أزمة الكتاب العربي الحديث

محمد علي باشا
محمد علي باشا
TT

أزمة الكتاب العربي الحديث

محمد علي باشا
محمد علي باشا

عرف الأوروبيون المطبعة البدائية والورق من خلال التفاعل التجاري مع الحضارة الصينية العريقة، وهو ما دفع المبتكر الألماني جوهان جوتنبرغ لإجراء تجاربه في سرية تامة، في منتصف القرن السابع عشر، لاختراع أول مطبعة بتمويل من شركات مختلفة، فسعى لنقش الحروف على ألواح الخشب وضغطها على الورق، ليصنع أول كتاب مطبوع بالحروف اللاتينية. وقد أطلق الأوروبيون على هذا الاختراع اسم «فن الرسم الصناعي»، فكانت المطبعة ثورة علمية أوروبية مذهلة غيرت شكل الحياة بصفة عامة، والتعليم والثقافة بصفة خاصة. ولا خلاف على أن المطبعة كانت من الأسباب الرئيسية للنهضة الأوروبية؛ لأنها خلقت سوقاً جديدة للقراءة، وخلقت مجالات جديدة لم تكن معروفة، مثل مناهج التعليم، وكتب الأطفال؛ بل والكتب الإباحية أيضاً. ومع التطور والانتشار أصبح الكتاب في متناول إمكانات أي أسرة متوسطة الحال؛ لا سيما مع انخفاض تكلفة صناعة الورق.
أما في العالم العربي فكان لبنان أول من عرف المطبعة البدائية في القرن السابع عشر، ثم انتقلت هذه التجربة الفاشلة إلى سوريا، ثم الموصل عام 1830، وأخيراً دخلت الحجاز على أيدي الوالي العثماني في 1882، ومن قبلها في صنعاء. وقد عرف المصريون المطبعة مع قدوم الحملة الفرنسية عام 1798، ثم قرر حاكم مصر المستنير محمد علي إنشاء أول مطبعة حديثة تحت اسم «المطبعة الأميرية» في 1819، والتي أصدرت أول كتبها عام 1822، فارتبطت الطباعة بمشروع الدولة الحديثة. وقد أعيد إحياء المطبعة بعد سنوات من الإهمال على مراحل خاصة في عهد الخديوي إسماعيل، لتكون مركز حركة التنوير الفكري أساسها مصر، وجناحاها الشام والعراق. ولعل سر نجاح تجربة المطبعة في مصر كان ارتباطها المباشر بسياسة الدولة لتبني حركة الإصلاح والتنوير.
وهكذا تأخر العالم العربي في مجال الكتاب والطباعة والنشر عن الركب الحضاري الدولي بنحو أربعة قرون. ويمكن إرجاع السبب الرئيسي وراء ذلك للحكم العثماني بكل تخلفه الفكري والثقافي، حتى أن الطباعة التي عرفت طريقها للآستانة ذاتها في القرن السادس عشر ظلت مقيدة تحت وطأة التخوف السياسي لنشرها في العالم العربي، وتمترس رجال الدين ضدها في البداية، خوفاً من تحريف القرآن الكريم، وانتشار أفكار خارجة عن رؤيتهم.
ولكن الولادة العثرة للطباعة العربية سرعان ما تبدلت، بعد إطلاق المطابع وانتشارها في العالم العربي بحلول القرن العشرين، فأصبح الكتاب هو محرك الفكر، ووسيلة انتقاله الأساسية على مستوى واسع لغياب المنافسة الأخرى. وهكذا تغلب الكتاب والمقال العربي نسبياً على أزمة تكلفة الكتاب، ولكنه ظل حبيساً لنوعيات مختلفة من الرقابة، التي لم تؤثر على انتشاره، ولكن أثرت على نوعيته.
ولكن مع دخولنا عصر ثورة الاتصالات، تنوعت التحديات التي تواجه الكتاب العربي، والتي لا أعتقد أننا استطعنا كأفراد أو حكومات أو مؤسسات ثقافية وفكرية أن نتأقلم معها بالقدر الكافي. فالكتاب العربي المطبوع يمر اليوم بأزمة انكماش قاتلة، سببها انخفاض الطلب عليه للظروف لضعف القوة الشرائية والمنافسة الشديدة من قبل التلفاز، وسرعة وتيرة انتقال المعلومة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ناهيك عن أزمة حقيقية في حقوق الملكية الفكرية، لانتشار الكتب المُصورة على مواقع الإنترنت بلا رقيب، وفي حالات أعرفها تم استبدال آخرين بأسماء الكُتاب على سبيل القرصنة، وهو ما أثر مباشرة على دور النشر في العالم العربي بشكل مخيف، وبات يهدد صناعة الكتاب التقليدية، كما هدد الصحافة المطبوعة من قبله.
وعلى الرغم مما تمثله هذه الثورة التكنولوجية من تحديات، فإنها تقدم أيضاً فرصاً غير مستغلة حتى الآن من قبل المؤسسات الثقافية، فاليوم الفرصة سانحة لتخريج أجيال جديدة من الكتاب والمفكرين بأقل التكلفة، وتوسيع الفرص أمامهم، فكم من عظماء المفكرين والكتاب عانوا لنشر كتبهم أو رواياتهم الأولى لهذا السبب!
ألم يئن الأوان لابتكار وسائل حديثة تتبناها الدولة مباشرة لدعم الكتاب بأقل تكلفة؟ لماذا لا تقوم وزارات الثقافة والإعلام بإنشاء مواقع رسمية على الإنترنت تنشر الأعمال المنتقاة للكُتاب؛ خصوصاً الجدد منهم، وفتح المجالات أمام تداول أعمالهم للعامة؟ لماذا لا تقوم مؤسسات الطباعة اليوم باتباع وسائل مبتكرة للتواصل تكون مجانية، ثم يتم الاشتراك فيها تدريجياً بعد ترسيخها تماماً، مثل مواقع الأفلام والمسلسلات المرئية؟ لماذا لا نزال حتى اليوم متأخرين نسبياً في مجال المكتبات الإلكترونية؛ خصوصاً أن هذه المكتبات لن تتعرض في مجملها لأزمة ملكية فكرية، بسبب قدم الكتب وسقوط ملكيتها الفكرية؟
هذه مجرد تساؤلات وأفكار جاءت خلال متابعة أحد الأنشطة المتعلقة بصناعة الكتاب العربي، ولا أتصور أبداً أنها غائبة عن ذوي الرؤى منا، ولكن تقديري أنها تتهاوى أمام ما يمكن تسميته بالأصنام الإدارية التي عهدناها في بيروقراطياتنا، فهي قليلة التكلفة ولكنها عظيمة الأثر، بسيطة المنحى ولكنها تحتاج للابتكار.
حقيقة الأمر، أن الركن الأساسي لأزمة الكتاب عبر التاريخ كانت تكلفته المرتفعة، أما وقد تلاشت هذه الأزمة نسبياً فإننا أصبحنا نواجه أزمة انعدام التكلفة، وهي في حقيقة الأمر ما هي إلا أزمة ابتكار وخيال بسيط، وهنا يكون شر البلية ما يبكي.



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.