الصراع الصامت بين مرجعية النجف وقم

متظاهرون في بغداد يحرقون صورة قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» الإيراني (إ.ب.أ)
متظاهرون في بغداد يحرقون صورة قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» الإيراني (إ.ب.أ)
TT

الصراع الصامت بين مرجعية النجف وقم

متظاهرون في بغداد يحرقون صورة قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» الإيراني (إ.ب.أ)
متظاهرون في بغداد يحرقون صورة قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» الإيراني (إ.ب.أ)

لم يسبق أن دخل المرجع الشيعي السيد علي السيستاني على خط الاحتجاجات المناوئة للنفوذ الإيراني في العراق مثلما يفعل اليوم. ولم يسبق أيضا أن تعرضت بعثات دبلوماسية إيرانية ومسؤولون إيرانيون، مثل علي خامنئي وقاسم سليماني، لإحراق صورهم وانتقادات علنية في شوارع المدن العراقية، وبالأخص في شوارع المدن والمناطق ذات الأكثرية الشيعية.
أهمية تدخل السيستاني أنه يقف إلى جانب المحتجين في وجه موقف إيراني رسمي أكد عليه المرشد الإيراني علي خامنئي أكثر من مرة، عندما اتهم جهات خارجية بتحريك التظاهرات في إطار الحملة الأميركية - الغربية على إيران، حسب ادعاءات المسؤولين في طهران. وفيما يدعو القادة الإيرانيون حكام بغداد إلى مواجهة التظاهرات بالقوة، حث السيستاني القوات الحكومية على الكف عن قتل المتظاهرين والاستجابة لمطالبهم.
صراع المرجعيات هذا ليس جديداً فيه جانب ديني يتصل بنزاع فقهي حول {ولاية الفقيه} بين النجف وقم، وجانب آخر سياسي ينبع بشكل خاص من حرص العراقيين، من مختلف الطوائف، على حماية بلدهم من التدخل الخارجي والنفوذ الأجنبي؛ خصوصاً بعدما صار هذا النفوذ باباً لنهب ثروات العراق. إنها إذن انتفاضة لحماية سيادة العراق، ولكنها أيضا انتفاضة ضد النفوذ الإيراني فيه، لم يعرف مثلها العراقيون بهذا الحجم والاتساع منذ انحسار الاحتلال الأميركي وبداية هيمنة طهران على مقدرات هذا البلد.

يقع التزاحم الحاصل بين مرجعية النجف وقم على عاتق فهم ثلاث دلالات: التشابه والاختلاف بين المرجعتين، ومساحات النفوذ، وما تمتلك كل منهما من أدوات ووسائل.
ومن الواضح أن هذا التزاحم يأخذ غالباً شكلاً من أشكال الصراع الصامت، فهو تارة يأخذ طابعاً دينياً، وتارة أخرى سياسياً، إذ لم يحدد بين المرجعية الدينية في النجف وقم، بل انحصر في مرجعية النجف والمرجعية الدينية في إيران، ومرجعية النجف التي لا تتبنى مبدأ ولاية الفقيه. ورغم التشابه بين المرجعيتين، فإنهما تختلفان في التعامل مع السياسة والسلطة، إذ لم تكن السياسة حاضرة في ذهن مرجعية النجف طوال مراحل حضورها الاجتماعي والديني، ولا يأتي تدخلها إلا بعد حصول أزمة، أو يطلب منها التدخل، لكن هذا لا ينفي وجود بعض النماذج من المراجع الذين اختاروا السياسة حاضرة في سلوكهم وأفعالهم، كما حصل مع السيد محمد باقر الصدر (أعدمه نظام صدام حسين عام 1980).
وتنبع مرجعية النجف، المتمثلة بالمرجع الديني السيد علي السيستاني، من أن دورها يعتمد على النصح والإرشاد فيما يتعلق بالعراق بشكل مميز، دون بقية الدول التي يوجد فيها مسلمون شيعة، على العكس من المرجعية الدينية في إيران التي يعبر عنها المرشد الإيراني علي خامنئي، والتي تعمل على إيجاد نفوذ وحضور في أغلب مناطق الإقليم، ومنها العراق ولبنان وفلسطين وسوريا والبحرين واليمن. ولذلك تكشف مساحات النفوذ أن كلتا المرجعيتين مختلفتان بشكل ملموس في الأسلوب والعمل. فمرجعية النجف تعتمد مبدأ مسافة التوجيه، والمقصود بها الابتعاد عن الدخول في تفاصيل قضايا الشأن العام. أما مرجعية إيران، فإنها تعمل ضمن مبدأ الحضور في تفاصيل تلك القضايا انطلاقاً من مبدأ ولاية الفقيه على عموم المسلمين الذي تعتقد به. وحين نبحث عن مظاهر الصراع الديني والسياسي بينهما وأدواته، سنلاحظ أن مرجعية النجف قيدت مجال صراعها مع مرجعية إيران في العراق فقط، دون بقية المناطق، وهذا راجع لأسباب كثيرة، منها خصوصية حوزة النجف، ومكانتها الرمزية والدينية بالنسبة لعموم المسلمين الشيعة، إلى جانب قوة حضور العراق في التاريخ الشيعي والإسلامي بشكل عام. ولهذا تتعامل مع بقية الوجود الإسلامي الشيعي بالدول الأخرى من منطلق روحي وديني، لأنها ترى أن لتلك المجتمعات سياقها المحلي والوطني، ومن الضروري مراعاة تلك الخصوصية. لذلك نجد أن مرجعية النجف لم تنتج رأياً أو توجيهاً سياسياً يتعلق بالأزمات التي ظهرت في تلك المجتمعات، على عكس المرجعية المعتقدة بولاية الفقيه في إيران التي سعت إلى تكوين وجود اجتماعي يوالي الولي الفقيه.
وبعد 2003 في العراق، أمسى من الواضح حجم الصراع السياسي بين المرجعيتين، إذ أخذ شكل الصراع يتبلور على أساس العلاقة بالنظام السياسي الجديد. فقامت مرجعية النجف في عام 2005 بالضغط من أجل القيام بخطوات «انتخاب الجمعية الوطنية وكتابة الدستور». ورغم تحفظ البعض على هذه الخطوات، فإنها كانت مطلوبة لتكوين الأسس التي يقوم عليها هذا النظام، كما اضطرت للتدخل بعدما طُلب منها بيان رأيها حول أزمة اختيار رئيس الوزراء، التي استمرت لأكثر من تسعة أشهر في عام 2010. كما أصدرت فتوى «الجهاد الكفائي»، بعدما اجتاح «داعش» مدينة الموصل 10-6-2014، على العكس من المرجعية المؤمنة بولاية الفقيه؛ حيث حضرت في العراق من خلال تيارات وقوى سياسية ودينية تعتقد بولايتها ومشاركتها بالسلطة. وهنا، يزداد الاختلاف بين المرجعيتين، إذ اقتصر تعامل مرجعية النجف على الجانب المعنوي والإرشادي دون الفعل المادي، بخلاف المرجعية القائمة على ولاية الفقيه، التي تمارس علاقاتها مع النظام الجديد بفعل معنوي ومادي، من خلال ما لها من ارتباطات سياسية وقوى تمتلك القدرة المادية والعسكرية وأدوات إعلامية وعقائدية. كما أضاف الصراع الدائر بين إيران وأميركا في العراق بعداً كشف عن مدى التباين بينهما، ولذلك أكدت مرجعية النجف في أكثر من مرة على رفض التدخل الإقليمي والدولي في العراق، وهذا ما أعلن في خطبة الجمعة لممثل مرجعية النجف من مدينة كربلاء يوم 15-11-2019، على خلاف المرجعية التي تنطلق من ولاية الفقيه، إذ تنظر لما يجري في العراق باعتباره ضمن مسؤولياتها، اعتماداً على وظيفة الولي الفقيه، الذي يناط به رعاية أحوال المسلمين. وتدلل مخرجات الصراع بين الطرفين على أن مرجعية النجف في أغلب أحوالها تكون في الصراع بموقف رد الفعل. أما مرجعية إيران، فإنها تنطلق في الصراع من الفعل، لأنها تمتلك الجانب الرسمي -الدولة ومؤسساتها- وغير الرسمي، فهم المعتقدون بولايتها من كيانات اجتماعية وسياسية داخلها وخارجها، وهذا العامل غير متوفر لدى مرجعية النجف التي تقوم على رعاية مدارس دينية وشبكة وكلاء من رجال دين يخضعون لقوانين البلاد التي يعيشون بها.
ويؤشر الصراع غير المباشر بين المرجعيتين (النجف وإيران) إلى سؤال يتحتم طرحه اليوم: هل ما يجري من صراع دائر بينهما هو سياسي بخلفية دينية، أم العكس: ديني بمظهر سياسي؟ في مضمون هذا السؤال يتأكد الاختلاف بين الجانبين، فمرجعية النجف تنطلق من معتقدها الديني الذي يدور حول الرعاية والنصح والإرشاد، ويستلزم قبول الناس لهذا الأمر، لكن المرجعية في إيران لا تفصل بين الجانبين الديني والسياسي، حيث تؤمن بأن تحقيق ما هو سياسي يتم عبر اعتقاد ديني راسخ في تصورها الفقهي الإسلامي، ولهذا يتم حضور هذا المعتقد الديني عبر وسائل سياسية، فهناك مؤسسات وظيفتها تعزيز هذا المعتقد.
ويؤكد الصراع السياسي الصامت بين المرجعيتين أن الاختلاف عميق، تأتي في مقدمة أسبابه أطروحة ولاية الفقيه، وأسلوب التعامل مع المساحات التي يمكن التحرك فيها، لا سيما حين تقوم بعض الأزمات في البلدان التي تضم مسلمين شيعة، الذي هو كاشف عن نظرة الطرفين للسلطة، إذ عملت مرجعية النجف الدينية على خلق مسافة تبعدها عن السلطة لكي تحافظ على دورها الروحي، وتمارس استقلاليتها فيما يخص الأمور التي تتصرف فيها، بعكس المرجعية التي تعتقد بولاية الفقيه، فإنها تريد الحضور في السلطة حتى تتولى إدارتها، ويكون لها التصرف بالشؤون العامة والخاصة.

- باحث عراقي



في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.