إماتة الناقد... هل أُنجزت المهمة؟

بمقدور أي كاتب عربي أن يستعيد مقولات لمشاهير الكتاب تحط من قيمة النقد، وتهزأ بالنقاد، كوصف صموئيل بيكيت للنقد بأنه أشبه ما يكون بـ«استئصال الرحم بمجرفة»، أو مقولة برناردشو إن الناقد «هو من ذلك النوع من الرجال الذين لا يدعون مكاناً لا يمطرونه بالحجارة»، وهكذا وصولاً إلى مقولة سيبيليوس التبخيسية الشهيرة «لا تصغوا إلى ما يقوله النقاد، فلم نرَ يوماً نصباً يقام لناقد»، إذ يُراد لكل تلك المقولات المستعارة التدليل على عدم جدوائية النقد، وقلة فاعليته، وبالتالي انعدام الحاجة إليه. فالناقد بالنسبة لمعظم الكُتاب العرب مجرد مبدع فاشل متطفل على الإبداع، تتراكم على سمعته صفات السلبية والعطالة والغيرة، وحتى الحقد. وهذا تصور ناتج عن جهل بالمهمة النقدية من جهة، وعن ثقافة مريضة بالمقولات الكارثية المزمنة، الأمر الذي يحتم إعادة قراءة تلك الاستعارات داخل سياقاتها الثقافية والتاريخية والاجتماعية، حيث يموضع الناقد - عربياً - مثله مثل المترجم في قاع العملية الإبداعية، مقارنة بالشعراء والروائيين.
هذا الهجوم المجاني التعميمي على النقاد لا يتلاءم مع ما أداه النقد وليد الطبقة الوسطى، يوم كان مفتاح الحياة الثقافية، عندما كان أداة عقلانية للتنوير الثقافي الديني الاجتماعي، حيث تزدحم الذاكرة الإنسانية بأسماء ومنجزات ما زالت تشكل مرجعيات في التفكير الجمالي. وذلك ما لا يقر به الآخر في تعامله مع الممارسة النقدية، بمناهجها ورموزها ومدارسها وإسهاماتها، رغم الجدل الدائر هناك حول نهاية النقد في سباق الإماتات المتوالية لأجناس وألوان أدبية. فالحضارة الغربية لم تشيد أركان قيمها المفهومية والجمالية إلا من خلال المناقدة، بمعانيها الفكرية والأدبية والاجتماعية والدينية. وما زالت الصحافة الغربية، ومواقعها الإلكترونية، مستزرعة بمطالعات نقدية أدبية وفنية بشكل يومي. وما تلك اللافتات المتصارعة مع النقد والنقاد إلا حلقة ضمن سياق مناقدة الذات الغربية ومنتجاتها، حيث يقر التاريخ الأدبي والفني بأن معظم الأعمال التي تأبدت في ذاكرة ووجدان الإنسان إنما تدين بشكل أو بآخر إلى مقاربات النقاد، وقدرتهم على استظهارها في واجهة المشهد الثقافي.
حكم القيمة يشكل جوهر الجدل في سيرة الخطاب النقدي على مر التاريخ. وهي سجالات ليست جديدة تماماً، بل قديمة قدم الممارسة النقدية، حيث العلاقة الأزلية المتأزمة بين النقد والإبداع. كما تمثل ذلك في الصراع المعروف بين الشعر والفلسفة، على اعتبار أن الشعر يمثل جوهر الإبداع، فيما تمثل الفلسفة خلاصة الفكر النقدي. وما حدث في دوائر الآخر ليس سوى حالة من حالات تمديد المعايير الموضوعية، وإكساب مسطرة النقد مرونة تتجاوز قدسية المعياري وصرامة البحثي، واستدماج الأداء النقدي بالجهد التأويلي التفسيري والتفكير الاجتماعي، والذهاب إلى كفاءة الفردي على إيقاع الحد من الدور التعليمي، والتعقيم الأخلاقي للنقد، كانعكاس لدعوات إلغاء دور المثقف كمفكر للآخرين وعنهم، لا الكفر بالنقد والنقاد. وهذا هو ما يفسر ظهور نقاد المراجعات في الصحف، كردٍ أو ربما كحلٍ لتمترس النقد الأكاديمي في الجامعات.
ولا يوجد في الثقافة العربية أي سبب مقنع لموت الناقد سوى عدم رضا بعض الكُتّاب عن عدم وجود منتجاتهم على قائمة المناقدة. والمقام هنا ليس مرافعة عن النقد العربي، الظاهرة أعراض علاته بوضوح، فهو مصاب بالسلفية النقدية، وبالتخشُّب الأكاديمي، والمديونية للنقد الغربي، والتسويق للمنتجات الرديئة بمقتضى تسويات وصفقات، وبالانفصال عن مستجدات الطرح النقدي العالمي، وباللاأدبية، وهكذا. ولكن مقتضى الحديث هنا هو فحص مسببات وأثر العداء الصريح للنقد على فعل المثاقفة، والبحث عن أفق نقدي يتناسب مع التحولات العميقة للخطاب النقدي العالمي، حيث يشكل تراجع الأثر الذي كان يُحدثه النقد الأكاديمي علامة بارزة في المشهد، مقابل ذلك التمدد الأفقي الواسع لنقاد المدونات، وذلك بموجب مهبات اللحظة الديمقراطية التي ألغت وجود الناقد كوسيط بين المنتجات الأدبية والقارئ، على إيقاع انكماش النقد الأدبي، وظهور الدراسات الثقافية، الأمر الذي جعل التنظير الثقافي يحتل موقع مناقدة النصوص الأدبية.
وفي ظل تضاؤل قيمة النخبوي، مقابل صعود الشعبي، قل الاهتمام بالنصوص المعيارية، مع اندفاع نقدي لتأمل ثقافة البوب ومنتجات الهامش الثقافي، حيث الخصوبة المتوفرة في هذا الحقل. وذلك ضمن خطوة مزدوجة لنزع القداسة عن الآثار الأدبية الكبرى، والخطابات النقدية الأكاديمية، وما تأسس على ذلك من تهشيم أدب الطبقات الرفيعة، والانتصار لفنون الشارع وأدب الهامش، وبالتالي زلزلة موقع النقاد الذين كان يُنظر إليهم كطبقة رفيعة أيضاً في عملية إنتاج النص. وهي تحولات تم ترحيلها باستعجال وقلة استيعاب إلى الفضاء العربي. وعليه، صار النص الإبداعي العربي بكل ضروبه السردية والشعرية في العراء، من دون مقاربات أو مساءلات، إلا من قبل فصيل من النقاد المدرسيين الذي أساؤوا للممارسة النقدية بتقليديتهم، بالقدر الذي أساء به مقلدو الآخر بشعوذات المناهج غير المهضومة معرفياً لسمعة ومكانة ومهمة الناقد.
عدد منتجي النصوص في العالم العربي يفوق عدد منتجي المعرفة من النقاد بأضعاف. وهذا هو السبب الأبرز في انكشاف النص الإبداعي وإحساسه باليتم. وما تدفع به الجامعات العربية في المشهد الثقافي من خريجي النقد لا يعدو كونه إضافة المزيد من الشحم على جسد مترهل، حيث المدرسية والأكاديمية الجافة، والانفصال عن روح العصر. ومرد ذلك كله يعود إلى اعتقاد قاتل بكون النقد عملية وظيفية، بحثية، أو استلحاقية بالإبداع، وإلى كون الناقد مبدعاً فاشلاً. وهي مقولة تزهّد كل من يراود نفسه بالحضور كناقد، وتدفعه إلى التردد في الإخلاص للنقد، كفكرة وكعملية إبداعية. وعلى هذا الأساس يموت النقد، أو يكتفي بالحضور الخجول على هامش المشهد. كما تتعزز تلك الإماتة على المستوى المؤسساتي بازدراء الخطاب النقدي، والتقليل من أهميته، مقابل الجوائز الباذخة والمهرجانات الاحتفالية للمنتج الأدبي والفني مهما بلغ من الرداءة والتفاهة.
إن عدم اهتمام المؤسسات الثقافية العربية بالنقد توجه خطير يحمل في مضمراته نوايا التقليل من جدوى وضرورة العقلانية في وعي الإنسان العربي، كما ينم عن تحجيم دور الناقد في العمل كأكاديمي بارد الحواس أو كمستشار بائس ضمن لجان تحكيمية. وبالتالي، إفساح المجال لمنتجات أدبية خالية من المعرفة والعقلانية والقيم التنويرية لتشكيل الذائقة والحس العام. وهذا هو ما يفسر ظهور شريحة واسعة من الكُتاب المنذورين على الدوام لمهاجمة النقاد بكل توجهاتهم واختلاف إسهاماتهم، والتعريض بالممارسة النقدية، بصفتها من وجهة نظرهم حالة من التطفّل على الإبداع. وهو ما يعني أن هذا الفصيل الذي تعرض على مدار عقود لعملية غسل وعي ضد الخطابات والمناهج والرموز النقدية، لا يعرف عن النقد إلا ما يتعلق بامتناع النقاد عن مقاربة منتجاته، ولم يخطر بباله أن النقد عملية إبداعية قفزت على مبدأ حكم القيمة، وذهبت عميقاً في الدراسات الثقافية، ولم تدر ظهرها للنص.
لا حاجة للناقد كوسيط بين النص والقارئ ما دام القارئ يستطيع أن يطلق حكم قيمة وفق ذائقته ووعيه ومزاجه، ومن دون الاتكاء على نظريات علم الجمال والمعادل الموضوعي والإزاحة الشعرية، وغيرها من القواعد المعتمدة لمعايرة النصوص. هذا ما يردده القراء اليوم الذين تحولوا إلى نقاد مدونات.
أجل، نقاد المدونات الذي صار بمقدورهم تقويم أعمال دوستويفسكي والمتنبي وشكسبير، وليس أعمال مجايليهم وحسب. وهذا وهم يضع المنتج الأدبي خارج أي قيمة معيارية، سواء كانت معرفية أو جمالية، ما عدا معيار الانطباع الشخصي. وهو مكتسب إنساني استجلب من خارج الحقل الثقافي، أي من مهبات الديمقراطية الجارفة التي فككت كل ما هو سلطوي أو أبوي، بما في ذلك النقد الذي كان يُصنف ضمن خطابات الوصايا. ومن ذلك المنطلق، أعيد الاعتبار للمزاج الشخصي، اتكاءً على صعود الفردانية، في الوقت الذي رُكنت فيه الأبعاد الموضوعية والأخلاقية، وحتى الجمالية، على هامش عملية التلقي. وبذلك، تآكلت مكانة النقد كسلطة أدبية، وتشوهت سمعة النقاد الذين بشروا بدورهم بانحطاط الذائقة.
إن الكتاب الذين سيروا المظاهرات المطالبة بإماتة الناقد الذي تأسس خطابه في الجامعات والصالونات الثقافية، وإخراجه من دائرة تشكيل الوعي والذائقة والمعرفة، يجدون أنفسهم اليوم أمام نقاد مدونات ولدوا في حضانات السوشيال ميديا؛ نقاد تنقطع أنفاس أقلامهم بعد كتابة سطور قليلة من الكلام الإنشائي لتقويم عمل أدبي، والأسوأ من هؤلاء أولئك الذين لا يعرفون عن المناقدة سوى كتابة جملة حائرة، وتعليق نجوم التقويم في مواقع القراءة الشهيرة. والأخطر أنهم صاروا يقدمون أنفسهم كخبراء ثقافيين، أي كوسطاء جُدد بين القراء والكتاب؛ بمعنى تحولهم إلى سلطة نقدية كانوا يرفضونها، ويحاربون نقاد المناهج والموضوعية والنظريات والجماليات لتقويضها انتصاراً للخيارات الذوقية الفردية، وانتقاماً مما يُعرف بثقافة البرج العاجي. وهنا، وقعت الكارثة، إذ لا أحد يريد أن ينظر إلى الوجود من موقع القارئ ما دام بمقدوره أن يكون كاتباً وناقداً بالضرورة.
- ناقد سعودي