فوز اشتراكي منقوص... وتحديات ائتلافية صعبة

وسط خلفية الأزمات الاقتصادية والانفصالية التي تهز إسبانيا

فوز اشتراكي منقوص... وتحديات ائتلافية صعبة
TT

فوز اشتراكي منقوص... وتحديات ائتلافية صعبة

فوز اشتراكي منقوص... وتحديات ائتلافية صعبة

توجه الإسبان، يوم الأحد الماضي، إلى مراكز الاقتراع للتصويت في انتخابات عامة، هي الرابعة خلال أقل من 4 سنوات. وكانت هذه محاولة يائسة لكسر الجمود الذي يخيّم على المشهد السياسي بسبب تعذّر تشكيل أغلبية برلمانية كافية تستند إليها حكومة مستقرّة باتت البلاد بأمسّ الحاجة إليها لضبط الوضع الاقتصادي المترنّح ومواجهة الأزمة الانفصالية في إقليم كاتالونيا.
لم تسفر نتائج هذه الانتخابات عن تغيير كبير في معادلة توزيع القوى التقليدية في المشهد السياسي الإسباني من شأنه أن يمهّد لغالبية برلمانية تُخرج البلاد من مأزق تشكيل الحكومة. غير أنها في المقابل، تمخّضت عن أكبر مفاجأة منذ عودة النظام الديمقراطي أواخر سبعينات القون الماضي، عندما حصل حزب «فوكس» اليميني المتطرف على 50 مقعداً في البرلمان. وبذا بات قوة سياسية مؤثرة في البلاد وتخرج إسبانيا بذلك من دائرة الدولة الأوروبية الكبرى الوحيدة التي لم يكن اليمين المتطرف ممثلاً في مؤسساتها البرلمانية.
لكن المفاجأة الكبرى جاءت يوم الثلاثاء الماضي، عندما وقف بيدرو سانتشيز، الأمين العام للحزب الاشتراكي والرئيس الحالي لحكومة تصريف الأعمال، إلى جانب الأمين العام لحزب «بوديموس» اليساري ليعلن أمام الصحافيين في مجلس النواب أن الطرفين توصّلا إلى اتفاق لتشكيل ائتلاف حكومي تقدمي، هو الأول في تاريخ إسبانيا منذ الحرب الأهلية في منتصف ثلاثينات القرن الماضي.
بعد وفاة الجنرال فرنشيسكو فرنكو في عام 1975 وسقوط نظامه الديكتاتوري، الذي أدّى إلى فرض ما يشبه الحجر الصحي على إسبانيا في محيطها الأوروبي، استعادت البلاد الحكم الديمقراطي. ثم انضمّت إلى المجموعة الأوروبية بعدما استوفت شرط الاعتراف بإسرائيل، لتصبح آخر دولة أوروبية تقيم علاقات دبلوماسية مع الدولة العبرية.
والواقع أنه منذ أواخر سبعينات القرن الماضي نعمت إسبانيا باستقرار سياسي كانت تُحسد عليه في محيطها الأوروبي، قام على ثنائية حزبية راسخة قوامها اليمين المحافظ ممثلاً بالحزب الشعبي واليسار المعتدل ممثلاً بالحزب الاشتراكي.
الحزبان تناوبا بانتظام على الحكم حتى أواخر العقد الأول من القرن الحالي. إلا أنه، بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008، التي دفعت الاقتصاد الإسباني إلى شفا الانهيار وأدت التدابير القاسية لاحتوائها إلى تداعيات اجتماعية واسعة، طرأ تحوّل على المشهد السياسي الإسباني. إذ ظهرت حركة شعبويّة منضوية في حزب «بوديموس» الذي ينافس الحزب الاشتراكي على أصوات المعسكر اليساري والتقدمي، قابلها ظهور حركة يمينية معتدلة قوامها حزب «مواطنون» تنافس الحزب الشعبي على أصوات المحافظين والوسط.
ومن ثم، أدت هذه الحال إلى التشرذم في القوى البرلمانية، وإلى دخول إسبانيا مرحلة من الاضطراب السياسي، جعلت من تشكيل الحكومات سلسلة من المخاضات المعقّدة التي أعاقت عملية النهوض الاقتصادي. كذلك أدت إلى ارتفاع غير مسبوق في منسوب التوتر بين القوى والأحزاب السياسية، كان من أخطر تداعياته اتساع هامش الصعود أمام الحركة الانفصالية في كاتالونيا (قطالونية) التي وضعت إسبانيا أمام أخطر أزمة في تاريخها الحديث، لتصبح حجر الرحى الذي تدور حوله السياسة الإسبانية منذ محاولة إعلان الاستقلال في خريف عام 2017.

سقوط الحزب الشعبي
أول التداعيات الكبرى للأزمة الانفصالية في إقليم كاتالونيا كان سقوط حكومة الحزب الشعبي الأخيرة التي كان يرأسها ماريانو راخوي ووصول الاشتراكي بيدرو سانتشيز إلى الحكم. إلا أن سانتشيز حكم مستنداً إلى أقلية برلمانية تهدد بسقوطه في كل لحظة، ومتعرّضاً لابتزاز مستمر من الأحزاب الانفصالية التي كانت تمسك بمفتاح الأغلبية في البرلمان.
رغم هذه الصعوبات، تمكّن سانتشيز من تنفيذ قسم كبير من برنامجه الحكومي، استعاد معه كثيراً من الخدمات الاجتماعية التي كانت الحكومات اليمينية قد ألغتها في سياق احتواء الأزمة الاقتصادية، ما أدى إلى تعزيز موقعه في المعسكر التقدمي، الذي كان يزداد الاستياء في أوساطه، ويجنح لتأييد حزب «بوديموس» الذي يسعى منذ تأسيسه إلى قيادة القوى اليسارية.
وبعد انسداد الأفق البرلماني أمام سانتشيز، عندما تعذّر عليه إقرار قانون الموازنة العامة في فبراير (شباط) من العام الماضي بسبب رفض القوى الانفصالية الكاتالونية دعمه لرفضه التجاوب مع مطالبها لتنظيم استفتاء حول تقرير المصير، أعلن حل البرلمان ودعا لإجراء انتخابات أواخر أبريل (نيسان) الماضي. تلك الانتخابات أسفرت عن فوزه وتعزيز موقعه في البرلمان، ولكن بعيداً عن الأغلبية التي تتيح له الحكم من غير تحالفات مع القوى الأخرى.
وبعد أشهر من المراوحة والمفاوضات المعقّدة للاشتراكيين مع حليفهم الطبيعي حزب «بوديموس» وصلت الأمور إلى إعلان القطيعة بينهما. وبعد فشل سانتشيز في نيل الثقة في البرلمان لتشكيل حكومة منفرداً اضطر الزعيم الاشتراكي إلى الدعوة لإجراء انتخابات جديدة أمل في أن تمكّنه من زيادة رصيده البرلماني بما يتيح له فرض شروط أفضل لتأليف الحكومة، أو على الأقل لتحييد معارضيه، في اليمين واليسار، لتشكيل حكومة أقليّة.
من جهته، كان حزب «بوديموس» يسعى إلى وقف التراجع في شعبيته بعد الانتكاسة التي أصيب بها في الانتخابات الأخيرة والانشقاق الذي حصل في صفوفه. أما الحزب الشعبي اليميني فكان يحاول استعادة موقعه في الثنائية الاشتراكية - الشعبية التي تناوبت على الحكم في إسبانيا منذ 4 عقود، بعد التراجع الكبير الذي أصابه في انتخابات العام الماضي.

صعود المتطرفين
لكن مع اقتراب الحملة الانتخابية من مرحلتها الأخيرة، بدأت استطلاعات الرأي تنذر بصعود قوي لحزب «فوكس» اليميني المتطرف الذي ظهر في المشهد السياسي الإسباني لأول مرة في الانتخابات الإقليمية الأندلسية مطلع العام الماضي. ثم حصل على 23 مقعداً في الانتخابات العامة الأخيرة التي خاض غمارها أيضاً للمرة الأولى.
وكانت الاستطلاعات السابقة تشير إلى تراجع شعبية «فوكس» في كل الدوائر، على غرار ما حصل في الانتخابات الأوروبية والمحلية. لكن بعد التطورات التي شهدتها الأزمة الانفصالية في كاتالونيا خلال الأسابيع الأخيرة التي سبقت موعد الانتخابات العامة، وما رافقها من تصعيد في مواقف القوى والأحزاب المطالبة بالاستقلال، عادت الاستطلاعات تُظهر صعوداً مطرداً لهذا الحزب. ورجّح بعضها وصوله إلى المرتبة الثالثة بعد الحزب الاشتراكي والحزب الشعبي، مع احتمال تقدّمه على هذا الأخير في بعض الدوائر.
ولا شك في أن من بين التطورات التي ساعدت في هذا الصعود المفاجئ والسريع لليمين المتطرف في الفترة الأخيرة، ما كشفته أجهزة الأمن الإسبانية أخيراً من تحضيرات لتمرّد واسع وأنشطة تخريبية كانت تعدّ لها جماعات انفصالية متطرفة في كاتالونيا. وكانت الشرطة قد ألقت القبض على 9 أفراد اتهموا بالتورط في تلك التحضيرات، وضبطت معهم متفجرات ومخططات لاقتحام مبنى البرلمان الإقليمي ثم احتلاله وإجبار النوّاب على إعلان استقلال الإقليم عن إسبانيا. كذلك أفادت مصادر أمنية بأن التحقيقات أظهرت أن المتهمين كانوا على اتصال وتنسيق مع التيّار الانفصالي الذي يدعم الرئيس الحالي للحكومة الإقليمية كيم تورّا وسلفه الفار من العدالة كارلي بوتشيمون. وكانت حكومة سانتشيز قد تعرّضت لانتقادات شديدة بسبب ما وصفته أوساط المعارضة بأنه «تنازل أمام التصعيد الانفصالي» و«الرضوخ لابتزاز الأحزاب الانفصالية»، طمعاً في الحصول على تأييدها في البرلمان لتشكيل الحكومة.

نكسة لليسار الحاكم
وحقاً، جاءت نتيجة الانتخابات الأخيرة، يوم الأحد الماضي، على عكس ما كان بيدرو سانتشيز يخطط له استناداً إلى استطلاعات الرأي التي كانت تتوقع زيادة رصيده ومزيداً من الانهيار للحزب الشعبي. فمع أن الحزب الاشتراكي جدّد فوزه بالمركز الأول فإنه خسر 3 مقاعد، وفي المقابل، استعاد الحزب الشعبي 23 من المقاعد التي كان خسرها في الانتخابات السابقة، وتراجع حزب «بوديموس» اليساري، وانهار حزب «مواطنون» - الذي أعلن مؤسسه وزعيمه ألبرت ريفيرا استقالته من منصبه وانسحابه نهائياً من المعترك السياسي. أما الفائز الفعلي الوحيد في هذه الانتخابات فكان حزب «فوكس» اليميني المتطرف، الذي رفع رصيده من مقاعد البرلمان من 24 إلى 52 نائباً، ليغدو القوة السياسية الثالثة في إسبانيا بعد أقل من عام على ظهوره في المشهد السياسي.
التحليلات السياسية الأولى لنتائج هذه الانتخابات عدّت أنها كانت خسارة للمعسكر اليساري على كل الجبهات. فالقوى اليسارية كان بوسعها أن تتحاشى الدعوة لإجرائها لو تمكّنت من التوصّل إلى اتفاق لتشكيل حكومة ائتلافية، أو بدعم من «بوديموس»، على أساس برنامج مشترك من غير الدخول في الحكومة، بعد انتخابات أبريل الماضي. هذا، مع العلم أن الاشتراكيين خسروا 3 مقاعد وخسر حزب «بوديموس» 7 مقاعد. يضاف إلى ذلك أن الحزب الشعبي استعاد موقعه في الثنائية التي تتناوب على الحكم منذ عقود بعد اقترابه من الانهيار في الانتخابات السابقة، فضلاً عن الهزيمة القاسية التي مني بها حزب «مواطنون» المعتدل الذي يرى فيه كثيرون الحليف الأمثل للاشتراكيين من أجل تشكيل حكومة مستقرّة تحظى بدعم الدوائر الاقتصادية وترحيب العواصم الأوروبية.
ولكن لا خلاف على أن الخسارة الكبرى التي أصابت المعسكر اليساري في هذه الانتخابات كانت خروج اليمين المتطرف من «قمقم» السياسة الإسبانية بعد أكثر من 4 عقود على رحيل الجنرال فرنكو، الذي كان اليسار يحتفل منذ أسابيع بطي صفحته نهائياً بعد نقل رفاته من المزار التاريخي الذي كان أمر بتشييده إلى مقبرة العائلة.
ويرى مراقبون أيضاً أن هذه الانتخابات كانت أيضاً انتكاسة للنظام الإسباني الذي يسعى لاستعادة استقراره المفقود منذ سنوات، وها هو اليوم يدخل من جديد في نفق مزيد من التشرذم للقوى البرلمانية، في الوقت الذي يرفع فيه الانفصاليون من رصيدهم في كاتالونيا، ويصعد اليمين المتطرف إلى مرتبة القوة السياسية الثالثة بعدما كانت إسبانيا - حتى منتصف هذا العام - الدولة الأوروبية الكبرى الوحيدة التي لم يكن ممثلاً في برلمانها.

تفاهم اضطراري
في أي حال، وفي حين كانت إسبانيا تستعد لمسلسل آخر من المفاوضات الماراثونية العقيمة لتشكيل الحكومة الجديدة، وسط توقعات بالعودة مرة أخرى إلى صناديق الاقتراع، حصلت مفاجأة أخرى لم تكن واردة في حسابات أي من الأطراف - بما فيها الطرفان اللذان كانا وراءها - وغطّت على مفاجأة النتيجة التي حصل عليها اليمين المتطرف. إذ ظهر الأمين العام للحزب الاشتراكي بيدرو سانتشيز إلى جانب زعيم حزب «بوديموس» بابلو ايغليزياس يوم الثلاثاء الماضي، أمام الصحافيين في مبنى البرلمان ليشرحا تفاصيل الاتفاق الذي توصلا إليه، بعد 48 ساعة من صدور نتائج الانتخابات، لتشكيل ائتلاف حكومي تقدمي يساري، هو الأول في إسبانيا منذ 80 سنة.
كان أبرز ما في هذا الاتفاق، الذي نضج بسرعة مذهلة على نار مفاجأة صعود اليمين المتطرف، هو أن ما كان متعذراً في الربيع الماضي أصبح الآن ممكناً، بما في ذلك تولّي ايغليزياس منصب نائب رئيس الوزراء الذي كان سانتشيز يرفض مجرد مناقشته في المفاوضات السابقة.
لكن رغم الارتياح الذي عمّ الأوساط التقدمية بعد الإعلان عن الاتفاق لتشكيل حكومة ائتلافية بين الحزب الاشتراكي وحزب «بوديموس»، ما زالت دون تفعيل هذا الاتفاق وتشكيل حكومة تنال ثقة الأغلبية في البرلمان عقبات كثيرة قد لا يكون من السهل تذليلها. فلقد خسر طرفا الائتلاف ما مجموعه 10 مقاعد في البرلمان، ما يستدعي مزيداً من الدعم لتأمين الأغلبية اللازمة. والدعم في الوقت الراهن لا يمكن أن يأتي إلا من الأحزاب الصغيرة مثل الانفصاليين الكاتالونيين أو القوميين الباسك، أو امتناع هذه الأحزاب عن التصويت في جلسة الثقة، شريطة أن يمتنع أيضاً حزب «مواطنون» الذي كان الخاسر الأكبر في هذه الانتخابات.
ويحاول سانتشيز، منذ إعلانه عن الاتفاق مع «بوديموس»، إقناع حزب اليسار الجمهوري، الذي يمثّل التيّار الانفصالي الكاتالوني - الذي اختار تحاشي الصدام المباشر مع مدريد والإحجام عن إعلان الاستقلال من طرف واحد - بالامتناع عن التصويت في جلسة الثقة، الأمر الذي من دونه يستحيل على الزعيم الاشتراكي تشكيل حكومته.
ويشدّد سانتشيز على أن الحكومة الائتلافية التقدمية التي يسعى إلى تشكيلها، هي الوحيدة القادرة على فتح قنوات الحوار مع الانفصاليين. لكن اليسار الجمهوري الكاتالوني ما زال يصرّ، حتى الآن، على التصويت ضد الحكومة، ويطالب لتعديل موقفه بمائدة حوار بين الأحزاب خارج إطار البرلمان لمناقشة الأزمة في إقليم كاتالونيا.

كيف يرى الحزب الشعبي المرحلة المقبلة؟
> الحزب الشعبي، القوة الرئيسية في معسكر اليمين المعتدل في إسبانيا، كان قد أبقى الباب مفتوحاً أمام التوصل إلى اتفاق مع الحزب الاشتراكي لتشكيل حكومة وحدة وطنية على قاعدة ثنائية أو بمشاركة كل الأحزاب باستثناء الانفصالية منها.
وتعدّ أوساط الحزب أن الاتفاق بين الاشتراكيين وحزب «بوديموس» يرفع الضغط عنهم (أي الشعبيين) ويتيح لهم الانصراف لممارسة معارضة مسؤولة بوجه حكومة الائتلاف التقدمي في حال تشكيلها، وذلك انطلاقاً من كون حزبهم الحزب الشعبي هو البديل الوحيد لمثل هذه الحكومة في ضوء نتائج الانتخابات الأخيرة.
كذلك ترى أوساط الحزب الشعبي، الذي استعاد قدراً ملحوظاً من شعبيته وعزّز موقعه في المعارضة، أن حكومة ائتلاف تقدمي تهديه فرصة ذهبية لاستعادة الأغلبية في البرلمان عند أول استحقاق انتخابي، لا يستبعد أن يكون قبل نهاية الولاية التشريعية الراهنة، وهذا في ظل الأزمة الانفصالية المرشّحة لمزيد من التصعيد والتفاقم في كاتالونيا، وما تحمله من ترسبات الخلافات السابقة بين طرفيها.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».