رقعة شطرنج الأزمة اليمنية... ومفاتيح الحلول

إجماع دولي وإقليمي على أن اتفاق الرياض أنعش فرص السلام الشامل

رقعة شطرنج الأزمة اليمنية... ومفاتيح الحلول
TT

رقعة شطرنج الأزمة اليمنية... ومفاتيح الحلول

رقعة شطرنج الأزمة اليمنية... ومفاتيح الحلول

كانت الساعة تشير إلى الخامسة مساءً بتوقيت السويد. فتح شاب يمني باب كوخ متجها إلى ظلام دامس، تكسره أضواء خافتة تلوح من مائة متر تقريبا خارج شرفات قصر «جوهانسبرغ» الملكي الذي استضاف المشاورات اليمنية بداية ديسمبر (كانون الأول) 2018. لم يطق الشاب الذي يعمل في مؤسسة إعلامية دولية صبرا، إذ لم يكمل حتى تدخين سيجارته التي أشعلها قبل دقيقة، وقبل أن يعود إلى الكوخ الذي استخدمه السويديون مقرا للمركز الإعلامي لمشاورات السويد، قال لزميله: دخن سريعا، نريد إكمال رقعة الشطرنج المعقدة هذه قبل أن يدهمنا الوقت. «الشرق الأوسط» استوقفت الشاب الذي لم يفضل نشر اسمه تطبيقا لقواعد مؤسسته الإعلامية التي تمنعه التصريح، وسألته عن التشبيه فأجاب: اليمن رقعة شطرنج أحجارها ليست بالضرورة أن تكون دوما في الصف ذاته، وتحتمل أيضا أكثر من مجرد فريقين، والفريق الواحد ليس بالضرورة أن يكون الجنود فيه يرتدون اللون ذاته. إنها أعقد رقعة شطرنج موجودة في المنطقة. مضى الشاب، ومضى نحو عام على تلك المشاورات، والتصقت هذه العبارة التي قد تكون قريبة من المشهد. فما هي أوضاع رقعة شطرنج الأزمة اليمنية حاليا، بما فيها اتفاق «استوكهولم»، وما مفاتيح حلولها الممكنة؟

لم تشهد العاصمة السعودية الحدث التاريخي المتمثل بـ «اتفاق الرياض» بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي وحسب، بل كانت هناك عدة لقاءات من الممكن القول إنها حدثت للمرة الأولى. فلقاء الأمير محمد بن سلمان ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع السعودي كان الأول للمبعوث الأممي إلى اليمن مارتن غريفيث.
اجتماع آخر عقد الأربعاء لطرفي اتفاق الرياض مع الأمير خالد بن سلمان نائب وزير الدفاع السعودي. لقد كانت أول مرة يجتمع خلالها الطرفان (الحكومة والانتقالي) بشكل مباشر.
كما التقى الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي رئيس المجلس الانتقالي اللواء عيدروس الزبيدي لأول مرة منذ تأسيس المجلس في عام 2017.
مسؤول أممي وصف لقاء ولي العهد السعودي مع المبعوث الأممي إلى اليمن الذي عُقد في الرياض مساء أمس (الخميس)، بـ«الإيجابي للغاية»، وقال المسؤول الذي فضل حجب اسمه إن «هناك دعما سعوديا للعملية السياسية اليمنية، والتزاما عميقا... المملكة ترى فرصة لسلام حقيقي في اليمن وتسير صوب ذلك الاتجاه».
ولا يذهب حديث المسؤول الأممي بعيدا عن النص الرسمي الذي نشرته وكالة الأنباء السعودية (واس)، التي نقلت عن الأمير محمد بن سلمان تأكيده «حرص المملكة على كل ما يحقق مصلحة الشعب اليمني وأمن واستقرار اليمن، متمنياً أن يكون اتفاق الرياض فاتحة خير لتفاهمات أوسع بين أبناء الشعب اليمني للتوصل إلى حل سياسي شامل ينهي الأزمة اليمنية».
وسبق للمبعوث أن ثمن جهود ولي العهد السعودي خلال حواره مع «الشرق الأوسط» في 31 أكتوبر (تشرين الأول)، مؤكدا «الدور القيادي الذي اضطلع به ولي العهد السعودي» وعدّ ذلك «عنصرا محوريا في تيسير التوصل لحلول بشأن نقاط اختلاف أساسية بين الأطراف»، مستدلا بما حدث خلال محادثات جدة الأخيرة. وقال: «أسهم الأمير محمد في خلق فرص أمام الأطراف لبناء الثقة فيما بينها وإيجاد أرضية مشتركة. وأشعر بالامتنان تجاه هذا الدعم الذي لا يقدّر بثمن».

وقف الحرب
«رأينا وساطات سياسية كثيرة ورأينا كيف استطاعت وساطة المملكة العربية السعودية في حل مشكلة يمنية. ما نحتاجه هو وساطة حقيقية تلبي متطلبات الشعب ولا تستمر أزمته ودماؤه وحزنه»، حسب كلام حمزة الكمالي وكيل وزارة الشباب والرياضة اليمني لـ«الشرق الأوسط» الذي تابع: «كل اليمنيين لا يريدون أن تستمر الحرب، لكن إيران تريد استمرار هذا الدمار؛ لأنها تعتبره نوعا من الاستثمار السياسي ويدفع ثمنه دماء اليمنيين... نؤكد أن الشعب اليمني يرفض إيران، وهو جزء من جغرافيا مجلس التعاون الخليجي».
ويصف الكمالي اتفاق الرياض بالقول: «هذا الاتفاق خلاصة جهد دبلوماسي سعودي كبير قادته المملكة مع جميع الأطراف اليمنية». الجهد السعودي أثمر هذا الاتفاق الذي يؤكد توحيد المكونات اليمنية ضد الميليشيات الحوثية المدعومة من إيران. «على جميع المكونات السياسية اليمنية دعم الاتفاق».
يضيف الوكيل: «مثلما أن المجلس الانتقالي الجنوبي لا يمثل كل جنوب اليمن فإن الحوثي لا يمثل كل شمال اليمن. اليمن بلد متنوع وواسع ويجب أن تكون قراراته سيادية تحتوي على جميع مكوناته وأفراده، والدولة الاتحادية هي حل اليمن، وأي حلول أخرى مؤقتة وتأجيل لمعارك ستفرز هذه الحلول المؤقتة»، مشددا على أن المرجعيات الثلاث (المبادرة الخليجية، مخرجات الحوار الوطني، القرار الأممي 2216) هي السبيل ونقطة انطلاق أي حل. ولا يختلف مع الكمالي أي طرف دولي إلا الحوثيون، الذين يقولون على مضض وبتلميحات طفيفة إنهم يقبلون بها قبل أي حوار، وحدث ذلك في الكويت والسويد.

المؤشرات... والحلول
يعتقد دبلوماسي غربي أن الأزمة اليمنية يمكن تقسيمها في الوقت الراهن إلى ثلاثة محاور؛ الأول: اتفاق استوكهولم ومفاوضات الحل الشامل بين الحكومة اليمنية والحوثيين. الثاني: الهدنة التي عرضها الحوثيون بعدم استهداف السعودية، والإشارات الإيجابية من المسؤولين السعوديين تجاهها والتي شددت على ضرورة أن الأفعال هي ما يعتد به وليس الأقوال. الثالث: اتفاق الرياض، وهو بحسب الدبلوماسي - الذي طلب عدم الإشارة إلى اسمه - الأقرب إلى التطبيق بعد توقيعه في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 في العاصمة السعودية.
المبعوث الأممي لديه 5 مؤشرات يعتقد أنها بوادر جيدة، «تدعو للشعور بالأمل وتعكس حسن النيات بين الأطراف المعنية، وتحقق تغييرات ملموسة وتقدماً حقيقياً على الأرض». وتتمثل المؤشرات الخمسة في «تراجع كبير خلال الفترة الأخيرة في أعمال العنف بالشمال، وإطلاق سراح عدد من السجناء والمحتجزين، والسماح للسفن المحملة بالنفط بالدخول إلى الحديدة مع السماح لوكالات الإغاثة بتقديم مساعدات للأشخاص المحتاجين لها في الدريهمي، إضافة إلى اتفاق الرياض».
يعتقد الدكتور تركي القبلان رئيس مركز ديمومة للدراسات الاستراتيجية في الرياض أن «اتفاق الرياض أعطى رسالة للمجتمع الدولي، والداخل اليمني والمكونات السياسية، بالاصطفاف حول الشرعية وأن الحلول الدبلوماسية ممكنة، وتوحيد الجهود تجاه الحل النهائي ممكن».
ويقول القبلان: «الحوثيون أساسا لا يوجد لديهم أفق سياسي لحل شامل، لأنهم لا يلجأون إلى التفاهم إلا من منظورين. الأول: إذا كان لديهم إخفاق عسكري في الميدان وشعروا بالضغط يلجأون إلى التلويح بالقبول بأي تفاوض. المنظور الثاني: لأن الحوثي مرتبط إقليميا بإيران، فإن كان النظام الإيراني في مأزق سياسي يعلن الحوثي أنه يقبل التفاوض والحل وما إلى ذلك... خارج هذين المنظورين لا يمكن أن يقبل الحوثيون بأي حل؛ لأنهم يرون أن أي حوار سيصيبهم في مقتل، وهي أيضا فكرة آيديولوجية مترسخة لدى الجماعة التي تعتقد أن السلم والسلام محاولة لسحب السلطة منهم أو أنه خدعة سياسية بالنسبة لهم».
ويرى القبلان أن «الضغط العسكري في الداخل اليمني خصوصا جبهات صعدة، وما تمر به إيران من عقوبات غير مسبوقة، بالإضافة إلى تحييد الحديدة، والهبّة التي تواءمت في لبنان والعراق مع روح عاصفة الحزم التي تهدف إلى وقف التغلغل الإيراني إلى العالم العربي، سوف تسهم في إنهاء التغلغل وبالتالي إنهاء الحرب. ويبدو أن القوة الناعمة التي استخدمتها السعودية لإيضاح الضرر الإيراني على المنطقة كان لها تأثيرها في ذلك».

هدنة حوثية؟
في أي حال تذهب آراء دبلوماسيين غربيين من بينهم السفير البريطاني لدى اليمن مايكل آرون، إلى أن إعلان الحوثيين في 20 سبتمبر (أيلول) عن وقف الهجمات ضد السعودية مهم. السفير قال في حوار مع «الشرق الأوسط» الأسبوع الماضي: «كان هناك بعض الهجمات بالفعل لكن ليس بالوتيرة السابقة. كما أعتقد أن الرد السعودي بالإعلان أنّهم لن يستهدفوا بعض المناطق (يشير إلى) احتمال وجود فرصة نقاش حول (تهدئة)، مما يعني تخفيض الهجمات من الجانبين، مما يقود إلى إنهاء الحرب»، مضيفاً أن «جانباً مهماً في إنهاء الحرب هو (إنهاء) الصراع بين السعودية والحوثيين».
وفي أول تعقيب سعودي على الهدنة، قال عادل الجبير وزير الدولة للشؤون الخارجية عضو مجلس الوزراء السعودي، في إطار رده على سؤال وجه له في مؤتمر صحافي: «نحكم على الأطراف الأخرى بناء على أفعالها وأعمالها، وليس أقوالها؛ ولذا فإننا سنرى إن كانوا سيطبقون فعلا (المبادرة) أم لا».
ويبقى الرهان الأممي على هذه المبادرة تحديدا؛ لأنها سوف تكون بحسب الدبلوماسيين الغربيين، اختبارا عصيبا على الحوثيين، ولأنه سيدعم الدعوات التي تقرب وجهات النظر بين الأطراف.
أما الدبلوماسي اليمني مصطفى النعمان وكيل الخارجية اليمنية الأسبق فيرى أن «المناداة بوقف الحرب ليس منطلقا من الاصطفاف مع طرف ضد آخر، ولكن لأن استمرارها لم يعد مجدياً لتحقيق الأهداف التي كانت متوخاة منها، أقول هذا لأن كلفتها البشرية والمادية فاقت كل ما كان متوقعا كما أن المنطقة صارت بأكملها بحاجة لحشد إمكاناتها في مسار التنمية والاستقرار، وهذان الهدفان لا يمكن التوصل إليهما عبر القوة فقط. ويتابع النعمان: «نحن أمام فرصة جديدة لإنهاء هذه الحرب خصوصا بعد الرد الإيجابي الذي عبرت عنه المملكة بلسان الأمير خالد بن سلمان ردا على المبادرة التي أطلقت من صنعاء لوقف العمليات العسكرية كخطوة أولى في اتجاه وقف الحرب»، مضيفا: «انعدام الثقة ما زال هو المسيطر على المناخ ولكني على يقين أن ذلك ممكن تجاوزه بضمانات متبادلة من كل الأطراف تبعد شبح التدخلات الإيرانية وغيرها».
وبسؤاله عن الدوافع التي تفضي إلى أن يركن الحوثيون إلى السلام، أجاب الدبلوماسي اليمني: «يعرف الجميع أن الذكي من اعتبر بتجارب التاريخ وتفهمها... للأسف فإن العمل السياسي ليس راسخا عند جماعة أنصار الله وهم يتعاملون مع القضايا المصيرية من منظور ضيق خاص بهم وينطلق من فهمهم للوطن والمواطنة»، مضيفا: «أتمنى أن يكونوا قد استوعبوا حجم الكارثة التي أوقعوا فيها البلد وأنفسهم فيها باللجوء إلى السلاح وسيلة لفرض قناعاتهم... حتى وإن تصوروا أن عدم هزيمتهم عسكريا هو نصر لهم إلا أنهم بذلك لا يدركون هول فواجع الحرب وآثارها... أنا أدعو لوقف الحرب منذ يومها الأول وأتصور أن هذه هي من الفرص التي لا أريد لها أن تمر كالسحاب».


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.