«زاباتا» يروي قصته من سجن «لاكان» الإيراني

رواية «قسم المحكومين» لـكيهان خانجاني

«زاباتا» يروي قصته من سجن «لاكان» الإيراني
TT

«زاباتا» يروي قصته من سجن «لاكان» الإيراني

«زاباتا» يروي قصته من سجن «لاكان» الإيراني

«فتحوا الباب، ورموا في السجن فتاة» بهذه الجملة تفتتح شخصية زاباتا رواية «قسم المحكومين»، لـكيهان خانجاني، التي كانت قد صدرت في عام 2017. وفي أقل من 4 أشهر، صدرت الطبعة السادسة لها، وحصلت على جائزة «أحمد محمود» (الذي بدوره عانى من مصادرة رواياته ومنعها)، ثم حجبت ومنعت، ثم أعيد إصدارها. فزاباتا يستعيد ماضي السجناء بجملة: «في سجن لاكان ألف حكاية وحكاية»، على طريقة «ألف ليلة وليلة». فكلما حكت شهرزاد حكاية، تحدث فجأة انتقالة لشخصية جديدة، ومن ثَمّ تعود لأصل حكايتها. حكايات مترابطة ببعضها، تستعيد فيها كل شخصية من الشخصيات ماضيها عبر قصة حبّه (أمّه أو أخته أو زوجته أو ابنته)، إلى أن ينتهي به المطاف في سجن لاكان: الخان (الذي يمثل الملك والسلطة)، وآزمان (السلطة المواجهة لسلطة الخان)، واللجوج، والعم الوزير (اليد اليمنى للخان)، والأفغاني، والثعلب، وملك الأنوف، والرفيق المهندس، والدرويش، وغاز. ولكل شخصية من هذه الشخصيات أسلوبها في تعاطي المخدرات، مثلما لديها لغة هي وليدة السجن.
تبني المركزية الروائية مع دخول شخصية الفتاة وتنتهي معها، ولكنها تصبح دافعاً لزاباتا لكي يندفع في عرض شخصيات رفقائه في السجن. ثم تنقسم اللحظة الروائية في النصّ على خطين متوازيين: لحظة مواجهة المجرم لوجود فتاة، ولحظة استعادية لما كان عليه قبل دخول السجن. إنها حكاية أخطر قسم في سجن «لاكان» الواقع في مدينة رشت. قسم يقبع فيه أعتى السجناء والمجرمين؛ وكان زاباتا هو الأقل خطورة بينهم؛ إنه مجرد شاب أدمن الحشيش والثرثرة، وحفظ تاريخ ونزوات وآمال رفقائه في القسم. والإحالة في تسمية «زاباتا» هي إحالة مقصودة، فالتسمية مأخوذة من فيلم «فيفا زباطة»، الذي يعكس شخصية إميليانو زباطة الثورية الذي ثار من أجل حقوق الشعب المكسيكي، وهو اسم حاولت السلطة بعد الثورة أن تحفره في الذاكرة الشعبية، عبر دبلجة توحي بأن البطل يمثلهم، وما ثورتهم إلا ثورة زاباتا.
هذه رواية مولودة من رحم أدب السجون الذي لم يكن بعيداً عن الرواية الإيرانية، خصوصاً مع مؤسسه «بزرك علوي»، في روايته التي تغطي فترة تاريخية للسجناء الماركسيين قبل الثورة الإيرانية، كما في رواية «53 شخصاً» و«أوراق سجنية»، وإن كانت تعتمد في سردها على جانب السيرة. كذلك كتب هوشنك كلشيري «شاه مرتدي السواد»، وعلي أشرف درويشيان «زنزانة رقم 18»، وشهرنوش بارسي بور «مذكرات سجن»، وعباس سماكار «أنا عنصر متمرد»، ورضى براهني في «ما الذي حدث بعد العرس؟». وبعد أن تراجعت الأعمال التي يمكن إدراجها في خانة «أدب السجون» مع انتصار الثورة الإيرانية، غلب على النصوص السردية الغموض اللغوي، والاستعارات التي لا يفهمها إلا كتابها، وذلك خوفاً من الرقابة.
ويشعر القارئ مع هذه الرواية أنه أمام حوارات ساخرة ولغة معكوسة لا تتفتح معانيها بسهولة، ومن الممكن تحميلها عدة معان؛ إنها لغة تقصّد متكلموها المحافظة على سريتها وتشفيرها، ليشعروا «بحرية داخل اللغة».
وكان نجاح الرواية يظهر في الندوات المقامة في المدن الإيرانية التي استضافت الكاتب، إلى أن ظهرت مقالة هجومية أدت إلى منعها. وجاء في كتاب المنع: «(قسم المحكومين) كتاب تعليمي لتهريب المخدرات! مع حصوله على ترخيص من وزارة الثقافة، رغم ترويجه الرذيلة واللاأبالية والحث على الفجور». وكان الكاتب مهدي مرادي، وقد نشره في موقع «فرهنك سديد»، التابع لمركز «جرفا للدراسات الثقافية الاستراتيجية»، المركز المؤثر في اتخاذ بعض القرارات في الشأن الثقافي الإيراني، ومنها منع الكتب، كما حدث مع رواية «قسم المحكومين».
ومنذ الجملة الأولى، يظهر صاحب المقال (مرادي) أنه غير مطلع على النصّ وأحداثه، فقد حصر السجناء في هذا القسم بالمحكومين بالمؤبد والإعدام، بينما الأمر ليس كذلك بتاتاً، إذ كتب في مقاله التحريضي: «ينتظر القارئ متى سيعتدي الـ250 سجيناً في القسم على الفتاة الداخلة عليهم... وليس النص سوى استغلال القارئ في أجواء إيروتيكية. يروي كيهان خانجاني روايته عبر أدبيات سخيفة، وشرح لتفاصيل القتل وتعاطي المخدرات، وتعليم طرق تعاطي المخدرات وإخفائها، وأساليب الانتحار».
وأمام هذا المنع، وهجوم «مركز جرفا للدراسات الثقافية الاستراتيجية»، رحبت أصوات أدبية نقدية بالرواية، ووجدوها تأسس لـ«خطاب الصمت»، إذ كتب محمود رضائي في مقالة نشرتها صحيفة «إيران»، العدد 6865: «تلك الفتاة، هي شهرزاد قسم المحكومين. ولكن على خلاف (ألف ليلة وليلة)، الراوي هنا رجل يريد نقل كل الحكايا في ليلة واحدة، وكأن له حق الحياة لليلة واحدة فقط».
وفي نهاية الرواية، يطلب الرفيق المهندس من زاباتا أن يكف عن تقليد السجناء، ليروي واقع حكاياتهم للآخرين.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

كيف رفض أبناء «نغوغي واثيونغو» تحرير العقل من الاستعمار؟

الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
TT

كيف رفض أبناء «نغوغي واثيونغو» تحرير العقل من الاستعمار؟

الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته

الروائي والمُنَظِّر الما بعد كولونيالي، الكيني نغوغي واثيونغو، (يتوسط الصورة). يقف مائلاً بجذعه إلى الأمام، ميلاً يكاد لا يُدرك، باسطاً كفيه على كتفي ابنته وانجيكو وا نغوغي (يمين الصورة)، وابنه موكوما وا نغوغي (يسار الصورة)، كأنما ليحتضنهما أو ليتأكد من وجودهما وبقائهما أمامه، أو يتوكأ عليهما بدلاً من التوكؤ على العصا التي ربما أسندها إلى الجدار خلفه، أو في أي بقعة من المكان.

الصورة لقطة لاجتماع عائلي صغير، اجتماع ربما لا يتكرر كثيراً ودائماً ولوقت طويل بين أب يعيش وحيداً إلّا من رفقة كلبه في مدينة «إرفاين» في كاليفورنيا، وابن يقيم في مدينة «إثاكا»، حيث يعمل أستاذاً للأدب في جامعة كورنيل، وابنة استقر بها المقام في مدينة أتلانتا، حيث تعمل أستاذاً للكتابة الإبداعية في كلية الفنون الجميلة في ولاية جورجيا. شتات أسري صغير، نموذج من الشتات الأفريقي (الما بعد كولونيالي) الكبير، تتخلله لحظات مثل لحظة التقائهم في الصورة لحدث يظهر خلاله الشبه بينهم، الشبه العصي على الشتات تبديده ومحوه.

الحدث فعالية توقيع موكوما لروايته الرابعة «انبشوا موتانا بالغناء»، شخصياً أفضل «انبشوا قبور موتانا بالغناء»، وتوقيع وانجيكو لروايتها «مواسم في بلاد أفراس النهر» أو «فصول في بلاد فرس النهر». لا يحتاج إلى تأكيد أن عنواني الروايتين قابلان لأكثر من ترجمة. وبقدر ما تبرز الصورة، أو الحدث في الصورة، من تشابه بين الثلاثة، تقوم بوظيفة المعادل الموضوعي البصري لهذه المقالة التي تجمعهم.

النضال باللغة الأم

لكن هنالك ما لا تظهره الصورة، ولا توحي به. أقصد المفارقة التي يشكلها حضور نغوغي واثيونغو حفل توقيع روايتين مكتوبتين باللغة الإنجليزية لاثنين من أبنائه، اللغة التي توقف عن الكتابة الإبداعية بها في أواخر سبعينات القرن الماضي؛ وكان مثابراً في الدعوة إلى التوقف عن الكتابة بها.

كان قرار نغوغي التوقف عن الكتابة بالإنجليزية والتحول إلى الكتابة بلغته الأم سبباً مباشراً من أسباب اعتقاله والزج به في سجن الحراسة المشددة، عشية السنة الجديدة في عام 1977. كان ابنه موكوما في السابعة من عمره عندما ألقت السلطات الكينية القبض عليه بعد ستة أسابيع من النجاح الشعبي المدوي الذي حققه عرض مسرحيته المكتوبة بلغة «جيكويو»: «سأتزوج عندما أريد»، مسرحية أدّاها ممثلون غير محترفين من الفلاحين، واستهدفت بالانتقاد النخبة الحاكمة الكينية، مما دفع الحكومة إلى اعتقاله تحت ذريعة تشكيله خطراً على البلاد.

في زنزانته التي تحَوَّل فيها إلى مجرد رقم (K677)، وكفعل تحدٍ للسلطة أولاً، وكأداة للمقاومة والنضال من أجل تحرير العقل من الاستعمار ثانياً، بدأ نغوغي، وعلى ورق التواليت، في كتابة روايته الأولى بلغته الأم «شيطان على الصليب». يروي أن ورق التواليت كان مكدساً رصاتٍ تصل سقف الزنزانة، ورق قاس وخشن كأنما أُرِيد أن يكون استخدامه عقاباً للسجناء.

إن توقف نغوغي عن الكتابة بالإنجليزية بعد مرور ما يزيد على عشر سنوات من انعقاد «مؤتمر ماكيريري للكُتّاب الأفارقة الذين يكتبون باللغة الإنجليزية»، وضعه على مفترق طرق في علاقته مع «الماكيريريين»، الذين آمنوا بحتمية وأهمية الكتابة باللغة الإنجليزية، وفي مقدمتهم صديقه الروائي النيجيري تشينوا أتشيبي. ورغم تعكر صفو العلاقة بينهما ظل نغوغي يكنّ الاحترام لأتشيبي ومعترفاً بفضله عليه. فأتشيبي أول شخص قرأ روايته الأولى «لا تبكِ أيها الطفل» حتى قبل أن يكمل كتابتها، عندما حملها مخطوطة مطبوعة إلى مؤتمر ماكيريري أثناء انعقاده في جامعة ماكيريري في العاصمة الأوغندية كامبالا، في يونيو (حزيران) 1962. وكان له الفضل في نشرها ضمن سلسلة هاينمان للكُتّاب الأفارقة.

يقول نغوغي واثيونغو لمواطنه الكاتب كيري بركه في حوار نشر في صحيفة «ذا غارديان» (2023-6-13): «قال أتشيبي إن اللغة الإنجليزية كانت هدية. لم أوافق... لكنني لم أهاجمه بطريقة شخصية، لأنني كنت معجباً به كشخص وككاتب». أتوقع لو أن أتشيبي على قيد الحياة الآن، لعاد للعلاقة بين عملاقي الرواية في أفريقيا بعض صفائها، أو كله. فموقف نغوغي الرافض للاستمرار بالكتابة بلغة المستعمر، فَقَدَ (أو) أفقدته الأيام بعض صلابته، ويبدو متفهماً، أو مقتنعاً، وإن على مضض، بأسباب ومبررات الكتابة الإبداعية بالإنجليزية. فجلاء الاستعمار من أفريقيا، لم يضع - كما كان مأمولاً ومتوقعاً - نهاية للغات المستعمر، كأدوات هيمنة وإخضاع وسيطرة، فاستمرت لغاتٍ للنخب الحاكمة، وفي التعليم.

قرار نغوغي واثيونغو الكتابة باللغة التي تقرأها وتفهمها أمة «وانجيكو» قسم حياته إلى قسمين، ما قبل وما بعد. قِسْمٌ شهد كتاباته باللغة الإنجليزية الممهورة باسم «جيمس نغوغي»، وكتاباته بلغة «جيكويو» باسم نغوغي واثيونغو، تماماً كما قسّم مؤتمر ماكيريري تاريخ الأدب الأفريقي والرواية الأفريقية إلى ما قبل وما بعد - الموضوع الرئيس في كتاب ابنه موكوما وا نغوغي «نهضة الرواية الأفريقية».

في نهضة الراوية الأفريقية

من البداية إلى النهاية، يرافق «مؤتمر ماكيريري» قارئَ كتاب موكوما وا نغوغي «نهضة الرواية الأفريقية... طرائق اللغة والهوية والنفوذ» (الصادر في مارس (آذار) 2024) ضمن سلسلة «عالم المعرفة» للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت). وترجمه إلى العربية الأكاديمي والناقد والمترجم البروفسور صديق محمد جوهر. لم يكن كتاب نغوغي الابن الباعث على كتابة المقالة فحسب، وإنما المحفز أيضاً، حتى قبل البدء في قراءته، على قراءة رواية شقيقته وانجيكو وا نغوغي «مواسم في بلاد أفراس النهر»، وكانت ترقد على الرفّ لبعض الوقت في انتظار قراءة تهرب إلى الأمام باستمرار. فكان أن قرأت الكتابين في الوقت نفسه، منتقلاً من أحدهما إلى الآخر، بينما صورة نغوغي الأب، أو طيفه يحوم في أفق القراءة، ما جعلني أُسَلِّمُ بأن لا مفرَّ من جمع الثلاثة في مقالة واحدة، وقد وهبتِ الصورة نفسَها معادلاً موضوعياً بصرياً لها.

مؤتمر ماكيريري بآثاره وانعكاساته على الأدب الأفريقي هو الموضوع الرئيس في «نهضة الرواية الأفريقية». كانت المهمة الأولى على أجندة المجتمعين في كمبالا، الذين استثنوا من الحضور كل الذين يكتبون بغير الإنجليزية، تطويق الأدب الأفريقي بحدود التعريف. ولأنه لا توجد حدود دون نشوء لثنائية الداخل - الخارج، فإنهم لم يقصوا الآداب الأفريقية بلغات المستعمر الأخرى فحسب، بل أبقوا خارج الحدود كل الأعمال الأدبية المنشورة باللغات المحلية التي نشرت قبل 1962. على اعتبار أن كل ما سبق ماكيريرى من ثمانينات القرن التاسع عشر كان خطابة.

ينتقد موكوما أدباء ماكيريري على تعريفهم الضيق والإقصائي للأدب الأفريقي، ويدعو إلى أدب أفريقي بلا حدود، يشمل الكتابات المبكرة، وآداب الشتات الأفريقي، والقص الشعبي «popular fiction»، وإلى تقويض التسلسل الهرمي الذي فرضته «الإمبراطورية الميتافيزيقية الإنجليزية»، التي امتد تأثيرها إلى ما بعدَ جلاء الاستعمار، ولم يسلم موكوما نفسه ومجايلوه من ذلك التأثير، فقد نشأ في بيئة معادية للغات الأفريقية. من الأسئلة التي قد تبزغ في ذهن القارئ: ألم يمارس موكوما الإقصاء أيضاً؟ فقد انتقد «أصحاب ماكيريري»، ولم ينتبه إلى أن كتابه «نهضة الرواية الأفريقية» لم يتسع للرواية الأفريقية باللغة العربية وبلغات الاستعمار الغربي الأخرى في أفريقيا.

الأشياء لم تتغير في «فيكتوريانا»

بإزميل حاد نحتت وانجيكو وا نغوغي عالم القصة في روايتها «مواسم في بلاد أفراس النهر»، فجاءت لغتها سهلة وسلسلة، توهم بأن القارئ لن يواجه أي صعوبة في قراءتها. في هذا العالم تتمدد دولة «فيكتوريانا» على مساحة مناطقها الثلاث: ويستفيل ولندنشاير وهيبولاند، ويتربع فيها على عرشه «إمبراطور مدى الحياة». تقدم الرواية «فيكتوريانا» كصورة للدول الأفريقية، التي شهدت فساد وإخفاقات النخب الحاكمة وإحباط آمال الجماهير بعد الاستقلال.

الحكاية في «مواسم في بلاد أفراس النهر»، ترويها بضمير المتكلم الشخصية الرئيسة (مومبي). تبدأ السرد من سن الثالثة عشرة، من حدث له تأثير كبير في حياتها. فبعد افتضاح تدخينها السجائر مع زميلاتها في المدرسة قبل نهاية العام الدراسي بأيام، يعاقبها والداها بإرسالها برفقة شقيقها من «ويستفيل» إلى «هيبولاند» حيث تعيش عمتها سارة.

العمة سارة حكواتية انخرطت في شبابها في حركة النضال ضد المستعمرين، وبعد الاستقلال، وظفت قصصها لبث الأمل والشجاعة وتحريك الجماهير ضد الإمبراطور. الحكاية التي ترويها مومبي هي قصة نموها وتطورها إلى «حكواتية» ترث عن سارة رواية القصص، والتدخل في شؤون الإمبراطورية، لينتهي بها المطاف في زنزانة في سجن الحراسة المشددة. هنا تتسلل خيوط من سيرة نغوغي واثيونغو إلى نسيج الخطاب السردي. إن السرد كقوة وعامل تأثير وتحريض على التمرد والتغيير هو الثيمة الرئيسة في الرواية. ولدرء خطره على عرشه، يحاول الإمبراطور قمع كل أنواعه وأشكاله.

* ناقد وكاتب سعودي