كيف تصبح ناقداً أدبياً؟

«مقدمات تأسيسية في الأدب والنظرية النقدية» للسروي

TT

كيف تصبح ناقداً أدبياً؟

يسعى كتاب «مقدمات تأسيسية في الأدب والنظرية النقدية»، الذي صدر حديثاً عن دار «منشورات الربيع» للناقد المصري الدكتور صلاح السروي، إلى معالجة مفاهيم «الأدب» و«النقد الأدبي» على النحو الذي يساعد القارئ والباحث في استيعاب وتذوق النصوص الأدبية، ومعرفة تاريخها وجمالياتها والمصطلحات الحاكمة لحركة ومعنى هذه الجماليات.
ويرتكز السروي في كتابه على فكرة التفرقة بين «النقد الأدبي» و«الدراسة الأدبية». فالنقد الأدبي هو النظريات والمناهج النقدية، أما الدراسة الأدبية فهي تطبيق هذه النظريات أو المناهج على النص الأدبي. ومن هنا يعد الباحث في مجال النظريات والمناهج «منظراً» أو «مفكراً» أو «باحثاً» نظرياً في مجال النقد، بينما يعد الدارس للنص الأدبي، بغية تفسيره وفهمه والحكم عليه وتقديمه للقارئ «ناقداً أدبياً» أو «باحثاً» في حقل الدراسات الأدبية، أو «مؤرخاً» لحركة الأدب عبر المراحل والعصور المختلفة.
ولا يقدم السروي لنوع واحد من هؤلاء، لكنه يتوجه بمحاوره وفصوله للصنفين معاً؛ دارس النظرية النقدية ودارس النص الأدبي، على حد سواء؛ حيث لا غنى لكل منهما عن معرفة المناهج والنظريات النقدية التي تجعل المعرفة الأدبية والممارسة النقدية قائمة على أسس علمية ومنهجية واضحة.
وحاول السروي في كتابه، الذي تضمن مقدمة وتمهيداً وأربعة فصول، تقديم تعريفات لمعنى الأدب وأنواعه، والدراسات المرتبطة به، وسعى للتفريق بين المعنى اللغوي والاصطلاحي لكل تعريف، وقدم تعريفات «للأدب»، ولكل نوع أدبي، وكل ممارسة علمية تتم حول الأدب، من دراسات، وتأريخ، ونقد، فضلاً عن الأنواع الأدبية وتجلياتها الإبداعية في الشعر والملحمة والمسرحية والرواية والقصة القصيرة والمقامة. وتتبع في ذلك أجزاء من التاريخ الجمالي لكل نوع على حدة في الأدبين العالمي والعربي، عبر عدد من الرموز الراسخة من المؤلفين، والإبداعات المرموقة الخالدة من الأعمال الأدبية.
وتضمن الفصل الأول «مصادر الأدب» طرحاً نظرياً سعى لتقديم المصادر والمنطلقات التي خرجت منها الفنون والآداب بمختلف مكوناتها، اعتماداً على مقولة: «خروج الجميل من النافع». التي تتبعها المؤلف منذ العصور البدائية، حتى تكون وتبلور الأنواع الأدبية والفنية المعروفة. وعالج في هذا الفصل تحولات حركة هذه الأنواع منذ نزعات تصوير النموذج الإنساني المثالي في العصور الكلاسيكية، مروراً بمرحلة «التصور اليوتوبي» في عصر النهضة، و«الفكر اليوتوبي» في بداية الصعود البرجوازي المدني الحديث، وصولاً إلى النزعات الاغترابية والطليعية الحديثة والمعاصرة في المجتمعات الغربية.
وركز الفصل الثاني «الكلاسيكية - الفن باعتباره محاكاة» على تقديم تعريف للمنهج الكلاسيكي، وتتبع أصول المصطلح عبر التاريخ والظروف التاريخية والاجتماعية التي كانت وراء تشكله. ولتوضيح ذلك سعى السروي لتقديم مهاد تاريخي للنظرية الأدبية والفن عند اليونان، التي تم في إطارها طرح نظرية المثل عند أفلاطون، والفن عند أرسطو، وصولاً إلى «الكلاسيكية الجديدة»، وتحديد سماتها الفنية والجمالية، وانتهاءً بـ«النزعة الإنسانية»، باعتبارها إحدى أهم ما تمخضت عنه هذه المدرسة التي شهدت إحياء المجد الأدبي اليوناني والروماني، وقدمته متطوراً بعد أن خلصته من أدران الماضي، ليكون لائقاً للانطلاق نحو أدب العصر الحديث.
وقدم الفصل الثالث «الرومانسية - الفن باعتباره تعبيراً» الظروف والأوضاع الاجتماعية والتاريخية، التي أنتجت هذا النزوع، بدءاً من تحولات الواقع الأوروبي الحديث الذي شهد انتصار البرجوازية في كفاحها التاريخي في مواجهة الإقطاع، وولادة مفهوم «الفردية» أو الاستقلال الذاتي للفرد، وصولاً إلى الثورة على الكلاسيكية، باعتبارها امتداداً للثورة على الإقطاع. كما تتبع السروي المسيرة التاريخية التي قطعها هذا المصطلح، من مجرد دلالة على لهجة معينة حتى أصبح علماً على مدرسة أدبية وفنية كبرى، ثم ركز بعد ذلك الحديث على الأسس الجمالية للرومانتيكية، وتتبع مسارها من نزوع عاطفي ووجداني آسيان وحزين إلى «الخلق الفني» و«النغمة الخطابية».
أما الفصل الرابع والأخير، فقد جاء بعنوان «الاتجاه الاجتماعي - الفن باعتباره انعكاساً»، وطرح خلاله المؤلف رؤية عامة للتحولات التي ألمت بالواقع الأوروبي منذ منتصف القرن الثامن عشر، وانتكاس الثورات الجمهورية التي قامت على أثر انتصار الثورة الفرنسية، والتي انتكست بدورها وعادت النظم الملكية، وفي الوقت نفسه شهدت أوروبا ظهور نتائج الثورة العلمية والتكنولوجية الأولى وقيام الصناعة الآلية، وولادة الفلسفات والنظريات اليوتوبية والاشتراكية، وقيام العلوم الإنسانية، مثل علم الاجتماع وعلم النفس والاقتصاد، وبروز الطبقة الرأسمالية التي ورثت مركز السيادة والسيطرة، ما أدى لخلق الكثير من المظالم والأوضاع الاجتماعية المزرية في بداية نشوء النظام الرأسمالي.
وركز السروي على دراسة مفهوم الواقعية وبدايات طرحه على الساحة الفكرية والأدبية والنقدية ورحلة المصطلح في أصقاع أوروبا. وكان لا بد من التفرقة بين المنهج الوضعي والمنهج الاجتماعي، وبين «الواقعية» و«الطبيعية»، وذلك لمنع الالتباس بين منهجين تم خلطهما بالعمد أحياناً، وبالجهل أحياناً أخرى من قبل البعض. بينما ينتمي كل منهما إلى حقل فلسفي وفكري بالغ التمايز والاختلاف، وهو ما ظهر جلياً بين النظرة المادية الجدلية (الماركسية)، بالنسبة للأول، والنظرة المادية الميكانيكية (الوضعية) بالنسبة للثاني. ثم جاء دور إبراز موقف هذا الاتجاه من الرومانسية التي تعد الواقعية الوارث الطبيعي لمكانتها، نظراً للتغيرات الكبرى التي تمت في أوروبا على مستوى اكتشاف العلوم الطبيعية والإنسانية مثل علمي الاجتماع والنفس، وانكسار الموجة الثورية الفرنسية، وتراجع النظرة المثالية الحالمة التي قامت على أساسها الحركة الرومانسية.



كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

كمال داود
كمال داود
TT

كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

كمال داود
كمال داود

تتويج كمال داود بجائزة «الغونكور»، وهي أبرز تكريم أدبي فرانكفوني على الإطلاق، لم يكن مفاجأة، فمنذ أشهر توقّعت عدة تقارير فوز الكاتب الجزائري بالجائزة المرموقة التي كان قد اقترب منها بشكل كبير بعد صدور روايته «مرسو التحقيق المضاد»، العمل الذي وضعه في دائرة الضوء في 2014 بعد أن نال استحسان النخب المثقفة حتى وُصف أسلوبه بـ«البارع والمميز» من قِبل منابر إعلامية مرموقة مثل «النيويورك تايمز».

في روايته الجديدة يُطلّ علينا الكاتب الجزائري بأسلوب أدبي مختلف بعيداً عن السرد الخيالي والأحاديث العفوية التي لمسناها في «مرسو»، فنصّ «الحوريات» مستوحى من الواقع وهو واقع مرّ كئيب، حيث اختار كمال داود تقليب المواجع والنبش في تاريخ الذكريات الدامية التي عاشها وطنه في حقبة التسعينات إبان ما سُمي بـ«العشرية السوداء»، فجاءت اللوحة سوداوية وكأن الجزائر أغنية حزينة وألم مزمن يسكن أعماق الكاتب.

كمال داود

الرواية تبدأ بمونولوج مطوّل لـ«فجر»، وهي فتاة في عقدها العشرين بقيت حبيسة ماضيها وحبالها الصوتية التي فقدتها بعد تعرضها لمحاولة ذبح. المونولوج يمر عبر مناجاة داخلية للجنين الذي تحمله، تخبره فيه عن معاناتها وذكرياتها وعن كفاحها من أجل التحرّر من سلطة الرجال. في الفقرة الثانية تقرر «فجر» العودة إلى مسقط رأسها بحثاً عن أشباحها وعن مبرر تنهي به حياة طفلتها حتى لا تولد في مجتمع ظالم، لتلتقي بعيسى بائع الكتب المتجوّل الذي يحمل جسده آثار الإرهاب وهوساً جنونياً بتوثيق مجازر العشرية السوداء بتواريخها وأماكن وقوعها وعدد ضحاياها. في رحلة العودة تغوص الرواية في جحيم الحرب الأهلية وذكريات الجرائم المروّعة، واضعة تحت أنظارنا مشاهد قاسية صعبة الاحتمال، كالمقطع الذي تستحضر فيه «فجر» ليلة الذبح الذي تعرضت له عائلتها، أو الفقرات التي تروي فيها شخصية «حمراء» ليلة اختطافها لتزوج قسراً وهي لا تزال طفلة. وهي نصوص لها وقعها النفسي إذا ما علمنا بأن الكاتب استوحى كتاباته من الأحداث الواقعية التي عاشها أثناء تغطيته مجازر تلك الحقبة الدامية في تاريخ الجزائر، بينما كان يعمل صحافياً في يومية «لوكوتديان دو أورون» أو أسبوعية وهران.

وأشاد كثير من الأوساط بالقيمة الأدبية للرواية. صحيفة لوموند وصفتها بـ«القوة المذهلة» و«الشاعرية الغامضة». وأشادت صحيفة «لوفيغارو» بالسرد القوي المشحون بالصور الشعرية الصادمة والعواطف الجيّاشة التي تعبّر عن حجم المعاناة. صحيفة «ليبيراسيون» كتبت أنها رواية «أساسية، ومفيدة وشجاعة، وإذا وضعنا جانباً كونها مثقلة بالرموز فإن طاقتها المذهلة تُغلف القراءة». وبالنسبة لصحيفة «سود ويست»، تصرّح بأن «الحوريات» «كتاب رائع وجميل وطموح وإنساني وسياسي للغاية» قبل أن تضيف أن «نفوذ (غاليمار) - دار النشر التي ينتمي إليها كمال داود - ودورها في وصول الرواية إلى التتويج ليس بالهيّن. على أن النقد لم يكن دائماً إيجابياً؛ حيث جاءت وجهات النظر متباينةً بخصوص القيمة الأدبية لرواية كمال داود، ففي قراءات نقدية سابقة لم تلقَ الدرجة نفسها من الاستحسان، فمنهم من عاب على الرواية اللجوء المفرط للرموز بدءاً بالأسماء: «حورية»، «فجر»، «شهرزاد»؛ إلى رمزية الأماكن كالقرية التي شهدت ذبح عائلتها والتي وصلت إليها «فجر» صبيحة عيد الأضحى بينما كان الأهالي يذبحون الأضاحي، حتى كتب أحد النقّاد أن ثقل الرموز سحق القصّة، كما أن تشبث الكاتب بسرد الأحداث الواقعية بتواريخها وأماكنها وعدد ضحاياها جعل القارئ يفقد الصلة بالأسلوب الروائي.

الكاتب استوحى روايته من الأحداث الواقعية التي عاشها أثناء تغطيته الصحافية لمجازر تلك الحقبة الدامية في تاريخ الجزائر

الصحافية والناقدة الأدبية نيلي كابريان من مجلة «لي زان كوريبتبل» وإن كانت قد رحّبت بوجود هذه الرواية وأهميتها، واجهت، كما تقول، مشكلة في «طريقة كتابتها غير المثيرة للاهتمام»: «لقد شعرت بالملل قليلاً بعد فترة من القراءة بسبب الكتابة التي طغى عليها الأسلوب الأكاديمي الفضفاض، فالروايات التي تبدأ بعنوان لا تنجح دائماً، وهو كتاب يهتم فعلاً بمعاناة النساء اللائي ليس لهن صوت، لكن من منظور أدبي، يبقى الأسلوب أكاديمياً منمّقاً، وهو ما جعلني لا أتحمس للاستمرار في القراءة». وبالنسبة للوران شالومو الكاتب والناقد الأدبي المستقل فإن رواية «الحوريات» نصّ شجاع ومُحرج في الوقت نفسه، شجاع لأنه يتعرض لموضوع سياسي حسّاس قد يعرّض صاحبه لمضايقات كبيرة، ولكن وبالرغم من نواياه الحسنة، فإن الكتاب يفتقر للدقة. ويضيف الكاتب: «لم أتعرف على كمال داود في هذا العمل، هو يدّعي أنه شخص آخر وهو ما أصابني بالحساسية، حتى نكاد نراه وهو يحاول تمرير قباقيبه الكبيرة لتبدو كنعال حمراء اللون. الكاتب ركّز في نقده على «السرد المظلم بشكل متصنّع وإرادي لإنتاج إحساس بالعمق، إضافة للجُمل الملتوية المُثقلة بلا داعٍ».

وفي موضوع نقدي آخر مخصّص لرواية «الحوريات» أشاد أرنو فيفيانت الإعلامي والناقد الأدبي بصحيفة «ليبيراسيون» بها واصفاً الرواية بأنها «كتاب (عظيم جداً). على الرغم من طوله (400 صفحة) وكثرة الرموز، فإن الأسلوب الاستعاري يجعل القراءة مذهلة، وهو وإن اقترب من (الغونكور) عام 2014 حين تصور كتابة أخرى لرواية ألبير كامو (الغريب)، فهو، وبعد عشر سنوات، يعود بهذه الرواية الجديدة محاولاً هذه المرة إعادة كتابة (الطاعون) الرواية الأخرى لكامو. ليس فقط لأن الأحداث تدور في مدينة وهران في كلتا الروايتين، ولكن أيضاً بسبب التغيير الذي حدث في أسلوب الكتابة والذي كان قد ميّز رواية (الطاعون) أيضاً».

إليزابيث فيليب الكاتبة الصحافية من مجلة «نوفيل أبسورفاتور» وصفت الرواية بالأساسية والشجاعة لأنها «تتعرض للظلم الذي تواجهه بعض النساء في المجتمعات المحافظة، وهي أساسية من حيث إنها تعطي صوتاً لمن حرم منه». لكنها تصف الرواية في الوقت نفسه بـ«المملّة». وهي تقول بأن تحفُّظها لا يخصّ الأسلوب المنمّق الذي تميزت به الرواية، بل البناء السردي، فـ«الكاتب يدرج القصص الواحدة تلو الأخرى في نوع من التشويش الزمني، محاولاً تبرير ذلك بالسرد الشعري، لكن النتيجة لا تسهّل عملية القراءة التي تصبح أشبه بالتمرين الشاق».