تحوّلات واحتجاجات على امتداد أميركا اللاتينية

المسؤولية تتقاسمها الأخطاء السياسية الاقتصادية... وسياسات صندوق النقد الدولي

تحوّلات واحتجاجات على امتداد أميركا اللاتينية
TT

تحوّلات واحتجاجات على امتداد أميركا اللاتينية

تحوّلات واحتجاجات على امتداد أميركا اللاتينية

«لن تتوقّف الاحتجاجات والمظاهرات الشعبية طالما تصرّ الحكومات على خدمة مصالح حفنة ضئيلة، وعلى حساب الأكثريّة»... هذه هي الخلاصة التي وصلت إليها الباحثة السياسية التشيلية مارتا لاغوس، وهي من أبرز الخبراء في أوضاع أميركا اللاتينية، في الدراسة المفصّلة التي أعدتها أخيراً بتكليف من الأمم المتحدة حول سلسلة الاضطرابات الاجتماعية التي تعصف منذ فترة بدول أميركا اللاتينية، من أفقرها إلى أغناها.
واليوم تطول قائمة البلدان التي تجتاحها الاحتجاجات العنيفة والأزمات السياسية على امتداد رقعتها، فتزداد وتتسّع بشكل لافت وبسرعة منذ فترة، بغضّ النظر عن اللون السياسي الحاكم فيها. ونظراً لطبيعة الاحتجاجات الشعبية، ولتزامن هذه الاضطرابات مع عودة اليسار إلى بعض المواقع التي كان قد خسرها منذ أواخر العقد الماضي، ثمّة مَن يرى وراء هذا الحراك الشعبي الواسع يد النظام الفنزويلي، مدعوماً من كوبا وبعض الجهات الخارجية، كما لمّحت أخيراً مصادر رسميّة ويمينية في الإكوادور وتشيلي.
في الحقيقة، ليست سهلة القراءة في أسباب هذه الاضطرابات التي تعمّ منطقة تضمّ أكثر من 20 دولة ويعيش فيها 600 مليون نسمة، وتتفاوت كثيراً من حيث مستويات النمو بين بعضها. إلا أن القواسم المشتركة، في الوقت الحاضر، بين كل هذه الأزمات... هي الخيبات العميقة التي يشعر بها المواطنون والتطلعات الكثيرة التي لم تتحقق منذ عقود والفشل البيّن للسياسات الاقتصادية، وبالأخصّ الليبرالية منها، في إنهاض المجتمعات من الفقر وتوزيع الثروات، ناهيك عن السخط المتزايد على الطبقة السياسية وفسادها.
خلال الأسابيع الأخيرة وحدها، شهدت بوليفيا، المحكومة من رئيس يساري، مواجهات عنيفة بين أجهزة الأمن والمتظاهرين الذين كانوا يحتجون على انعدام نزاهة الانتخابات الرئاسية. وفي تشيلي، التي يحكمها رئيس يميني، خرج أكثر من مليون مواطن يطالبون بتوزيع عادل للثروات وتحقيق العدالة الاجتماعية. أما الإكوادور؛ حيث انقلب رئيسها على داعميه اليساريين، ليتبنى سياسات ليبرالية يمينية، فكادت تشتعل عندما قررت الحكومة إلغاء الدعم على أسعار المحروقات. وعبر الحدود، في البيرو، أعلن رئيس الجمهورية مارتين فيزكارّا، (يمين وسط) حل البرلمان بعد أزمة سياسية مديدة أسفرت عن انتحار رئيس سابق وسجن ثلاثة آخرين بسبب الفساد.
في هذه الأثناء، في جزر الكاريبي وأميركا الوسطى، خرج سكّان هاييتي غاضبين إلى الساحات احتجاجاً على الشحّ في المحروقات والنقص في المواد الغذائية، كذاك خرجت في هندوراس مظاهرات حاشدة تطالب الرئيس بالتنحّي بعد إحالة شقيقه إلى المحاكمة بتهمة الاتجار بالمخدرات في الولايات المتحدة. ومن ثم، فالأسئلة مفتوحة حول البلد التالي على قائمة الاضطرابات التي لا مؤشر على قرب نهايتها.
تقول الباحثة لاغوس، في دراستها التحليلية، إن «مشهد الاحتجاجات الشعبية العنيفة يتعارض، في ظاهره، مع تطوّر النظم الديمقراطية وترسيخها خلال العقد المنصرم في أميركا اللاتينية، قبل انفجار الأزمتين في فنزويلا ونيكاراغوا». وتؤكد أن المظاهرات لن تتوقّف في ظل ازدياد الاستياء الشعبي من أداء النخبة الحاكمة، وقلة التجاوب مع المطالب الاجتماعية «لأنه ليست الحكومات التي تفشل، بل هي الدول».
- ليس وليد المصادفة
انتشار الاحتجاجات الشعبية والأزمات السياسية في العديد من بلدان أميركا اللاتينية ليس وليد المصادفة، بل هو الثمرة الطبيعية لظاهرة اجتماعية متزامنة في هذه البلدان. ومردّه إلى أن الحكومات، في معظم الدول الأميركية اللاتينية التي نجت من تداعيات الأزمة المالية العالمية عام 2008، وحققت نمواً اقتصادياً مطرداً في السنوات العشر المنصرمة، لم تولِ الاهتمام الكافي لمعالجة الفوارق الاجتماعية الحادة التي كانت تعتمل في رحمها هذه الأزمات. بل، هي اكتفت بتمويه الفقر تحت قناع أرقام الاقتصاد الكلّي.
بداية هذه الاحتجاجات كانت في البرازيل؛ حيث يتوقّع المراقبون أنها لم تبلغ بعد ذروتها المرتقبة. ومن هناك راحت تنتشر بسرعة أمام انسداد آفاق التغيير، وارتفاع وتيرة المطالب الشعبية في مجتمعات منفتحة وواعية وقادرة على التواصل السريع وتنظيم صفوفها وتحركاتها. وراهناً، تتزامن هذه الاحتجاجات مع أفول النظم الديمقراطية، وانكشاف فشل النخب السياسية وعجزها عن تلبية المطالب الاجتماعية للمواطنين... الذين يطالبون أيضاً بديمقراطية أفضل، ويثورون على الفساد المتفشي في مؤسسات الدولة. ولقد بات واضحاً أن معدّلات النمو الاقتصادي المرتفعة وأرقام الاقتصاد الكلّي لم تعد كافية لتمويه إخفاق جميع الدول الأميركية اللاتينية، باستثناء الأوروغواي، في ضمان الحقوق الاجتماعية الأساسية لمواطنيها، مثل التعليم والعناية الصحيّة والأجور والمعاشات التقاعدية الكريمة.
وتفيد دراسة وضعتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأميركا اللاتينية، أن 70 في المائة من مواطني المنطقة يعتبرون أن الحكومات تخدم مصالح أقليّة من المواطنين، وأن الفساد أصبح مستشرياً في معظم البلدان، ما يؤدي إلى تدمير الثقة بالنظم الديمقراطية. مع الإشارة، إلى أن الدراسة تفيد بأن المجتمعات لا تطالب بعودة الأنظمة العسكرية، بل بأداء أفضل للديمقراطية.
- من أخطاء الحكومات
من الأخطاء التي تقع فيها الحكومات أحياناً، أنها تتأخر أو تتلكأ، في استخلاص العِبرة من الاحتجاجات والتراجع عن مواقفها، أو المبادرة بحلول سريعة للمشكلات المتفاقمة. وكمثال، احتاج رئيس الإكوادور لينين مورينو، نحو 13 يوماً، قبل أن يدرك بأن عليه سحب قراره إلغاء الدعم على سعر المحروقات. والرئيس التشيلي (الثري جداً) سيباستيان بينييرا، تأخر سبعة أيام قبل أن يعتذر من مواطنيه، ويسحب حزمة التدابير الاقتصادية التي أشعلت فتيل الأزمة. ولا شك، في أن تراجع الحكومات أمام الضغط الشعبي يدفع بالجماهير نحو المزيد من الاحتجاجات، وذلك لعلمها بأن الاحتجاج هو السبيل الوحيد المتاح لإجبار الحكومات على التراجع وتحقيق المطالب.
ثم إن ما يميّز الأزمات التي تشهدها أميركا اللاتينية، في هذه المرحلة، أنها ليست ناجمة عن انعدام الحرّيات أو ضيق مساحات التعبير، كحال بعض بلدان العالم الثالث الأخرى. إذ إن الحريات السياسية والاجتماعية متوافرة، والمستوى الديمقراطي الذي بلغته المنطقة، خلال العقدين المنصرمين، لم تشهد مثله في تاريخها، باستثناء انتكاستين كبيرتين في فنزويلا ونيكاراغوا. غير أن هذه الحريّات لم تنتج أنظمة ديمقراطية فاعلة، بل، بقيت مؤسسات الدولة عاجزة عن التجاوب مع طموحات المواطنين وتلبية احتياجاتهم الأساسية.
- معالم أزمة اليسار
ومن المفارقات اللافتة في هذه الأزمات أن الأحزاب اليسارية التي كانت منذ 10 سنوات تسيطر على الحكم من البرازيل إلى الأرجنتين، ومن بوليفيا إلى الإكوادور والأوروغواي، ناهيك من كوبا وفنزويلا، تتحمّل قدراً كبيراً من مسؤولية اختمارها... وفي طليعة الأسباب بعض السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي انتهجتها، والفساد الذي استشرى على عهدها، وعجزها عن تجديد قياداتها ومواكبة التطور السريع في مجتمعاتها.
وحقاً، في معسكر اليسار، جدّد الرئيس إيفو موراليس، حكمه في بوليفيا بولاية رابعة حتى عام 2025، وفي الأرجنتين عادت الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر (البيرونية اليسارية)، نائبة للرئيس هذه المرة، بعد ولايتين لها وأخرى لزوجها... وحزمة من الملاحقات القضائية بتهم الفساد المالي وسوء استخدام السلطة، أدت إلى تمكن اليمين من تولي الحكم عبر موريسيو ماكري حتى هزيمته في الأسبوع الماضي. وفي الأوروغواي حافظت «الجبهة العريضة» (يسار) على السلطة التي وصلتها في عام 2005، لكن من دون قادتها التاريخيين مثل الرئيس الحالي تاباري فازكيز، وسلفه خوسيه موخيكا. وحالياً، تمتدّ هذه الظاهرة إلى بلدان يسعى فيها اليسار للعودة إلى السلطة وتجديد قياداته، مثل البرازيل وتشيلي، وأخرى يحكم فيها اليسار ويتخبطّ في أزمة خانقة مثل كوبا وفنزويلا.
رئيس الأوروغواي السابق خوسيه موخيكا، الذي كان رمزاً للنزاهة والمناقبيّة في الحكم والحياة الشخصية، أكد «أن تجديد القيادات اليسارية في أميركا اللاتينية حاجة ملحّة، لكنه بعيد الاحتمال في المستقبل القريب المنظور». ويعزو البعض ذلك إلى أن معظم القيادات اليسارية التي وصلت إلى سدّة الرئاسة أخيراً في أميركا اللاتينية، كانت تنتظر فرصتها منذ سنوات طويلة تعرّضت خلالها للقمع والاضطهاد وهزائم انتخابية متكرّرة. من هؤلاء، آندريس مانويل لوبيز أوبرادور، الذي انتخب رئيساً للمكسيك في العام الماضي بعد محاولات ثلاث فاشلة، وفي البرازيل وصل لويس أيغناسيو لولا دا سيلفا إلى الرئاسة في محاولته الرابعة، بعدما كان زعيماً نقابياً، وأدخل السجن عام 1980 لتحريضه على إضراب إبّان الحكم العسكري. موخيكا، نفسه، أمضى 14 سنة في السجن، وتعرّض للتعذيب على يد النظام العسكري بسبب انتمائه إلى ثوّار «التوبامارو»، والرئيس البوليفي موراليس - وهو من شعب الآيمارا - أمضى سنوات في الاعتقال لكونه زعيماً لنقابة مزارعي الكوكا قبل أن يصبح أول رئيس من السكّان الأصليين لبوليفيا. أيضاً هوغو تشافيز، رئيس فنزويلا السابق الراحل والضابط السابق في الجيش، سُجن عامين لقيامه بمحاولة انقلاب في فنزويلا، ثم انتخب رئيساً لفنزويلا عام 1998 وحكم حتى وفاته في عام 2013.
هذه المسارات الطويلة والمتعرّجة حتى السلطة، جعلت من هذه القيادات المخضرمة الخيار الوحيد المتاح، وغدت كالشجر العتيق الذي لا ينبت شيء في ظلّه. وبالتالي، عندما وصلت هذه القيادات إلى السلطة، فإنه لم تعد تفكّر في استنباط الآليّات اللازمة لتجديدها، بل صارت الزعامات اليسارية أيضاً محصورة في شخص واحد، على غرار الزعامات الإقطاعية التقليدية في أميركا اللاتينية التي يطلق عليها مصطلح «كاودييو» (Caudillo)، فصار الشعب أكثر ديمقراطية من النُخب... بينما تلوّث اليسار أيضاً بفقدان الديمقراطية.
وحقاً، محاولات التجديد في قيادات المعسكر اليساري ما زالت خجولة جداً، ولا تعدو كونها خروجاً عن قاعدة راسخة، مثل انتخاب المرشّحة اليسارية عن حزب «التحالف الأخضر» كلاوديا لوبيز، منذ أسبوع رئيسة لبلدية بوغوتا، عاصمة كولومبيا، ثاني كبرى دول أميركا الجنوبية بعد البرازيل. ويشكّل وصول لوبيز إلى هذا المنصب، الذي يُعتبر الثاني من حيث الأهمية في البلاد بعد منصب رئيس الجمهورية، اختراقاً رمزياً لافتاً في بلد تتعاقب على حكمه النُخب السياسية، الليبرالية والمحافظة منذ عقود، خصوصاً أنها مثليّة جنسياً، بجانب كونها أكاديمية تنتمي إلى وسط اجتماعي متواضع.
في أي حال، معظم الأحزاب اليسارية في أميركا اللاتينية فشل، بعد وصوله إلى الحكم خلال العقود الأربعة الأخيرة، في إرساء سياسات اقتصادية وبرامج إنمائية تقلّص الفوارق الاجتماعية الصارخة التي تبلغ أرفع مستوياتها العالمية في هذه المنطقة. ونادراً ما تحققت على عهده إصلاحات تلبّي الاحتياجات الأساسية للطبقات الشعبية والعاملة. وبالنتيجة، انصرفت هذه الأحزاب في معظم الأحيان، لتغطية عجزها، إلى إلقاء اللوم على صندوق النقد الدولي والشروط التي فرضها ويفرضها ضمن برامج التعديل الهيكلي على اقتصادات المنطقة، كخفض العجز الضريبي عن طريق زيادة الضرائب، وإلغاء الدعم الرسمي على المواد الأساسية، وخفض أسعار العملات الوطنية.
ومع انتشار الاحتجاجات الشعبية، واتساع رقعتها في أميركا اللاتينية، لا بد من التذكير بأن الاضطرابات الاجتماعية كانت دوماً حاضرة في المشهد السياسي في هذه المنطقة. ثم إن ثمّة «ثقافة» تعبئة اجتماعية متجذّرة في هذه البلدان، يلجأ إليها المواطنون للضغط من أجل توسيع إطار الحرّيات العامة والحد من الفوارق الاجتماعية التي تبلغ مستويات قياسية في بلدان المنطقة.
أيضاً، تجدر الإشارة إلى أن هذه الاحتجاجات تتزامن مع تراجع في النمو الاقتصادي وتفاقم الأوضاع المعيشية. وتفيد تقارير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأميركا اللاتينية (سيبال)، بأن النمو الاقتصادي في المنطقة لن يتجاوز 0.2 في المائة عام 2020، مقابل 5.9 في المائة في آسيا، و3.2 في المائة في أفريقيا. كذلك، تفيد التقارير بأنه يعيش أكثر من 10 في المائة من سكّان هذه المنطقة في حال من الفقر المدقع، وهذه النسبة ترتفع باطراد منذ عام 2002، مع إصرار الحكومات، يسارية ويمينية، على تطبيق سياسات اقتصادية تعجز عن توفير فرص عمل إضافية، وتتجاهل ضرورة الحد من الفوارق الاجتماعية الصارخة التي تؤجج الاحتجاجات الشعبية، وتضرب صدقيّة النظم الديمقراطية ومؤسساته.
- دور صندوق النقد الدولي... وأخطاؤه ونجاحاته
> كان صندوق النقد الدولي يفرض شروطه الإقراضية على حكومات دول أميركا اللاتينية، يسارية كانت أو يمينية، لمواجهة الأزمات الاقتصادية الحادة التي كانت تؤدي إلى احتجاجات شعبية واسعة. وفي بعض الحالات إلى أزمات هدّدت الاستقرار السياسي في أكثر من دولة.
ومن الشواهد الأخيرة على ذلك، أزمة تشيلي، التي اندلعت في أعقاب إعلان الحكومة عن حزمة تدابير اقتصادية شملت رفع أسعار خدمات النقل العام، وأزمة الإكوادور التي نشأت عن قرار الحكومة إلغاء الدعم على أسعار المحروقات تلبية لشروط صندوق النقد، الذي انصبّت عليه الشعارات الاحتجاجية، مطالبة «بخروج» الصندوق من الإكوادور. ولقد ذكّر ذلك بأزمات سابقة، كتلك التي عاشتها فنزويلا مطلع تسعينيات القرن الماضي، والأرجنتين عام 2001، ونيكاراغوا في العام الماضي.
من جهته، صندوق النقد الدولي أقر بارتكابه أخطاء في تقديراته، وفي الشروط التي فرضها على بعض الدول الأميركية اللاتينية. ومن أبرز هذه الأخطاء ما حصل إبان الأزمة الأرجنتينية الكبرى مطلع العقد الماضي، عندما اضطرت الأرجنتين إلى إعلان أكبر عجز عن السداد في التاريخ النقدي بقيمة 93 مليار دولار أميركي، ما أدّى إلى أزمة اجتماعية وسياسية ما زالت أصداؤها تتردد إلى اليوم.
أيضاً، اعترفت إدارة الصندوق بأنها أخطأت في تقديراتها حول آفاق النمو الاقتصادي في الأرجنتين، وشروط سداد القرض، والتدابير التي فرضتها على السياسة النقدية، وبأن القرض الذي قدّمه الصندوق للأرجنتين من أجل دعم نظامها النقدي، كان من الأجدى استخدامه لتمويل برامج اجتماعية ومساعدتها على الخروج من هذا النظام الذي لم تعد قادرة على الاستمرار به.
وتفيد دراسة وضعتها دائرة التحليل الاستراتيجي في الصندوق، بأن القروض التي يمنحها «ليست هي أساس المشكلات التي تواجهها البلدان التي تلجأ إلى قروضه»، لكنها تقرّ بأن الصندوق لم يولِ العناية الكافية دائماً لتقويم كميّة ونوع الإصلاحات التي يفرضها. وهو ما أدى في بعض الحالات إلى تهميش فئات واسعة من السكّان، على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، وإضعاف شرعيّة النظم الديمقراطية.
وتذكّر الدراسة بأن صندوق النقد الدولي «لا يتدخّل إلا تجاوباً مع طلبات الحكومات التي عادة ترتكب الأخطاء نفسها، والتي تلجأ إلى صندوق النقد عندما تصل إلى شفير الهاوية، ولا يتبقّى أمامها سوى إعلان عجزها عن دفع رواتب الموظفين، وشلّ حركة الدولة».
ولكن تجدر الإشارة أيضاً إلى أن ثمّة حالات كان تدخّل صندوق النقد الدولي فيها ناجحاً، وساعد على الخروج من أزمات اقتصادية واجتماعية حادة. من هذه الحالات، في أميركا اللاتينية، تحديداً، القرض الذي قدّمه الصندوق بقيمة 30 مليار دولار أميركي للبرازيل في عام 2002، عندما كان هذا البلد غارقاً في القلق يتهيّأ لوصول اليساري «لولا» إلى الرئاسة. وساعد ذلك القرض - في حينه - على منع الانهيار النقدي والاقتصادي خلال المرحلة الأولى من انتقال السلطة، وبخاصة، بعدما اقتنع لولا بضرورة تعديل سياسته الاقتصادية وتحصين النظام النقدي في وجه أسواق المال.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

TT

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

روبيو
روبيو

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل فريق سياسة خارجية وأمن قومي «متجانس»، لا يكرّر الأخطاء والصدامات التي خاضها في ولايته الأولى؛ إذ على مدى السنوات الثماني الماضية، جمع ترمب ما يكفي من الموالين، لتعيين مسؤولين من ذوي التفكير المماثل؛ لضمان ألا تواجهه أي مقاومة منهم. ومع سيطرة الحزب الجمهوري - الذي أعاد ترمب تشكيله «على صورته» - على مجلسي الشيوخ والنواب والسلطة القضائية العليا، ستكون الضوابط على سياساته أضعف بكثير، وأكثر ودية مع حركة «ماغا»، مما كانت عليه عام 2017. وهذا يشير إلى أن واشنطن ستتكلّم عن سياستها الخارجية بصوت واحد خلال السنوات الأربع المقبلة، هو صوت ترمب نفسه. لكن وعلى الرغم من أن قدرته على قيادة آلية السياسة الخارجية ستتعزّز، فإن قدرته على تحسين مكانة الولايات المتحدة في العالم مسألة أخرى.

اختار الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، السيناتور ماركو روبيو، مرشحاً لمنصب وزير الخارجية، بعد قطع الأخير شوطاً كبيراً في تقديم الولاء له. للعلم، علاقة الرجلين التي بدأت منذ عام 2016، وانتهت بشكل تصادمي بعد هزيمة روبيو في الانتخابات الرئاسية التمهيدية للحزب الجمهوري، تحولت إلى علاقة تحالفية إثر دعم روبيو كل ما قاله وفعله ترمب تقريباً إبّان فترة رئاسته الأولى.

هذا الواقع قد يعزّز تثبيت روبيو في مجلس الشيوخ - الذي يمضي فيه الآن فترته الثالثة - من دون عقبات جدية، في ظل دوره وتاريخه في المجلس، منذ أن فاز بمقعد فيه عام 2010. وحقاً، لاقى اختيار روبيو استحساناً حتى من بعض الديمقراطيين، منهم السيناتور الديمقراطي جون فيترمان، الذي قال إنه سيصوّت للمصادقة على تعيينه. كذلك أشاد السيناتور الديمقراطي مارك وارنر، رئيس لجنة الاستخبارات الحالي، في بيان، بروبيو ووصفه بأنه ذكي وموهوب.

ملف الخارجية للرئيس

روبيو، من جهته، لم يترك شكاً حيال مَن يقرر السياسة الخارجية للولايات المتحدة، عندما قال إن من يحددها، ليس وزير الخارجية، بل الرئيس. وبالتالي فإن مهمة مَن سيشغل المنصب ستكون تنفيذ سياسات هذا الرئيس، وهي تهدف إلى تأمين «السلام من خلال القوة»، ووضع مصالح «أميركا في المقام الأول».

وحقاً، يلخص روبيو رؤيته لأميركا بالقول: «هي أعظم دولة عرفها العالم على الإطلاق، لكن لدينا مشاكل خطيرة في الداخل وتحدّيات خطيرة في الخارج». وأردف: «نحن بحاجة إلى إعادة التوازن لاقتصادنا المحلي، وإعادة الصناعات الحيوية إلى أميركا، وإعادة بناء قوتنا العاملة من خلال تعليم وتدريب أفضل». واستطرد: «لا شيء من هذا سهل، لكن لا يمكننا أن نتحمل الفشل. هذا هو السبب في أنني ملتزم ببناء تحالف متعدّد الأعراق من الطبقة العاملة على استعداد للقتال من أجل هذا البلد والدخول في قرن أميركي جديد».

ولكن من هو ماركو روبيو؟ وما أبرز مواقفه الداخلية والخارجية؟ وكيف أدت استداراته السياسية إلى تحوّله واحداً من أبرز المرشحين للعب دور في إدارة ترمب، بل كاد يكون نائبه بدلاً من جي دي فانس؟

سجل شخصي

ولد ماركو روبيو قبل 53 سنة في مدينة ميامي بولاية فلوريدا، التي يعدّها موطنه. كان والده يعمل نادلاً ووالدته عاملة في أحد الفنادق. وفي حملته الأولى لمجلس الشيوخ، حرص دائماً على تذكير الناخبين بخلفيته من الطبقة العاملة، التي كانت تشير إلى التحوّلات الطبقية التي طرأت على قاعدة الحزب الجمهوري، وتحوّلت إلى علامة انتخابية، مع شعار «فقط في أميركا»، بوصفه ابناً لمهاجرَين كوبيّين... أصبح عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي.

عندما كان في الثامنة من عمره، انتقلت الأسرة إلى مدينة لاس فيغاس بولاية نيفادا، حيث أمضى نحو 6 سنوات من طفولته، بعدما وجد والداه وظائف في صناعة الفنادق المتنامية فيها. وفي سن الرابعة عشرة من عمره، عاد مع عائلته إلى ميامي. ومع أنه كاثوليكي، فإنه تعمّد في إحدى كنائس لطائفة المورمون في لاس فيغاس، غير أنه في فلوريدا كان يحضر القداديس في إحدى الكنائس الكاثوليكية بضاحية كورال غايبلز، وإن كان قد شارك الصلوات سابقاً في كنيسة «كرايست فيلوشيب»، وهي كنيسة إنجيلية جنوبية في ويست كيندال بولاية فلوريدا.

يعرف عن روبيو أنه من مشجعي كرة القدم الأميركية، وكان يحلم بالوصول إلى دوري كرة القدم الأميركي عندما لعب في المدرسة الثانوية، إلا أنه لم يتلق سوى عرضين من كليتين جامعيتين. وبدايةً اختار كلية تاركيو غير المعروفة، التي تقع في بلدة يقل عدد سكانها عن 2000 شخص في المنطقة الشمالية الغربية الريفية من ولاية ميسوري. ولكن عندما واجهت الكلية الإفلاس وتعرّض للإصابة، تخلى روبيو عن كرة القدم وانتقل إلى فلوريدا، ليتخرّج ببكالوريوس في العلوم السياسية في جامعة فلوريدا، ثم في كلية الحقوق بجامعة ميامي.

في عام 1998، تزوّج روبيو من جانيت دوسديبيس، وهي أمينة صندوق سابقة في أحد المصارف، ومشجعة لنادي ميامي دولفينز لكرة القدم الأميركية، وأنجبا أربعة أطفال، وهو يعيش الآن وعائلته في ويست ميامي بولاية فلوريدا. ووفق موقع «أوبن سيكريت. أورغ»، بدءاً من عام 2018، كان صافي ثروة روبيو سلبياً؛ إذ تجاوزت ديونه 1.8 مليون دولار أميركي.

مسيرته السياسية الطموحة

يوم 13 سبتمبر (أيلول) 2005، في سن 34 سنة انتخب روبيو عضواً في مجلس النواب في فلوريدا، وأصبح رئيساً له عام 2006، بعد انسحاب منافسيه دينيس باكسلي وجيف كوتكامب ودينيس روس، ليغدو أول أميركي من أصل كوبي يتولى هذا المنصب، حتى عام 2008.

عام 2010، كان روبيو يُعد مرشحاً ضعيفاً ضد الحاكم (آنذاك) تشارلي كريست لترشيح الحزب الجمهوري لمجلس الشيوخ. وبالفعل، تعرّض لضغوط من قادة الحزب للانسحاب من السباق والترشح بدلاً من ذلك لمنصب المدعي العام، مع وعود من الحزب بإخلاء الميدان له. ويومذاك كتب في مذكراته «ابن أميركي»، قائلاً: «لقد أقنعت نفسي تقريباً بالانسحاب». غير أنه عاد وتمسك بموقفه، وكتب في تلك المرحلة أنه شعر بأنه لا يستطيع التراجع عن كلمته. وبقي في السباق، وفاز بأول فترة له في مجلس الشيوخ، حيث أعيد انتخابه في عام 2016، ثم مرة أخرى في عام 2022.

وعام 2016، دخل روبيو السباق الرئاسي منافساً مجموعة كبيرة من الجمهوريين، منهم دونالد ترمب، وفاز في لاية مينيسوتا، بينما حل السيناتور تيد كروز (من تكساس) ثانياً، وترمب ثالثاً. بعدها كانت انتصاراته الأخرى الوحيدة في واشنطن العاصمة وبورتوريكو. ومن ثم، انسحب بعدما هزمه ترمب في ولايته فلوريدا جامعاً 46 في المائة من الأصوات بينما جاء روبيو ثانياً بنسبة 27 في المائة. وخلال ذلك السباق، تبادل الرجلان الإهانات؛ إذ لقّبه ترمب بـ«ماركو الصغير»، وردّ روبيو بإهانة ترمب ووصفه بأنه «محتال» و«مبتذل». ولكن عندما أعادت قناة «آيه بي سي نيوز» في وقت سابق من هذا العام بث بعض تعليقاته عن ترمب عام 2016، قلل روبيو من أهميتها، بالقول: «كانت حملة». وفعلاً، بعد تولّي ترمب الرئاسة عام 2017، تحسنت علاقاتهما وظل على مقربة منه، حتى بعدما اختار ترمب السيناتور الشاب جي دي فانس (من أوهايو) لمنصب نائب الرئيس. بل سافر روبيو مع ترمب خلال المرحلة الأخيرة من سباق 2024، وألقى خطابات باللغتين الإنجليزية والإسبانية في العديد من التجمعات في اليوم الأخير من الحملة.

لم يترك روبيو شكاً حيال مَن يقرر سياسة واشنطن الخارجية

عندما قال إن من يحددها هو الرئيس... لا وزير الخارجية

سياسات روبيو المحافظة

بدءاً من أوائل عام 2015، حصل روبيو على تصنيف بنسبة 98.67 في المائة من قبل «اتحاد المحافظين الأميركيين»، بناء على سجلّه التصويتي مدى الحياة في مجلس الشيوخ. وعام 2013 كان روبيو السيناتور السابع عشر الأكثر محافظة. ويصنّف مركز سن القوانين الفعالة روبيو باستمرار بين أعضاء مجلس الشيوخ الثلاثة الأكثر فاعلية في الكونغرس.

يُذكر أن روبيو دخل مجلس الشيوخ بدعم قوي من جماعة «حفلة الشاي» التي كانت تمثل اليمين الأكثر محافظة في الحزب الجمهوري. لكن دعمه في عام 2013 لتشريع الإصلاح الشامل للهجرة بهدف توفير مسار للحصول على الجنسية لـ11 مليون مهاجر غير موثق في أثناء تنفيذ تدابير مختلفة لتعزيز الحدود الأميركية، أدى إلى انخفاض دعمهم له. وللعلم، رغم تمرير ذلك المشروع في مجلس الشيوخ، أسقطه المتشددون في مجلس النواب.

ثم، بمرور الوقت، نأى روبيو بنفسه عن جهوده السابقة للتوصل إلى «حل وسط» بشأن الهجرة؛ كالعديد من مواقفه الداخلية والخارجية التي عُدّت سبباً رئيساً لتغير علاقة ترمب به؛ إذ اعتمد مواقف أكثر تشدداً بشأن الهجرة، ورفض مساعي الحزب الديمقراطي إزاء ملف الهجرة منذ عام 2018 وحتى 2024.

في مارس (آذار) 2016، عارض روبيو ترشيح الرئيس باراك أوباما للقاضي ميريك غارلاند للمحكمة العليا، متذرعاً «لا أعتقد أنه يجوز لنا المضي قدماً بمرشح في العام الأخير من ولاية هذا الرئيس. أقول هذا، حتى لو كان الرئيس جمهورياً». لكنه في سبتمبر (أيلول) 2020، إثر وفاة القاضية الليبرالية روث بايدر غينزبيرغ، أشاد روبيو بترشيح ترمب للقاضية المحافظة إيمي باريت للمحكمة، وصوّت لتثبيتها في 26 أكتوبر (تشرين الأول)، قبل 86 يوماً من انتهاء ولاية ترمب الرئاسية.

أيضاً في مارس 2018، دافع روبيو عن قرار إدارة ترمب بإضافة سؤال الجنسية إلى تعداد عام 2020. ورجح الخبراء يومها أن يؤدي إدراج هذا السؤال إلى نقص حاد في تعداد السكان وبيانات خاطئة؛ إذ سيكون المهاجرون غير المسجلين أقل استعداداً للاستجابة للتعداد.

وحول الميزانية الفيدرالية، يدعم روبيو مع إعطاء الأولوية للإنفاق الدفاعي، ويرفض الإجماع العلمي بشأن تغير المناخ، الذي ينص على أن تغير المناخ حقيقي ومتقدم وضار وينجم في المقام الأول عن البشر. كذلك يعارض روبيو قانون الرعاية الميسرة (أوباما كير) وقد صوّت لإلغائه رغم فشل المحاولة. وهو معارض صريح للإجهاض، وقال إنه سيحظره حتى في حالات الاغتصاب وزنا المحارم، مع استثناءات إذا كانت حياة الأم في خطر.وأخيراً، يدعم روبيو تحديد ضرائب الشركات بنسبة 25 في المائة، وتعديل قانون الضرائب، ووضع حد أقصى للتنظيمات الاقتصادية، ويقترح زيادة سن التقاعد للضمان الاجتماعي بناءً على متوسط العمر المتوقع الأطول. ويعارض المعايير الفيدرالية الأساسية المشتركة للتعليم، كما يدعو إلى إغلاق وزارة التعليم الفيدرالية.