القوة الكامنة خلف الأفكار «المُهملة»

المعرفة... ما قبلها وما بعدها

القوة الكامنة خلف الأفكار «المُهملة»
TT

القوة الكامنة خلف الأفكار «المُهملة»

القوة الكامنة خلف الأفكار «المُهملة»

يقول آينشتاين إن «الخيال أهم من المعرفة»، لأن الخيال يطوف الدنيا والمعرفة محدودة، كما علّل قوله.
أفكار كثيرة لا تكون منتجة، وتبدو عديمة الفائدة في لحظتها وغير مهمة ومسلّية، وقد يكون تجسيدها مُكلفاً! ولكن حين نعود إلى أغلب الاختراعات والأفكار المنتجة، سنجدها نتاج أكثر من شخص وأكثر من مرحلة. فآينشتاين لم يكن يعلم عندما وضع نظرية النسبية العامة، أننا سنستخدمها اليوم في نظام تحديد المواقع، GPS، ولكن الذي جاء بعده جعلها كذلك.
المعرفة مفهوم مائع ونسبي وغير نهائي. ماذا نعرف؟ ما قيمة ما نعرف؟ وهل معارفنا تناسب هذا الزمان أو المستقبل؟
نقضي معظم حياتنا في الانسياق وراء ما نعتقد أنه معرفة، فلكي تعرف شيئا عليك أولاً أن تبحث في احتمال صحته أو نقيضها. فالنقيض أيضاً يخلّف معرفة.
وأسئلة يطرحها الإنسان كل حين، والعلم يقدم آليات لتبرير الثقة في المعرفة التي يولدها - أي أنه ينتصر في النهاية دوماً!
ما أنا بصدد متابعته في هذا المقال، ليس المعرفة تحديداً ولكن ما هو قبلها وبعدها الـ«ما بَعْد» يعتمد على الإمكانات. ولكن ماذا عن الـ«ما قبل»؟ وماذا عن التعامل مع المألوف بطريقة غير مألوفة؟
الاتصالات اللاسلكية، مثلاً، وكل التقنيات التي صاحبتها، لم تكن في حقيقة الأمر من اختراع غولييلمو ماركوني. فهي تدين بالفضل في وجودها إلى ماكسويل وهيرتز، وهما العالمان اللذان توصلا إلى أساسيات الموجات الكهرومغناطيسية، من دون أن يشغل ذهنيهما أي هدف عملي منها، وأنه سيكون هناك هاتف فيما بعد.
ولك أن تتخيل أن مفهوم البطاقة الائتمانية موجود في طيّات رواية «النظر إلى الخلف» لإدوارد بيلامي في العام 1887، وسماعة الأذن ضمن رواية «فهرنهايت 451» لراي براندبوري العام 1953، والاتصال المرئي في كتاب لهوغو جيرنسباك العام 1936، والهبوط على سطح القمر في كتاب «من الأرض إلى القمر» لجول فيرن 1865، قبل نحو قرن من الصعود إلى القمر. وشبكات التواصل العالمية تكهن بها العالم الإنجليزي آرثر كلارك العام 1945.
والكثير من الأفكار التي كانت لا تعدو إلا أفكاراً، أصبح فيما بعد أهم الاختراعات التي تخدم البشرية. وهناك قصتان حدثتا في ذات الوقت:
- قصة ليسينكو الذي تسبب في موت ملايين البشر. استغل هذا العالم حالة العصبية والجهل بالنظرية الماركسية وأنتج أبحاثاً مزيفة في مجال الزراعة. وكانت ادعاءاته هي ما يريد سماعه القادة السوفيات آنذاك. وفي أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات من القرن العشرين، وضع جوزيف ستالين مخططاً كارثياً لتحديث الزراعة السوفياتية، مبنياً على نظريات ليسينكو، مجبراً ملايين الأشخاص على الانضمام إلى المزارع الجماعية التي تديرها الدولة. وأدى فشل المحاصيل على نطاق واسع في البلاد إلى المجاعة. ومع ذلك رفض ستالين تغيير المسار، وأمر ليسينكو بعلاج الكارثة بأساليب تستند إلى أفكاره الراديكالية. ولم تنتهِ قصة ليسينكو إلاّ بعد وفاة ستالين.
- وقصة أبراهام فليكسنر الذي كان مهتماً بالتعليم الطبي ثم صار يهتم بالتعليم في الجامعات. ذات يوم، جاءه شخص اسمه «فلد» مع أخته «لوي»، وقالا له: لدينا تجارة كبيرة وقد جنينا مالاً وفيراً ونريد أن نكافئ هذه الولاية، ولاية نيوجيرسي، بالتبرع بشيء من المال. ونعلم أنك مهتم جداً بالتعليم الطبي. فهل ترى أن نقدم مالاً لإنشاء مؤسسة لتعليم طب الأسنان؟
قال لهما: هذا ممكن. ولكن عندي فكرة إذا اقتنعتما بها نستغل هذا المال لإنشاء مؤسسة من نوع جديد على الأقل في أميركا. تركّز المؤسسة على إنتاج المعرفة الصرفة غير التطبيقية. فنأتي بعلماء ونقول لهم: ابحثوا فيما تشاءون، أي في الأفكار والنظريات من دون الاهتمام بتطبيقاتها. كما يمكنكم النظر في المواضيع التي لا نجد لها تطبيقات مهما كانت قديمة. وبعد خمسين سنة أو مائة سنة ستأتي لنا بالفوائد الفكرية والاقتصادية والتطبيقية. فلا يمكن حصر أنفسنا من البداية في المواضيع التطبيقية.
وهذا الأمر مطبق في كثير من المؤسسات الأوروبية في ألمانيا، وبريطانيا في أكسفورد، وفي فرنسا في كولاّج دو فرانس، وفي بعض الكليات الخاصة، ونريد أن يكون لنا هذا في أميركا. فوافق المموّلان على ذلك.
ثم قال لهما: سآتي بعلماء كبار من مستوى آينشتاين، وأعطيهم رواتب. وأقول لهم: ابحثوا فيما تشاءون. بالطريقة التي تريدون ولا تكترثوا لشيء آخر. وكان عندما يتصل فليكسنر بأحد العلماء ليدعوه إلى الانضمام لـ«معهد الدراسات العليا». يسأله العالم: ما هي واجباتي؟ فيجيبه: ما عليك أي واجبات، فقط تأتي إلى مكتبك أو لا تأتي، وتتحاور مع زملائك.
وكان من تصريحات آينشتاين حول هذه المؤسسة التي بقي فيها حتى مماته، أنه أمضى أفضل أوقاته وأكثرها إنتاجاً علمياً وفكرياً، وبخاصة تلك النزهات على الأقدام برفقة كوت كودال، عالم رياضيات المنطق الشهير، وعلماء كبار آخرين التحقوا بالمؤسسة، مثل فلنويمن «أبو الحواسيب»، ويويجن فكنر، وإدور تلر «أبو القنبلة الهيدروجينية»، وأيولزراد «أبو القنبلة النووية الانشطارية»، وأوبنهايمر، وأولينتلك... وغيرهم من علماء القرن العشرين الذين التحقوا بالمعهد.
ما أهمية تلك الخطوة؟
يقول فليكسنر: «أريد أن أعطي فرصة للعلماء أن يسبحوا ضد التيار، تيار الاعتبارات التطبيقية». أي أنه كان يريد أن يعطي فرصة لفضولهم العلمي من دون أي عوائق وعقبات. أي الفضول الحرّ في كل ما تريد.
وكتب روبرت ديكراف الذي جاء بعد أكثر من 60 أو 70 سنة من فليكسنر، وهو حالياً أحد مديري هذا المعهد، أن أبراهام فليكسنر بفعلته هذه، نقل مركز الثقل للأبحاث العلمية والمعارف العليا من أوروبا إلى أميركا. وعندما توفي فليكسنر كتبت جريدة «نيويورك تايمز» في صفحتها الأولى تأبيناً له، قالت فيه: «لم يسهم أميركي من عصره أكثر مما ساهم هو في الحياة وفي الثراء وفي المعيشة بالنسبة إلى بلده، وبالنسبة إلى البشرية جمعاء».
ويقول ديكراف: هل تعرفون أن 30 في المائة من الناتج الوطني العام لأميركا أو الناتج الاقتصادي، أي كل الإلكترونيات والتطبيقات الطبية والاقتصادية الأخيرة تعود بطريقة وأخرى إلى نظريات ميكانيك الكم؟ ويضيف أن هذه النسبة ستتزايد في المستقبل. بمعنى أن أبحاث ميكانيك الكم، حينما بدأت لم يتصور أحدٌ أنه سيكون لها تطبيقات أو استخدامات، ومع ذلك فإنها بعد 50 أو 100 سنة صار لها تطبيقات عظيمة جداً.
عندما قدم روبرت ولسن، وهو مؤسس وأول مدير لمسارع فيرميلب (FermilabTevatron)، في أميركا العام 1969 أحد أكبر المسارعات، إلى الكونغرس لكي يسمعوا منه لماذا يجب أن يمولوا هذا المشروع في زمن الحرب الباردة، سأله أحد النواب: هل سيساهم مشروعكم في الدفاع عن بلدنا؟ حيث إنهم كانوا يعيشون هوس الدفاع وضرب السوفيات، فرد عليه ولسن قائلا: «هذا المشروع مرتبط بشكل قوي جداً بالشرف والوطن، ولكن ليس له أي علاقة مباشرة بالدفاع عن وطننا، إلا أنه سيجعل وطننا جديراً بالدفاع عنه».
كيف يمكننا بلوغ حالة تمكّننا من إنتاج الأفكار والإضافة على ما سبق؟
أود الإشارة إلى أن مكتبات براءات الاختراع تعج بوثائق مهملة مرميّة، وهناك برامج بحثية وتجارب إكلينيكية كثيرة لم تُكلَّل بالنجاح. ويمكن لتحليل هذا الفشل أن يساعد الآخرين على النجاح. وقد يساهم في المساعدة على فَهْم ما الذي يحث على الابتكار وتطوير الأفكار بطرق مختلفة وجديدة. فالابتكار في الحقيقة هو الربط بين الأفكار التي تبدو في ظاهرها غير مترابطة. وقد أصبحنا اليوم محاطين بكَمّ هائل من الاكتشافات، كلّ منها في مجال منفصل عن الآخر، كما يقول الواقع. ولكننا لا نستطيع أن نحكم من خلال تحليلنا على فائدتها في المستقبل.
وكل ما علينا هو المساعدة على إيجاد ميدان للأفكار من خلال النقاش والحوار، والاختلاف واحترام الغرابة، لأن الابتكار لا يحدث إلا بوجود التنوع. ومحاولة تجريب الأفكار وصقلها من خلال المزج بين الطريقة العلمية والمقاربة الفنية. وأن ندرك أن «كل ما يستطيع العقل البشري تخيله هو حقيقة تنتظر التطبيق».

- كاتب سعودي، مختص في شؤون الملكية الفكرية والصناعية



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.