أو أي مورد من الموارد الطبيعية للمزاد. ومع عدد قليل للغاية من الشركات المؤهلة لتقديم عطاءات دخول المزاد لشراء الطيف بالأسعار الباهظة، صار هبوط الشركات الأصغر نسبياً نحو القاع سريعاً ومدوياً. وعلى مدى الأعوام الثلاثة الماضية، مرّ قطاع الاتصالات الهندي عبر مرحلة هائلة من الاندماج، مع انخفاض عدد الشركات العاملة في القطاع إلى 4 شركات فقط من أكثر من 12 شركة.
الأوضاع تزداد سوءاً
ورغم ذلك، ازدادت الأوضاع سوءاً بدخول شركة «ريلاينس جيو إنفوكوم» إلى قطاع الاتصالات الهندي، اعتباراً من العام 2016. وهي من شركات رجل الأعمال الهندي البارز «موكيش أمباني»، الذي يعد من أثرى أثرياء البلاد. وأغرقت الشركة الجديدة سوق الاتصالات بالبيانات المجانية، والعروض الصوتية، ما أفضى إلى مرحلة أخرى من الاندماج الفظيع، الذي أسفر عن إعادة صياغة قطاع الاتصالات بأكمله. إذ لم تعد الشركات المثقلة فعلياً بالديون، بسبب ارتفاع أسعار شراء الموجات في مزادات الطيف السابقة، قادرة على المنافسة مع الرسوم والتعريفات التي تعرضها شركة «جيو» للمشتركين. واضطرت شركات الاتصالات الكبيرة والقديمة في الأسواق الهندية، من شاكلة شركات «تاتا»، و«إيرسيل»، و«ريلاينس كوميونيكيشنز»، التي كانت تحظى بأرباح صحية وجيدة للغاية من خدمات البث والمكالمات الصوتية، إلى الدخول في منافسة شرسة مع شركة «جيو» التي تلعب على توفير الخدمات شبه المجانية للمشتركين، ما أدى ببعض هذه الشركات إلى إعلان إفلاسها.
غرست تلك الممارسات بذور التحول التدريجي في هيكل صناعة الاتصالات الهندية وعادت بها إلى مرحلة احتكار القلة النافذة من جديد. والآن، لا يتبارى في سوق الاتصالات الهندية سوى 3 من اللاعبين الكبار، شكّل اثنان منهم، شركة «إيرتيل» وشركة «أيديا فودافون»، مشروعاً مشتركاً بين الشركة البريطانية ومجموعة «بيرلا» الهندية، باستثناء شركة «بي إس إن إل» ذات الخدمات شبه الخاملة. وصارت شركات «ريلاينس جيو»، و«فودافون أيديا»، و«بهارتي إيرتيل» تسيطر فيما بينها على 90 في المائة من إجمالي خدمات الهواتف المحمولة في البلاد، في حين أن شركة «بي إس إن إل» وشركة «إم تي إن إل» المملوكتين للحكومة، واللتان كانتا تتصدران قطاع الاتصالات الهاتفية الهندية فيما سبق، قد انحازتا مضطرتين إلى العمل على الهامش.
حتى الحكومة الهندية قد اعترفت في غير مناسبة بأن قطاع الاتصالات يواجه بالفعل عدداً من الضغوط المتزايدة ويحتاج إلى الدعم المستمر. وفي إشارة إلى بصيص من الأمل لشركات الاتصالات، أعلنت الحكومة مؤخراً عن تشكيل لجنة من الأمناء تُعنى بمراجعة الضغوط المالية الهائلة التي يعاني منها القطاع، مع التوصية بصياغة التدابير للتخفيف منها. وجاءت تلك الخطوة بعد أيام قليلة من حكم المحكمة العليا الهندية الأخير.
هذا، وقد سعى كبار المسؤولين التنفيذيين في شركات «بهارتي إيرتيل» و«فودافون أيديا» خلال اجتماعاتهم الأخيرة مع السيد «رافي شانكار براساد» وزير الاتصالات الهندي إلى تدخل الحكومة من أجل زيادة التعريفات غير المستدامة.
ولا تعتبر المنافسة الراهنة بين شركة «ريلاينس جيو» الجديدة، وشركتي «بهارتي إيرتيل» و«فودافون أيديا» القديمتين أمراً حديثاً. فلقد دخل الجانبان في خلافات علنية بشأن عدد من المسائل منذ دخول الشركة الجديدة إلى سوق الاتصالات الهندية. وليس من الجديد أو من المفاجئ أن الطرفين لا يعملان بسياسة الند بالند فيما يتعلق بالضغوط المالية الهائلة التي يشهدها القطاع بأسره. وكانت شركة «ريلاينس جيو» قد بعثت في وقت سابق من الأسبوع الحالي برسالة إلى الحكومة تعترض فيها بشدة على «التسهيلات» التي تمكن اللاعبان الآخران من الحصول عليها، كما ذكرت أيضاً أن اللاعبين الآخرين يتمتعان بقدرات مالية هائلة وإمكانات كبيرة للتسييل النقدي تؤهلهما لسداد المدفوعات الحكومية المستحقة.
فهل سوف يتحول قطاع الاتصالات الهندي إلى سوق يسيطر عليه ثلاثة من اللاعبين فقط؟
ما الذي يعيق قطاع
الاتصالات الهندي؟
الرسوم المرتفعة، والتقلبات السياسية المتكررة، والمطالبات الضريبية التي لا تنتهي من الإدارة البيروقراطية الفاقدة لكل قيم التعاطف، والتي تتعامل مع شركات الاتصالات من واقع أنها «الأبقار المدرة للأموال»، مما دفع أغلب الشركات العاملة في القطاع إلى الانسحاب أو إعلان الإفلاس. وصارت قصة قطاع الاتصالات الهندي بمثابة جرس الإنذار بالنسبة للمستثمرين المحتملين في الهند؛ حيث تعكس تلك القصة لماذا على الرغم من ارتفاع التصنيفات الهندية لسهولة العمل على مستوى العالم، لا يزال الاقتصاد الهندي البالغ 2.7 تريليون دولار مع قاعدة المستهلكين الهائلة، من الأماكن الصعبة، والعصية على التنبؤ للغاية بالنسبة لمن لا يزالون يفكرون في الاستثمار هناك.
ومن المفارقات الواضحة، أن شركات الاتصالات الهندية، التي تعرض أرخص خدمات البيانات المحمولة على مستوى العالم، تسدد أعلى الأسعار لقاء الموجات من أي شركة أخرى مناظرة في العالم، وهو وضع غير مستدام قد أثبت تداعياته المدمرة بالنسبة إلى كثيرين.
وصرح مارتن بيترز، الرئيس التنفيذي السابق لشركة «فودافون إنديا» لصحيفة «إيكونوميك تايمز» أنه بالنسبة إلى أغلب المستثمرين الأجانب، كان الأمر عبارة عن كابوس فظيع بالنظر إلى التطورات السلبية للغاية التي شهدها هذا القطاع، بما في ذلك دخول شركة «ريلاينس جيو إنفوكوم» إلى الحلبة مؤخراً، فضلاً عن العوائق التنظيمية الكثيرة. وأضاف: «من وجهة نظر كثير من المستثمرين الأجانب، كانت الأوضاع مزرية للغاية، لقد تحركت سوق الاتصالات الهندية على مسار سلبي للغاية بالنسبة لأغلب المستثمرين».
ويعلق المحللون على الأمر بأن هناك مخاطر كبيرة من انكماش سوق الاتصالات الهندي، وأن يتحول إلى سوق احتكارية ثنائية، بالنظر إلى الأزمة الوجودية الراهنة التي تكتنف شركتي «فودافون أيديا»، و«بهارتي إيرتيل».
ويقول فيصل كاوسا، أحد خبراء الاتصالات الهنود، إنه على اعتبار السيناريو الحالي، سوف تتمخض السوق عن لاعبين اثنين فقط من الشركات الخاصة ما لم تتدخل الحكومة في الوقت المناسب، وأردف قائلاً: «التدخل الحكومي بات مطلباً ملحاً وراهناً نظراً لأن قطاع الاتصالات يمثل جزءاً من الخدمات الأساسية والضرورية في البلاد. كذلك، تحتاج الصناعة إلى اعتماد المنافسة التعاونية بدلاً من الندية المحتدمة».
وتواجه شركة «فودافون إنديا» مع الملياردير الهندي «كومار مانغالام بيرلا» وشركته «فودافون أيديا ليمتد»، التي تسيطر على حصة بنسبة 45 في المائة من سوق الاتصالات في الهند، فاتورة باهظة تُقدر بنحو 4 بلايين دولار، وتشكل في حد ذاتها عبئاً كبيراً قد يعصف بالشركة بأسرها. وصُنفت شركة «بهارتي إيرتيل» المملوكة للملياردير الهندي «سونيل ميتال» بأنها من الشركات غير المرغوب فيها من قبل وكالة «موديز» لخدمات الاستثمار، فضلاً عن أنها مدينة للحكومة الهندية بنحو 3 بلايين دولار، وفقاً لحكم المحكمة العليا سالف الذكر. ودخلت شركة «فودافون» في مستنقع آسن من الخسائر المتزايدة في وحدتها الهندية فقط، وبدا الأمر وكأنه لعبة النهاية.
وفي الأثناء ذاتها، أعلنت حكومة رئيس الوزراء الهندي هذا الأسبوع أنها تدرس بعض التدابير الخاصة بالإغاثة. وسوف تستعرض لجنة من كبار المسؤولين البيروقراطيين الخطوات اللازم اتخاذها، بما في ذلك تأجيل مدفوعات الموجات الهوائية التي تستحق السداد بحلول مارس (آذار) من عامي 2021 و2022.
وتأتي تلك الأزمة في وقت تحاول فيه الحكومة الهندية جذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية تحت مبادرة «اصنع في الهند».
معضلة قطاع الاتصالات الهندي
20 شركة تخدم 1.2 مليار مشترك
معضلة قطاع الاتصالات الهندي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة