تشكيلي مصري يحوّل البسطاء أبطالاً على لوحاته

«قهوجي الشاطئ»، «سمّاك الأنفوشي»، «بائع العصيّ»، «تاجر الليف»، شخصيات مصرية تحمل ملامح البساطة، لا يتطرق إليها الفن التشكيلي إلّا فيما ندر، لكنّهم وغيرهم من البسطاء والكادحين والمهمشين، تحولوا إلى أبطال داخل لوحات الفنان السكندري عادل نوح.
فمع أعماله، يمكن التعرف عن قرب على هذه الملامح، ورؤية ما تركه الزمن عليها من خطوط التعب والشقاء، مقدماً تجربة تشكيلية واقعية، متشبعة بالمشاعر الإنسانية، التي انطبعت على اللوحات، ما جعلها تضاهي جمالياً الصور الملتقَطة بعدسة الكاميرا.
يميل نوح تماماً إلى فئة البسطاء، تستهويه ملامح الواقع الشعبي، والحياة الغنية فنياً لهذه الفئة جرّاء نضالهم اليومي، يقول لـ«الشرق الأوسط»، إنّها «فئة كبيرة تمثل نسبة 90% من المصريين، تأثرت بتفاصيل حياتها، وكمّ المعاناة وضيق اليد والعذاب في العمل، ورغم ذلك لديهم لغة الجمال عبر الفطرة السليمة وأسلوب حياتهم البسيط، لذا حملت على عاتقي أن أنقل تجربتهم الإنسانية ونفس ملامحهم الحقيقية، مدفوعاً بالوفرة الفنية الرائعة التي أعايشها بوجودي بينهم في مزرعتي الخاصة».
يغرق سطح لوحات الفنان المصري بالروح المصرية، ومما يُحسب له التنوع الكبير في اختياره للموضوعات التي يتناولها، تاركة أثرها لدى المتلقي، بما يؤكد أن المبدع يرى ما لا يراه الغير، فهذه هي لوحة «الحّداد» تعكس مهنته الصعبة ومكان عمله وما يعتريه من اسوداد وجهه بفعل طرق الحديد... أمّا لوحة «البائسة» فبطلتها بائعة الورود على شاطئ محطة الرمل بالإسكندرية، فبين نضرة بضاعتها يطل وجهها البائس... فيما تطل لوحة «دنيا هنية» لتجسد إعداد وطهي السيدات للخُبز أمام الأفران البلدية، وبدوره يطل سمّاك منطقة الأنفوشي بالإسكندرية بانهماكه في العمل رغم تقدمه في العُمر.
وهي القصص والمشاهد التي تلهم الفنان المصري، ومنها استقى اسم معرضه الأول «لطائف الإلهام»، الذي استضافه «غاليري لمسات» بوسط القاهرة، حيث عكست 35 لوحة خبرته الفنية التي تمتد لنحو 30 عاماً. يوضح: «اللطيفة هي الشيء الجميل، والإلهام ما يجود الله به على الفرد من العدم في لحظة، فهو إلهام الفكرة، فأنا لا أرسم إلا عندما أتأثر بالفكرة، ويكون لديّ دافع قوي يشبع رغبتي ويلبّي إلهامي، بمعنى أن العمل الفني لدي يقوم على مضمون ورسالة وهدف يترك أثره لدى المتلقي، وليس نقل مجرد لمشهد جميل».
يستلهم نوح أفكاره من موقف حدث معه، أو حُكيت له، أو مشهد يستدعيه من ذاكرته، أو يربط بين كل ذلك عبر الحذف والإضافة والانتقاء والتنظيم بين هذه المشاهد لتكتمل الفكرة. يُترجَم ذلك مع لوحة «سارقو القصب»، فهي تدور حول مشهد عاصره الفنان صغيراً وهو قيام أطفال بسرقة أعواد القصب من صاحبه الناعس، بينما يظهر أحد الأشخاص -ممثلاً الضمير الاجتماعي- يهرول لإيقاظه وتنبيهه.
في هذه التجربة التشكيلية، يبدو جلياً تأثر مُبدعها بأعمال المستشرقين. يقول نوح: «استهوتني طويلاً أعمال المستشرقين، فلديهم صدق الأداء، والاهتمام بتفاصيل العمل الصغيرة، وقد مكثت سنوات طويلة لتأمل أعمالهم والتعرف عملياً على كيفية تشريحهم للعمل، وإمعانهم في التفاصيل، لا سيما أعمال الفنان الإنجليزي جون فريدرك لويس».
تأثُّر نوح بدقة هذه التفاصيل ينطبع على لوحاته، التي تغرق في تفاصيلها، سواء في تفاصيل أبطالها الحقيقيين، أو في ملامح الأسواق والبنايات، مهتماً بخلفيات لوحاته، تاركاً ملمحاً لعصره بين ثنايا اللوحة.
تشكل اللوحات سيمفونية بصرية عبر أدوات الفنان التشكيلية، فهو يلجأ إلى المدرسة الواقعية، معللاً: «الواقعية هي أمّ المدارس الفنية، وأنا عاشق لها، وأرى أن الفنان الذي يتمكن منها يمكنه الخروج إلى أي مدرسة أخرى، وفي أعمالي ألتزم بالواقعية الكاملة، التي أجد فيها متنفساً للتعبير عن الروح الإنسانية لفئة البسطاء، يفهمها المتذوق للفن التشكيلي وغير المتخصص».
أجاد الفنان عبر واقعيته في تجسيد الحوار الإنساني، فنجده في لوحاته عن الأسواق الشعبية ينقل هذه الحوارات بين الباعة وزبائنهم، أو بين صيادي الأسماك، وبين ربات البيوت أمام الأفران، وبين الصديقين في أثناء احتساء الشاي في الحقل. وأحياناً ينقل حواراً بين الإنسان والحيوان، فالطفل الصغير يقدم الطعام لكلب صغير، والقطة تراقب السمّاك، والراعي يتابع أغنامه.
أمّا الألوان، فهو يميل إلى الألوان المتضادة لإظهار مضمونه، كما يلعب أحياناً بالضوء بمساحات بسيطة تخدم وتوظف هذا المضمون، مثل لوحة «بنت بلادي»، حيث تجلس سيدة وابنتها أمام فرن بلدي في أثناء إعداد العجين، بينما يتداخل الدخان المنبعث من الفرن مع شعاع الشمس. لكن رغم تأثيرات الألوان والضوء تظل الفكرة هي الأقوى على الدوام.