أجمل ما خلّفته حركة الاحتجاج في كلٍّ من لبنان والعراق، أنها أخرجت الناس من «الأقفاص» المذهبية والطائفية والفئوية...! ففي لحظة تاريخية وجد الناس أنفسهم يشبه بعضهم بعضاً: في آلامهم وجوعهم وحزنهم وآمالهم.
كانت الدعاية السوداء تخوفهم بأن «الآخر» يريد أن يفترسهم ويأكلهم، ولكنهم وجدوا أن هذا الآخر مثلهم جائع يبحث معهم عن شيء يأكله، ولديه مشاعر وعواطف وهموم وطموح ولا يختلف عنهم في شيء.
هي لحظة عابرة ربما لن تطول! لكنها قادرة على أن تؤسس وعياً جديداً يتجاوز تلك الخنادق والسدود والحواجز التي تنصبها السياسة والأحزاب لكي تسوّر أتباعها وتعزلهم، أو تضع الآخرين في «التابوه» وتمنع وصولهم. أهمية تلك الومضة في العراق أولاً وفي لبنان تالياً، (حتى لو لم تستمر وتلاشت بعد ذلك)، أنها تثبت أن الناس قادرون على كسر قيودهم التي وضعها أهل السياسة. كانت التكوينات الحزبية والفئوية وسيلة لتنظيم المجتمعات، ولكنها بفعل التخلف والهيمنة أصبحت سياسة (فصل) وعزل وقطيعة، ماذا يحدث حين تصبح تلك الأحزاب أقوى من الدولة...؟، ببساطة: تنهار الدولة، وتصبح الديمقراطية شكلاً مشلولاً ومشوهاً، وينتج عنها ما نراه اليوم.
كيف تقطعت أوصال المجتمعات في بلد واحد، بفعل الفروقات الدينية والفكرية والسياسية...؟ كيف سمح الشباب للأحزاب أن ترسم هوياتهم وتحفر حولهم الخنادق...؟ وكيف سمح الناس عبر الأزمان لرجال الدين والسياسة بأن يصوغوا لهم قوالب تمنعهم من التواصل مع محيطهم...؟ ففي هذا الجو الذي تفصل بين الأحياء وبين الجماعات وبين الفئات الحواجز المسلحة، يصبح الناس رهينة الدعاية والتحريض والتعبئة وكل ما يجعلهم في حالة شحن وتوتر تجاه الآخرين ويدفعهم نحو التعصب...
ما يُحزن، أنه في عصر الفضاء المفتوح الذي أصبح فيه لكل إنسان هوية رقمية تربطه بأصدقاء إلكترونيين يشاركهم النقاش والحوار والتواصل وربما كوّن معهم جماعات ذات اهتمام مشترك وتوجهات متشابهة، أنهم خارج هذا الفضاء لا يرون إلا أنفسهم ومن هو لصيق بقبائلهم وطوائفهم وميولهم. لا يرون شركاءهم في الوطن والإنسانية ولا يتواصلون فيما بينهم أو يتحاورون أو يُخرجون اختلافاتهم للنقاش العام... ما زال كل شاب يعيش ويكبر ويشيخ وهو لا يعرف صديقاً خارج جماعته الفكرية والطائفية، وربما كان ذلك الشاب زميله في مقعد الدراسة أو جاره في الحي المجاور.
تاريخ العرب الذي كان مسكوناً بالكثير من الهواجس تجاه المختلف أنتج تجارب عريقة في التواصل وقبول التعدد خصوصاً في تاريخ الأدب العربي، وتاريخ الفقه والفلسفة والحديث، فقد كانت محافلهم تضجّ بالمتنوعين من مختلف المشارب، حتى أساتذة الفقه وأئمة الحديث كانوا يتلقون علومهم من مدارس فقهية وعقائدية مختلفة، وهل ثمة نموذج أرقى من علاقة زعيم القرشيين والطالبيين الشريف الرضي مع أبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي، وهي علاقة تجاوزت حدود الشعر والأدب إلى علاقة إنسانية عميقة، توّجها الشريف الرضي في قصيدته التي رثى فيها صاحبه قائلاً:
أعلمتَ مَن حملوا على الأعواد؟
أرأيت كيف خبا ضياء النادي؟
جبلٌ هوى لو خرَّ في البر اغتدى
من وقعه متتابع الأزباد
هذا أبو إسحاق يغلق رهنه
هل ذائد أو مانع أو فادي
اكسروا أقفاصكم!
اكسروا أقفاصكم!
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة