معادلة «نمط الحياة» ما بين الثقافي والترفيهي

ظاهرة الترفيه التي تتقدم واجهة المشهد ليست مجرد حالة استعراضية تجارية

جانب من معرض الرياض في دورة سابقة
جانب من معرض الرياض في دورة سابقة
TT

معادلة «نمط الحياة» ما بين الثقافي والترفيهي

جانب من معرض الرياض في دورة سابقة
جانب من معرض الرياض في دورة سابقة

تحتل الأشكال الجديدة من الاستهلاك مكاناً مركزياً في الثقافة ما بعد الحداثية، بتصور زيجمونت باومان. وهو ما يؤشر إلى أن الثقافة نسق على درجة من التماس والتداخل مع مجمل الأنساق الحياتية. بمعنى أنها نشاط لا يتعالى على الزمان والمكان، بل يتأثر بالقدر الذي يؤثر به في الحركة الاجتماعية التاريخية. وكل فضاء تتخلى عنه القوى الثقافية تتقدم فيه قوى ومفاعيل من دون أي احترازات ولا استئذان، لدرجة أن أي قوة أو جماعة تجد نفسها أمام ذلك الفراغ تتلبس لبوس الثقافي لتؤدي مهامه وتستحوذ على مكتسباته، كما حدث سابقاً عند استئثار الحالة الدينية بالمشهد الحياتي، واليوم حيث الهبّة الترفيهية الجارفة، الآخذة في سد كل فراغات الفضاء الاجتماعي، بمقتضى حالة الارتداد على مرحلة الانغلاق، وبرعاية مؤسساتية تجد في الترفيه بكل أبعاده الاستعراضية والاستهلاكية والثقافية وصفة علاجية سريعة الأثر، مقارنة بالثقافة التي ما زالت في طور تشخيص سر التحول في الحركة الاجتماعية التاريخية، واستجماع قواها المبعثرة.
حتى هذه اللحظة تبدو المؤسسة الثقافية في السعودية غارقة في تخليق فكرة الثقافة المثقفة. وهذا هو سر التأني الأقرب إلى البطء، لدرجة تبدو فيها غير قادرة على تغيير أدواتها وبناء استراتيجية تتواءم مع مستوجبات رؤية 2030، وذلك بسبب تقليدية الفئة المشتغلة بالثقافة فقط، وغياب المنظور التنموي من الوجهة الثقافية، والرهان على مبادرات وبرامج المؤسسة التي تُطبخ على نارٍ هادئة في مختبرات لا يخرج منها إلا العناوين. هذا بالإضافة إلى انعدام وجود خبراء التنمية والتخطيط الثقافي، وعدم استيعاب العنوان الأبرز للمؤسسة الثقافية المتمثل في التعامل مع الثقافة كنمط حياة. وهو عنوان جماهيري النزعة لا يتناسب مع وجاهة ونخبوية جيل المنصات والمنابر. أما المؤسسة الثقافية ذاتها فلا تبدو مستعجلة لإثبات حضورها، لدرجة أنها تركت مسرحييها يتحسرون على مواقعهم التي بنوها عبر مكابدات وتضحيات مقابل المسرحيات الترفيهية التجارية، كما جعلت من يوصفون بصُناع المحتوى يحتلون مواقع التأثير والتوجيه في ظل تواري رموز التجربة الإبداعية.
إن ظاهرة الترفيه المتمادية التي تتقدم واجهة المشهد ليست مجرد حالة استعراضية تجارية بقدر ما هي حالة ثقافية تكاد تتحكم في كل مفاصل المشهد الحياتي. فهي التي تشكل وجدان جيل جديد من خلال الأغاني والمسرحيات والألعاب والعروض الفنية الباهرة. وهي الجسر الأمتن والأسرع والأوسع لنقل ثقافات الآخر ومزاياه. وهي التي تعولم المزاج العام وتعيد برمجة الشباب بجرعات ثقافية عالية المفاعيل والتأثير. وبالتالي فهي تمسح الخط الرهيف ما بين الثقافي والترفيهي، لتستحوذ على كل ما هو ثقافي. إذ تبدو بموجب أداءاتها وحضوراتها المهيمنة هي الأقدر على التعامل مع المزاج المحافظ، وما ترسب في معجم العادات والتقاليد. بل على تعديل مواضعات الثقافي والفني في مجتمع عانى كثيراً من وحشة محاربة الفنون والآداب. وهي مهمة تبدو وكأنها قد فُصلت على مقاس الظاهرة الترفيهية، التي تعد بعوائد اقتصادية مقارنة بالحالة الثقافية المتنازلة حتى اللحظة عن أداء أي مهمة ذات طابع مادي.
الترفيه امتداد طبيعي لمزاج الناس بالمجمل. أما الثقافة بمعناها المتعالي فهي إرادة فئة من الناس. وهذا هو ما يسهل مهمة الترفيه بالقدر الذي يصعّب مهمة الثقافة. هذا بالإضافة إلى كون الثقافة تحتمل ظهور آراء تتجاور مع مرئيات المؤسسة ولا تتطابق معها بالضرورة لأنها نتاج وعي فردي، حالم بالتعبير عن الرأي واستظهار الفردانية، في الوقت الذي تبدو فيه الظاهرة الترفيهية كهبّة فرائحية مهرجانية جمعية. وبالتالي فإن الترفيه قد يصطدم بالسياق الاجتماعي ولكنه لا يفارق استراتيجية المؤسسة، أما الحالة الثقافية فقد لا تتوافق مع النهج المؤسساتي مهما كانت درجة الانسجام. هذا بالإضافة إلى كون صناعة الترفيه أقرب إلى لغة السوق وأعرف بها، وبالتالي فهي الأقرب إلى خطط التنمية، إذ لا تزعم أن التنمية بمعناها الأشمل يُشترط أن تعبر الممر الترفيهي كما تقول بذلك الثقافة التي تشترط ربط كل مفاهيم وآليات التنمية بالثقافة.
الترفيه من المنظور الطليعي كان يُصنف كثقافة ضد الثقافة، ولم يكن في بداياته يضع منتجاته في خانة الثقافة، بل طرح نفسه كصناعة وثيقة الصلة بالحاجات الاقتصادية. وهذا هو بالتحديد ما يحدث الآن في الحقل الترفيهي الذي تؤدي فروضه الهيئة العامة للترفيه، المنبثقة من رؤية 2030 المنذورة لتنمية قطاع الترفيه الذي يشكل أهمية كبرى في تنمية الاقتصاد الوطني السعودي. حيث يأتي في مقدمة أولوياتها إلى جانب البعد الاستثماري، إقامة المشروعات الثقافية والترفيهية من مكتبات ومتاحف وفنون. وهو ما يعني حضور البعد الثقافي بقوة ضمن استراتيجيتها. وذلك من خلال الثقافة بمعناها النخبوي والشعبي. حيث يُراد لكل ذلك الكم من الأداءات الشعبية أن يتحول إلى جماليات. وكأن الترفيه صار أسرع من الثقافة في تحقيق شعار «نمط الحياة» كما يُستشف ذلك من ترديد الناس لعبارات مثل «وأخيراً صرنا ناس طبيعيين».
هكذا اخترقت الموجة الترفيهية الحقل الاجتماعي بكل ألغامه وتحفظاته في الوقت الذي تراكم فيه الثقافة ملفات التأجيل في أدراجها، كتأخير معرض الرياض للكتاب، ومهرجان الجنادرية. وإن كانت الآراء المضادة ترى أن هيئة الترفيه إنما توطّن ثقافة الشارع المتمثلة في المقاهي والاستعراضات والرقص والسينما والنزهات والكرنفالات وألعاب الميديا والسباقات ضمن مواسم ترفيهية خالية من الجرعات الثقافية، وكأنها تنشط ضد كل ما هو ثقافي بالمعنى النخبوي للكلمة. وهو تصور لا يبدو دقيقاً إذ يشير إلى تعقّد علاقة المجتمع مع الأنشطة الفنية المباغتة. كما أنه لا يبدو رأياً منصفاً، حيث تحضر الفرق الموسيقية العالمية والمسرحيات الجادة إلى جانب الاحتفاليات برموز الطرب العربي وغيرها من الأداءات ذات الطابع الثقافي الجماهيري. وهو ما يعني أن الفضاء الاجتماعي في السعودية اليوم، وبفعل الحُقن الترفيهية عالية الجرعات، امتداد لمشهد كوني ينهض على الجماهيرية.
لا يوجد سباق معلن ما بين الترفيهي والثقافي، كما أن الجماهيرية ليست هي المعيار، وإلا لكانت الحالة الدينية هي الأقوى اليوم وهي المعروفة بقدرتها على الاستقطاب والتحشيد. ولا مجال بالتأكيد لمقارنة الأبعاد البنائية الهادئة للثقافة مقابل الروح المهرجانية الصاخبة للترفيه. ولكن الأهم والأكثر إلحاحاً يكمن في قدرة كل جهة على استظهار مفهومها لمعنى كون الثقافة أو الترفيه «نمط حياة». هذه العبارة الشعاراتية التي رفعتها ثقافة البوب في وجه الثقافة النخبوية إلى أن تمكنت من إثبات وجودها عبر منتجاتها ورموزها الفنية والثقافية. وهو السؤال الأبرز اليوم في الحالة السعودية؛ حيث التباري في إبراز الرموز الفاعلة في الحقلين الثقافي والترفيهي، بدل استجلاب المرفهين من الخارج، والعجز عن إنتاج جيل من القادرين على التعبير عن الذات والهوية والوطن سواء عبر الثقافي أو الترفيهي.
يستحق الجيل المؤمن بالترفيه كنمط حياة فرصة لإثبات وجوده وإظهار أبطاله، كما يستحق أن يتبوأ مكانه في التاريخ الاجتماعي الثقافي، من خلال ما ينتجه من القيم الرمزية والاجتماعية والجمالية، بعد أن يثبت قدرته على أن يكون عبر منتجاته رافداً من روافد الاقتصاد الوطني. تماماً كما يتوجب على الجيل الذي حمل راية التنوير أن يخرج من المتحف ويقدم إسهامه الثقافي سواء برعاية مؤسساتية أو بجهد فردي، وذلك على قاعدة التصالح مع الترفيه واستيعاب أبعاده الثقافية وعدم تمديده على كرسي الاعتراف ليثبت شرعيته كثقافة، والدفع باتجاه تأسيس ثقافة ترفيهية ذات أبعاد ومعطيات وقيم ورموز وطنية، إذ لا يوجد ذلك السور العالي ما بين الثقافي والترفيهي، مقارنة بما كان بين الثقافي بروحه الانفتاحية والصحوي بخطابه الانغلاقي، وهما – أي الترفيهي والثقافي - مطلبان متكاملان في معركة الحروب الناعمة، فالترفيه في بعده الشعبي ليس فعلاً مضاداً للثقافي الطليعي، بقدر ما هو شكل من أشكال الثقافة الفرعية القادرة على توليد العلامات بكثافة وسرعة لحرق مراحل الإبدال الثقافي.

- ناقد سعودي



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.