الفلسفة والشعر... تاريخ من الحكمة والجنون

الجزائرية حبيبة محمدي تتناول اشتباكاتهما جمالياً عبر نيتشه

الفلسفة والشعر... تاريخ من الحكمة والجنون
TT

الفلسفة والشعر... تاريخ من الحكمة والجنون

الفلسفة والشعر... تاريخ من الحكمة والجنون

رغم أن الفلسفة بدأت شعراً، حسب بعض الآراء، خصوصاً في بحثها عن أصل الكون والأشياء على يد الفلاسفة الطبيعيين الأول، من أمثال طاليس وهيراقليطس... وغيرهما، فإن العلاقة بينها وبين الشعر ظلت مثيرة للجدل... هذه العلاقة بأبعادها الإنسانية والفنية تتناولها الباحثة الشاعرة الجزائرية د. حبيبة محمدي في كتابها «نيتشه.. شهوة الحكمة وجنون الشعر»، الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية للكتاب، مشيرة إلى أنه عبر أفكار نيتشه الجدلية ثمة محاولة للإجابة عن تساؤل مفاده: ما أهمية أن يتضمن الشعر الأفكار الفلسفية؟ وهل من الممكن أن تقدم الأفكار الفلسفية في إطار شعري؟
ويقع الكتاب في 4 فصول، عبر 175 صفحة من القطع المتوسط، تتبع فيها الباحثة بدايات الفكر الفلسفي، كاشفة أن كلاً من الفيلسوف والشاعر يستخدم الكلمات في محاولة إعادة تشكيل العالم وفهمه، مستعينة بمقولة للفيلسوف الألماني هايدغر: «إن كل تفكير تأملي يكون شعراً، وإن كل شعر يكون بدوره نوعاً من التفكير». وتعود إلى جذور التراث الصوفي الإسلامي، الذي جمع بين الفلسفة والشعر، حيث صاغ ابن سينا نظريته الفلسفية الخاصة بالنفس البشرية شعرياً.
ويضم الفصل الأول رحلة في تاريخ الفلسفة اليونانية، حيث نظم الفلاسفة قصائد شعرية تضمنت أفكارهم الفلسفية بداية من بارميندس (520 - 450 ق.م)، مروراً بهيراقليطس والسوفسطائيين الذين ظهروا أواسط القرن الخامس قبل الميلاد، ثم تتطرق لموقف أفلاطون المعادي للشعر والشعراء، رغم كونه ألف الشعر في شبابه، وعد الشعر نوعاً من المس الإلهي الذي يفجر الطاقة الإبداعية عند الإنسان، لكنه مع ذلك عده مصدراً مضللاً للمعرفة، وفضل استبعاده من مدينته الفاضلة.
فيما تكشف المؤلفة موقف أرسطو من الشعر الذي عده محاكاة للطبيعة، وهو باعث فن الشعر ومؤسس جذوره في تاريخ الفلسفة، إلا أن القصور الذي يشوب نظريته هو أنه لم يتناول أشكال الشعر كافة، كما أنها لم تفسر قوة الخلق لدى الشاعر الذي يسعى عبر الفن لاستكمال نقص الطبيعة التي لا تكون دائماً كاملة.
وتنتقل حبيبة محمدي إلى الفلسفة والشعر في العصر الحديث، متخذه من هيغل نموذجاً كونه عد الشعر حداً وسطاً بين الفنون التشكيلية والموسيقى (بين التمثيل والتجريد)، كما تتناول رؤية هايدغر للشعر بصفته تأسيساً للوجود عن طريق الكلام. وتعقد المؤلفة مقاربة بين الشعر والفلسفة، مشيرة إلى أن موضوعات الشعر والفلسفة تكاد تكون واحدة، فالفلسفة تبحث في المعرفة والوجود والقيم والشعر كذلك.
وتستشهد الباحثة بأقوال لباحثين سابقين حول الفلسفة، بصفتها فكراً يتداخل فيه الأدب والشعر، فتأثيرها واقع على مضامينها. أما من حيث الغاية، فإن الشعر يشترك مع الفلسفة في غاية واحدة، هي المعرفة والكشف عن الحقيقة «تأسيس الموجود بما هو موجود».
وتستشهد بكثير من المقولات لفلاسفة وباحثين تؤكد أن للشاعر تأثيراً أخلاقياً وعاطفياً، تماماً كما للفيلسوف.
وخصصت حبيبة محمدي الفصل الثاني كمدخل إلى فلسفة نيتشه، مستعرضه نشأته والنزعة الدينية التي لازمته في بداية حياته، ثم منابع فكره وفلسفته ومراحل تطوره الفكري. واستعرضت من خلال ممارسات نيتشه في الكتابة العلاقة بين الشعر والفلسفة عنده، عبر أفكاره الفلسفية الرئيسية الثلاث: إرادة القوة، والإنسان الأعلى، والعود الأبدي. وهنا، يحسب للمؤلفة تناولها بشكل مكثف مبسط للأفكار والمبادئ الفلسفية الرئيسية لنيتشه بشكل يسهل استيعابه لدى القارئ غير المتخصص.
وكما هو معروف للدارسين، تتلخص فلسفة نيتشه في الدعوة للسعادة والبحث عنها والتفاؤل والأمل، حتى لو كان ذلك من خلال المأساة، وهي الفلسفة التي علمتها له الحياة عبر سلسلة مآسي مر بها في حياته الشخصية؛ لذا فإننا من خلال التعرف على حياته سوف نفهم دعوته للإنسان لكي يحب مصيره وحياته، فكانت وصيته: «اتصفوا بالصلابة وتشددوا».
لكن المؤلفة لا تتفق مع فلسفة نيتشه عن الإنسان الأعلى والعود الأبدي ورؤيته للأزمنة الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل، فهو «كان محارباً للماضي، ومناضلاً ضد التاريخ وضد النزعة العقلية، وثار على سقراط الذي قدس المعرفة العقلية»، كما تشير إلى مشروع نيتشه النقدي للحضارة.
ويناقش الفصل الثالث النزعة الفنية عند نيتشه، ومعنى الفن لديه الذي يعود لنظرته «الديونيزوسية» للحياة، نسبة لأحد آلهة اليونان، التي أراد من خلالها التأكيد على أهمية انتصار الحياة على العقل. فالتراجيديا اليونانية امتزجت في رأي نيتشه بعناصر القوة والشجاعة والمخاطرة، وهي أمور جعلت اليونانيين يقبلون على الحياة بكل طاقتهم.
ويعد نيتشه الفن مظهراً من مظاهر القوة، فهو الذي يمنحنا إمكانيات جديدة للحياة، ويساعدنا في التغلب على كل ما من شأنه أن يستنفد إرادتنا. وعن الشعر يقول نيتشه: «حين يريد الشعراء أن يلطفوا حياة الناس، فإنهم إما أن يحولوا الأنظار عن الحاضر المعذب، وإما يضفون على هذا الحاضر ألواناً جديدة تشع ضوءاً».
وتناقش محمدي أثر الموسيقى في فلسفة نيتشه التي عدها «الحقيقة الماهوية للعالم»، مشيرة لحبه لموسيقى فاغنر وللشعر الذي له إيقاع يشبه اللحن الموسيقى، والموسيقى بالنسبة له هي أحد جذور الشعر، لذا كتب: «فوق الحافة المتألقة - الجندول، والأضواء، والموسيقى - ثملاً أعيش في البعيد، في الظلام - نفسي آلة مشدودة - تغني أغنية الجندول سراً - هل سمعها أي منكم؟».
وفي الفصل الرابع، تتطرق المؤلفة لمضامين التعبير الشعري عند نيتشه ومضامينه الفلسفية، مسلطة الضوء على الفروق بين الشعر والنثر، من حيث الصورة الشعرية والصياغة والموسيقى في الشعر والنثر، وتكشف إلى أي مدى كان نيتشه يرى أن رداءة الشعر تتحقق حين يضطر الشاعر إلى تصنع فكرة تتناسب مع القافية حتى تبدو القصيدة أكثر اتساقاً.
ثم تتناول الأمثلة بالتفصيل، والأمثلة نماذج تطبيقية للعلاقة بين الشعر والفلسفة عند نيتشه «إذ إن كتاباته تمتلئ بخصائص الشعر من إيقاع بين الجمل واستعارات وتشبيهات ورموز، فهو يتمتع بتفكير حدسي يعتمد على الصور والخيال والقدرة على الاستنباط. فشخصية زرادشت الهائم الذي يتجول في بلاد شتى غريبة هي شخصية نيتشه نفسه. وقد أصبح زرادشت على وجه الخصوص رمزاً لنيتشه ومفتاح أسرار فلسفته».
والجزء المميز في هذا الكتاب هو تقديم المؤلفة قراءة في أفكار نيتشه عبر كتاباته النثرية، في أسلوب هو أشبه بتحليل الخطاب في العلوم الإنسانية لكتابات الفيلسوف الألماني الشهير، منتقية نصوصاً من أعماله تكشف فلسفته التي استطاع بها أن يحول الكتابة إلى حالة حياتية، والحياة إلى حالة شعرية. وكما يقول جيرارد جينتي، الذي تستشهد به حبيبة محمدي، كانت الحياة بالنسبة لنيتشه لا تحتمل من دون الشعر «فالشعر هو تطهير من عفن كل ما هو يقيني».
وترصد المؤلفة أن حالة العزلة كانت شرطاً من شروط الإبداع عند نيتشه، مسلطة الضوء على حالة الاغتراب التي كان يعيشها في المجتمع الألماني، حيث عبر عن ذلك يقول: «أيتها العزلة، أنت وطني».
وتستعرض المؤلفة نماذج من قصائد نيتشه من كتاب «العلم والمرح». وتخلص في خاتمة الكتاب إلى أن كتابات نيتشه تؤكد أن الفلسفة يمكن أن تتضمن الشعر، كما يمكن للشعر أن يتضمن الأفكار الفلسفية، وأن إمكانية التداخل أقوى من إمكانية التباعد عبر كل الثقافات القديمة والحديثة. لكن التحديات التي تواجه كل باحث في كتابات نيتشه، كما تقول، هي التداخل الكبير بين فلسفته وحياته الخاصة، الأمر الذي يحتاج لكثير من الدراسات والأبحاث.
وفي الختام، تعبر حبيبة محمدي عن سر شغفها بنيتشه وإعادة اكتشافه قائلة: «عش في خطر... هذه هي تركة الفيلسوف نيتشه لي، الذي استلهمت منه الإرادة. فيلسوف القوة والإرادة. المواجهة والحرية... كان هذا هو مدخلي لقراءة الفلسفة والشعر عند نيتشه. وفي هذا الكتاب، حاولت أن أشد الخيط بين الشعر بدهشته والفلسفة بتأملاتها، وأن أقيم الجسور والمقاربات بين الحكمة والجنون».



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.