تمر الساحة السياسية الأميركية منذ عام 2016 بحالة من الأعاصير والتقلبات التي تعصف بها. فمرة تصطدم بموجة عالية ترغم المجتمع الأميركي أجمع على المشاركة والدخول في تلك الموجة. ومرة أخرى تجدها هادئة تقتات على الأخبار والأنباء القديمة لتجمع قواها وتستعد لقدوم موجة جديدة تهب معها كل المؤسسات المدنية والحكومية. هذ الحالة الملازمة للولايات المتحدة الأميركية مستمرة طوال السنوات القليلة الماضية، والسبب الرئيسي خلفها هو فوز الرئيس دونالد ترمب بالمكتب البيضاوي في البيت الأبيض عام 2016، متغلباً على منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون.
ربما تكون هذه الحالة السياسية المليئة بالأعاصير والتقلبات أمراً طبيعياً في بلد يحتكم إلى الديمقراطية، إلا أن الديمقراطية الأميركية لها طابعها الخاص، ولذا تختلف عن غيرها من البلدان. وفي العادة، فإن السياسة الأميركية محجوزة للسياسيين ودخول عالم واشنطن السياسي لا يصح إلا بعد أخذ الإذن من أصحابها. لكن هذا العُرف أصبح جزءاً من الماضي بعدما كسر القاعدة السائدة الرئيس الحالي دونالد ترمب، الذي أتى من عالم الأعمال والاقتصاد، من مانهاتن أي قلب مدينة نيويورك إلى البيت الأبيض، ليسجل اسمه في سجل الرؤساء الأميركيين على خطى جورج واشنطن وأبراهام لنكولن وفرانكلين روزفلت... وأخيراً، باراك أوباما.
خلّف فوز الرئيس دونالد ترمب في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة جرحاً نازفاً في جسد الحزب الديمقراطي. وحقاً، لا يزال الحزب يعاني من مرارة هزيمته حتى الآن، وخاصة أن قلة من الأميركيين كانوا يتوقعون أصلاً ترشيحه باسم الحزب الجمهوري، ثم فوزه الحاسم في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) 2016 على منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون.
ذلك الفوز المذهل أثبت فشل مؤسسات الاستطلاع ووسائل الإعلام الأميركية في رصد اتجاهات الناخبين ذلك الوقت. ومن هذا المنطلق يتردد السؤال في الأوساط السياسية بواشنطن حول ما إذا كان الحزب الديمقراطي الأداة نفسها فيختار مرشحاً غير تقليدي في الانتخابات المقبلة مع الحزب الجمهوري... فيهزم ترمب عن طريق رجل الأعمال الملياردير مايكل بلومبرغ.
قد تكون الإجابة عن هذا السؤال مبكرة، إلا أنها واردة خلال الأيام المقبلة.
منذ إعلان مايكل بلومبرغ عن رغبته في الدخول إلى السباق الرئاسي، تسابقت وسائل الإعلام الأميركية على تغطية هذا الحدث، وما عاد الرئيس ترمب الصانع الوحيد للأخبار العاجلة، وما بقي الشخص الوحيد الذي يحظى بالاهتمام الكامل..... ذلك أنه ظهر في الميدان شخصٌ آخر منافس، آت من مدينته نفسها، ويحترف صنعته نفسها وهي التجارة والأعمال، بل، ويمتلك أموالاً أكثر من أموال ترمب بنحو 17 مرة، وفق مجلة «فوربس» المرموقة للمال والأعمال. إذ تقدّر ثروة بلومبرغ بـ56 مليار دولار أميركي، وبذا يحتل المرتبة الـ14 بين أغنى أغنياء العالم، في حين تقدّر ثروة دونالد ترمب بـ3.1 مليار دولار.
سبعينيان... وجهاً لوجه
من القواسم المشتركة التي تجمع الرئيس ترمب مع مايكل بلومبرغ أنهما تجاوزا حاجز السبعين من أعمارهما، فالأول عمره 73 سنة إذ ولد في عام 1946 والثاني عمره 77 سنة إذ ولد في عام 1942. أيضاً، الرجلان كبرا وصنعا شخصيتيهما في مدينة واحدة هي نيويورك، مع أن ترمب ولد وترعرع في حي كوينز بنيويورك، في حين ولد بلومبرغ في مدينة بوسطن عاصمة ولاية ماساتشوستس، قبل أن يأتي ليعيش ويستقر في نيويورك التي أصبح فيما بعد عمدة لها طوال 12 سنة. وأيضاً، دخل الرجلان الساحة السياسية من بوابة المال والأعمال آتيين من خارج مجتمع واشنطن السياسي، على غير العادة التي اتصف بها مرشحو الانتخابات الرئاسية وسادة البيت الأبيض السابقين.
هذه المشتركات التي يتصف بها الرجلان جعلت منهما صديقين مقرّبين أثناء إقامتهما في نيويورك. وبحسب كثير من التقارير الصحافية ووسائل الإعلام فإن دونالد ترمب كان يدعم بلومبرغ أثناء مسيرته في إدارة مدينة نيويورك، بينما كان بلومبرغ على علاقة وثيقة بترمب فيلتقيان في العديد من المناسبات الاجتماعية والاقتصادية بالمدينة، جنباً إلى جنب، مع عدد من العائلات الغنية الأخرى، إلا أن تلك العلاقة تبدلت فيما بعد، واتجهت أكثر فأكثر نحو الجفاء، وصولاً إلى شيء من العداوة.
من ناحية أخرى، من المثير في سياق المقارنة بين الرجلين أن دونالد ترمب ظل طوال تاريخه داعماً للحزب الديمقراطي حتى محطة فوز الرئيس باراك أوباما في انتخابات 2007. وبعدها اتخذ توجهاً آخر بعيداً عن تأييد الحزب. أما بلومبرغ فيُعرف بدعمه وتأييده للحزب الجمهوري لسنوات طويلة، لكنه، بدوره، انقلب على ولائه السابق وغدا من أنصار الحزب الديمقراطي. وللعلم، كان بلومبرغ قد لمح في عام 2016 إلى احتمال ترشحه للانتخابات الرئاسية كمرشح مستقل، لكنه تخلى عن تلك الفكرة، وعاد إلى الحزب الديمقراطي مناصرا وداعماً بقوة لهيلاري كلينتون.
الخلفية والنشأة
يتميز مايكل بلومبرغ عن ترمب - ابن رجل الأعمال الثري - بأنه نشأ في أسرة يهودية متوسطة الدخل وكان أبوه يعمل محاسباً، بينما كانت والدته تعمل في متجر للكتب في ولاية ماساتشوستس بمدينة بوسطن. وعلى الصعيد الاجتماعي فإن بلومبرغ أب لابنتين هما جورجينا وإيما ورزق بهما من زوجته الأولى سوزان براون التي تزوجها من عام 1975 إلى عام 1993. وهو حالياً على علاقة مع ديانا تايلور المصرفية منذ عام 2000.
علمياً، تميز بلومبرغ منذ نعومة أظفاره بالذكاء والجدية، وتخرج بدرجة البكالوريوس في جامعة جونز هوبكنز المرموقة، ثم حصل على الماجستير في علم الإدارة والأعمال من جامعة هارفارد العريقة عام 1966. ثم، بدأ العمل في شارع وول ستريت بنيويورك المعروف بتداولات البورصة والعملات والأموال وذلك مع شركة سالومون بروذرز عام 1968، وأصبح بعد 4 سنوات فقط شريكا في الشركة عام 1972.
انطلاقته الجبارة
عام 1981 بيعت شركة سالومون بروذرز، فاتجه مايكل بلومبرغ في العام ذاته إلى تأسيس شركته الخاصة في مجال الكومبيوتر والمعلومات المالية، التي أحدثت ثورة في طريقة تخزين بيانات الأوراق المالية واستهلاكها. وحققت الشركة نجاحاً هائلاً، وسرعان ما توسّعت إلى الدخول في قطاع الإعلام مع أكثر من 100 مكتب حول العالم. واليوم، تعد شركته واحدة من أقوى الشركات في العالم في مجال الإدارة المالية والإعلام الاقتصادي، وبسببها أصبح اسم بلومبرغ ماركة عالمية، وصار هو أغنى الرجال في العالم.
دخل بلومبرغ، الذي كان يعتبر نفسه ليبرالياً جمهورياً، إلى الساحة السياسية عام 2001 عندما فاز في الانتخابات البلدية لمدينة نيويورك. وحقاً، ساهم في إنهاض اقتصاد المدينة بعد اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) 2001. وللعلم، كان قد انتخب رئيسا لبلدية المدينة في يناير (كانون الثاني) 2002 خلفا لرودي جولياني ليصبح العمدة رقم 108 للمدينة العريقة.
مسيرته السياسية... من نيويورك
يعتبر البعض بلومبرغ سياسياً مثيراً للجدل؛ إذ كان من أوائل المؤيدين لتشريع زواج المثليين، ومن ضمن أحد برامجه شيوعاً كعمدة إنشاء خط هاتف برقم موحّد 311 يربط سكان نيويورك مباشرة بخدمات المدينة، ما يسمح لهم بالإبلاغ عن الجرائم أو مشاكل النفايات أو أي شيء آخر. وبفضل النجاحات التي حققها خلال فترته الأولى كعمدة لنيويورك كان من السهل إعادة انتخابه مرة أخرى في نوفمبر 2005.
بعكس المرة الثانية، ما كان فوز بلومبرغ بانتخابات نيويورك مرة أخرى للمرة الثالثة عام 2009 سهلاً على الإطلاق؛ إذ اضطر لإنفاق مبلغ غير مسبوق من أمواله الخاصة بلغ نحو 90 مليون دولار على حملته الانتخابية. وفي النهاية أعيد انتخابه ولكن كمرشح مستقل لا يتبع أياً من الحزبين الكبيرين، وبقي في منصبه هذا حتى عام 2012 عندما خلفه العمدة الديمقراطي بيل دي بلاسيو... الذي رشّح بدوره نفسه للانتخابات الرئاسية عن الحزب الديمقراطي هذا العام، إلا أنه سرعان ما انسحب من السباق.
في يناير 2014 استقال بلومبرغ من مهامه السياسية، وأمضى تلك السنة مركّزاً على الأعمال الخيرية في مجالات التعليم والبحث الطبي والفنون، وكذلك التغيير البيئي والمناخي، قبل أن يعود رئيسا تنفيذيا لشركته العملاقة بلومبرغ إل. بي... وهنا، تجدر الإشارة إلى أن بلومبرغ ألّف كتابين، ونشر الأول قبل أن يصبح عمدة لنيويورك وهو مذكرات بعنوان: «بلومبرغ عن بلومبرغ» عام 1997، وبعد عشرين سنة شارك في تأليف كتاب «مناخ الأمل: كيف يمكن للمدن والأعمال التجارية والمواطنين إنقاذ الكوكب» مع كارل بوب. فضلاً عن ذلك، خلال عام 2019. كان مايكل بلومبرغ موضوعاً في كتاب من تأليف إليانور راندولف، تناول كثيرا من حياة رجل الأعمال الثري وقصة صعوده من أصول متواضعة إلى قمة عالم البنوك الاستثمارية ونجاحه السياسي غير المتوقع.
هدفه كسر ترمب
على صعيد آخر، يشترك مايكل بلومبرغ، الذي يصف نفسه بـ«المرشح المعتدل»، مع بقية أعضاء مرشحي الحزب الديمقراطي بهدف إلحاق الهزيمة بدونالد ترمب. إذ أعلن عمدة نيويورك الملياردير السابق خلال الأسبوع الماضي أنه دخل السباق الرئاسي متأخراً لهدف واحد هو هزيمة دونالد ترمب. وأوضح: «أنا أخوض السباق الرئاسي لأهزم دونالد ترمب وأعيد بناء أميركا... لا يمكننا تحمّل أربع سنوات أخرى من تصرفات ترمب اللاأخلاقية». وأردف في موقعه على الإنترنت، مع انطلاق حملته الدعائية البالغة كلفتها 30 مليون دولار، أن «المخاطر كبيرة جداً... وعلينا أن نفوز بهذه الانتخابات وإعادة بناء أميركا».
غير أن بلومبرغ سيواجه مصاعب كبيرة داخل الحزب الديمقراطي في كسب تأييد ناخبي الحزب، واللحاق بسلسلة التجمّعات التي يجريها المرشحون الـ16 في الولايات الـ50 لكسب تأييد هؤلاء الناخبين. ولا سيما، أن يساريي الحزب الذين يؤيدون المرشحين إليزابيث وارين وبيرني ساندرز يرون في بلومبرغ مليارديراً يجب إخضاع ثروته لضرائب باهظة من أجل تقليص اللامساواة بين المرشحين.
كذلك يختلف بلومبرغ في توجهاته السياسية مع أقرانه الديمقراطيين، في أنه منفتح على الصين بل هو أكثر المرشحين ودية لبكين. وسبق له أن جادل كثيراً ضد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، كما حافظ على استثماراته مع الصين. بل قال في أحد لقاءاته الصحافية إن «الرئيس الصيني ليس ديكتاتورياً»، ومن المحتمل جداً استخدام هذه النقطة ضده خلال الفترة المقبلة. وعليه، فإن السؤال المعلق في انتظار الإجابة: هل يستطيع بلومبرغ كسب تأييد الديمقراطيين فيؤهلوه لمواجهة ترمب في العام المقبل؟