تحوّلات واحتجاجات على امتداد أميركا اللاتينية

المسؤولية تتقاسمها الأخطاء السياسية الاقتصادية... وسياسات صندوق النقد الدولي

تحوّلات واحتجاجات على امتداد أميركا اللاتينية
TT

تحوّلات واحتجاجات على امتداد أميركا اللاتينية

تحوّلات واحتجاجات على امتداد أميركا اللاتينية

«لن تتوقّف الاحتجاجات والمظاهرات الشعبية طالما تصرّ الحكومات على خدمة مصالح حفنة ضئيلة، وعلى حساب الأكثريّة»... هذه هي الخلاصة التي وصلت إليها الباحثة السياسية التشيلية مارتا لاغوس، وهي من أبرز الخبراء في أوضاع أميركا اللاتينية، في الدراسة المفصّلة التي أعدتها أخيراً بتكليف من الأمم المتحدة حول سلسلة الاضطرابات الاجتماعية التي تعصف منذ فترة بدول أميركا اللاتينية، من أفقرها إلى أغناها.
واليوم تطول قائمة البلدان التي تجتاحها الاحتجاجات العنيفة والأزمات السياسية على امتداد رقعتها، فتزداد وتتسّع بشكل لافت وبسرعة منذ فترة، بغضّ النظر عن اللون السياسي الحاكم فيها. ونظراً لطبيعة الاحتجاجات الشعبية، ولتزامن هذه الاضطرابات مع عودة اليسار إلى بعض المواقع التي كان قد خسرها منذ أواخر العقد الماضي، ثمّة مَن يرى وراء هذا الحراك الشعبي الواسع يد النظام الفنزويلي، مدعوماً من كوبا وبعض الجهات الخارجية، كما لمّحت أخيراً مصادر رسميّة ويمينية في الإكوادور وتشيلي.
في الحقيقة، ليست سهلة القراءة في أسباب هذه الاضطرابات التي تعمّ منطقة تضمّ أكثر من 20 دولة ويعيش فيها 600 مليون نسمة، وتتفاوت كثيراً من حيث مستويات النمو بين بعضها. إلا أن القواسم المشتركة، في الوقت الحاضر، بين كل هذه الأزمات... هي الخيبات العميقة التي يشعر بها المواطنون والتطلعات الكثيرة التي لم تتحقق منذ عقود والفشل البيّن للسياسات الاقتصادية، وبالأخصّ الليبرالية منها، في إنهاض المجتمعات من الفقر وتوزيع الثروات، ناهيك عن السخط المتزايد على الطبقة السياسية وفسادها.
خلال الأسابيع الأخيرة وحدها، شهدت بوليفيا، المحكومة من رئيس يساري، مواجهات عنيفة بين أجهزة الأمن والمتظاهرين الذين كانوا يحتجون على انعدام نزاهة الانتخابات الرئاسية. وفي تشيلي، التي يحكمها رئيس يميني، خرج أكثر من مليون مواطن يطالبون بتوزيع عادل للثروات وتحقيق العدالة الاجتماعية. أما الإكوادور؛ حيث انقلب رئيسها على داعميه اليساريين، ليتبنى سياسات ليبرالية يمينية، فكادت تشتعل عندما قررت الحكومة إلغاء الدعم على أسعار المحروقات. وعبر الحدود، في البيرو، أعلن رئيس الجمهورية مارتين فيزكارّا، (يمين وسط) حل البرلمان بعد أزمة سياسية مديدة أسفرت عن انتحار رئيس سابق وسجن ثلاثة آخرين بسبب الفساد.
في هذه الأثناء، في جزر الكاريبي وأميركا الوسطى، خرج سكّان هاييتي غاضبين إلى الساحات احتجاجاً على الشحّ في المحروقات والنقص في المواد الغذائية، كذاك خرجت في هندوراس مظاهرات حاشدة تطالب الرئيس بالتنحّي بعد إحالة شقيقه إلى المحاكمة بتهمة الاتجار بالمخدرات في الولايات المتحدة. ومن ثم، فالأسئلة مفتوحة حول البلد التالي على قائمة الاضطرابات التي لا مؤشر على قرب نهايتها.
تقول الباحثة لاغوس، في دراستها التحليلية، إن «مشهد الاحتجاجات الشعبية العنيفة يتعارض، في ظاهره، مع تطوّر النظم الديمقراطية وترسيخها خلال العقد المنصرم في أميركا اللاتينية، قبل انفجار الأزمتين في فنزويلا ونيكاراغوا». وتؤكد أن المظاهرات لن تتوقّف في ظل ازدياد الاستياء الشعبي من أداء النخبة الحاكمة، وقلة التجاوب مع المطالب الاجتماعية «لأنه ليست الحكومات التي تفشل، بل هي الدول».
- ليس وليد المصادفة
انتشار الاحتجاجات الشعبية والأزمات السياسية في العديد من بلدان أميركا اللاتينية ليس وليد المصادفة، بل هو الثمرة الطبيعية لظاهرة اجتماعية متزامنة في هذه البلدان. ومردّه إلى أن الحكومات، في معظم الدول الأميركية اللاتينية التي نجت من تداعيات الأزمة المالية العالمية عام 2008، وحققت نمواً اقتصادياً مطرداً في السنوات العشر المنصرمة، لم تولِ الاهتمام الكافي لمعالجة الفوارق الاجتماعية الحادة التي كانت تعتمل في رحمها هذه الأزمات. بل، هي اكتفت بتمويه الفقر تحت قناع أرقام الاقتصاد الكلّي.
بداية هذه الاحتجاجات كانت في البرازيل؛ حيث يتوقّع المراقبون أنها لم تبلغ بعد ذروتها المرتقبة. ومن هناك راحت تنتشر بسرعة أمام انسداد آفاق التغيير، وارتفاع وتيرة المطالب الشعبية في مجتمعات منفتحة وواعية وقادرة على التواصل السريع وتنظيم صفوفها وتحركاتها. وراهناً، تتزامن هذه الاحتجاجات مع أفول النظم الديمقراطية، وانكشاف فشل النخب السياسية وعجزها عن تلبية المطالب الاجتماعية للمواطنين... الذين يطالبون أيضاً بديمقراطية أفضل، ويثورون على الفساد المتفشي في مؤسسات الدولة. ولقد بات واضحاً أن معدّلات النمو الاقتصادي المرتفعة وأرقام الاقتصاد الكلّي لم تعد كافية لتمويه إخفاق جميع الدول الأميركية اللاتينية، باستثناء الأوروغواي، في ضمان الحقوق الاجتماعية الأساسية لمواطنيها، مثل التعليم والعناية الصحيّة والأجور والمعاشات التقاعدية الكريمة.
وتفيد دراسة وضعتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأميركا اللاتينية، أن 70 في المائة من مواطني المنطقة يعتبرون أن الحكومات تخدم مصالح أقليّة من المواطنين، وأن الفساد أصبح مستشرياً في معظم البلدان، ما يؤدي إلى تدمير الثقة بالنظم الديمقراطية. مع الإشارة، إلى أن الدراسة تفيد بأن المجتمعات لا تطالب بعودة الأنظمة العسكرية، بل بأداء أفضل للديمقراطية.
- من أخطاء الحكومات
من الأخطاء التي تقع فيها الحكومات أحياناً، أنها تتأخر أو تتلكأ، في استخلاص العِبرة من الاحتجاجات والتراجع عن مواقفها، أو المبادرة بحلول سريعة للمشكلات المتفاقمة. وكمثال، احتاج رئيس الإكوادور لينين مورينو، نحو 13 يوماً، قبل أن يدرك بأن عليه سحب قراره إلغاء الدعم على سعر المحروقات. والرئيس التشيلي (الثري جداً) سيباستيان بينييرا، تأخر سبعة أيام قبل أن يعتذر من مواطنيه، ويسحب حزمة التدابير الاقتصادية التي أشعلت فتيل الأزمة. ولا شك، في أن تراجع الحكومات أمام الضغط الشعبي يدفع بالجماهير نحو المزيد من الاحتجاجات، وذلك لعلمها بأن الاحتجاج هو السبيل الوحيد المتاح لإجبار الحكومات على التراجع وتحقيق المطالب.
ثم إن ما يميّز الأزمات التي تشهدها أميركا اللاتينية، في هذه المرحلة، أنها ليست ناجمة عن انعدام الحرّيات أو ضيق مساحات التعبير، كحال بعض بلدان العالم الثالث الأخرى. إذ إن الحريات السياسية والاجتماعية متوافرة، والمستوى الديمقراطي الذي بلغته المنطقة، خلال العقدين المنصرمين، لم تشهد مثله في تاريخها، باستثناء انتكاستين كبيرتين في فنزويلا ونيكاراغوا. غير أن هذه الحريّات لم تنتج أنظمة ديمقراطية فاعلة، بل، بقيت مؤسسات الدولة عاجزة عن التجاوب مع طموحات المواطنين وتلبية احتياجاتهم الأساسية.
- معالم أزمة اليسار
ومن المفارقات اللافتة في هذه الأزمات أن الأحزاب اليسارية التي كانت منذ 10 سنوات تسيطر على الحكم من البرازيل إلى الأرجنتين، ومن بوليفيا إلى الإكوادور والأوروغواي، ناهيك من كوبا وفنزويلا، تتحمّل قدراً كبيراً من مسؤولية اختمارها... وفي طليعة الأسباب بعض السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي انتهجتها، والفساد الذي استشرى على عهدها، وعجزها عن تجديد قياداتها ومواكبة التطور السريع في مجتمعاتها.
وحقاً، في معسكر اليسار، جدّد الرئيس إيفو موراليس، حكمه في بوليفيا بولاية رابعة حتى عام 2025، وفي الأرجنتين عادت الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر (البيرونية اليسارية)، نائبة للرئيس هذه المرة، بعد ولايتين لها وأخرى لزوجها... وحزمة من الملاحقات القضائية بتهم الفساد المالي وسوء استخدام السلطة، أدت إلى تمكن اليمين من تولي الحكم عبر موريسيو ماكري حتى هزيمته في الأسبوع الماضي. وفي الأوروغواي حافظت «الجبهة العريضة» (يسار) على السلطة التي وصلتها في عام 2005، لكن من دون قادتها التاريخيين مثل الرئيس الحالي تاباري فازكيز، وسلفه خوسيه موخيكا. وحالياً، تمتدّ هذه الظاهرة إلى بلدان يسعى فيها اليسار للعودة إلى السلطة وتجديد قياداته، مثل البرازيل وتشيلي، وأخرى يحكم فيها اليسار ويتخبطّ في أزمة خانقة مثل كوبا وفنزويلا.
رئيس الأوروغواي السابق خوسيه موخيكا، الذي كان رمزاً للنزاهة والمناقبيّة في الحكم والحياة الشخصية، أكد «أن تجديد القيادات اليسارية في أميركا اللاتينية حاجة ملحّة، لكنه بعيد الاحتمال في المستقبل القريب المنظور». ويعزو البعض ذلك إلى أن معظم القيادات اليسارية التي وصلت إلى سدّة الرئاسة أخيراً في أميركا اللاتينية، كانت تنتظر فرصتها منذ سنوات طويلة تعرّضت خلالها للقمع والاضطهاد وهزائم انتخابية متكرّرة. من هؤلاء، آندريس مانويل لوبيز أوبرادور، الذي انتخب رئيساً للمكسيك في العام الماضي بعد محاولات ثلاث فاشلة، وفي البرازيل وصل لويس أيغناسيو لولا دا سيلفا إلى الرئاسة في محاولته الرابعة، بعدما كان زعيماً نقابياً، وأدخل السجن عام 1980 لتحريضه على إضراب إبّان الحكم العسكري. موخيكا، نفسه، أمضى 14 سنة في السجن، وتعرّض للتعذيب على يد النظام العسكري بسبب انتمائه إلى ثوّار «التوبامارو»، والرئيس البوليفي موراليس - وهو من شعب الآيمارا - أمضى سنوات في الاعتقال لكونه زعيماً لنقابة مزارعي الكوكا قبل أن يصبح أول رئيس من السكّان الأصليين لبوليفيا. أيضاً هوغو تشافيز، رئيس فنزويلا السابق الراحل والضابط السابق في الجيش، سُجن عامين لقيامه بمحاولة انقلاب في فنزويلا، ثم انتخب رئيساً لفنزويلا عام 1998 وحكم حتى وفاته في عام 2013.
هذه المسارات الطويلة والمتعرّجة حتى السلطة، جعلت من هذه القيادات المخضرمة الخيار الوحيد المتاح، وغدت كالشجر العتيق الذي لا ينبت شيء في ظلّه. وبالتالي، عندما وصلت هذه القيادات إلى السلطة، فإنه لم تعد تفكّر في استنباط الآليّات اللازمة لتجديدها، بل صارت الزعامات اليسارية أيضاً محصورة في شخص واحد، على غرار الزعامات الإقطاعية التقليدية في أميركا اللاتينية التي يطلق عليها مصطلح «كاودييو» (Caudillo)، فصار الشعب أكثر ديمقراطية من النُخب... بينما تلوّث اليسار أيضاً بفقدان الديمقراطية.
وحقاً، محاولات التجديد في قيادات المعسكر اليساري ما زالت خجولة جداً، ولا تعدو كونها خروجاً عن قاعدة راسخة، مثل انتخاب المرشّحة اليسارية عن حزب «التحالف الأخضر» كلاوديا لوبيز، منذ أسبوع رئيسة لبلدية بوغوتا، عاصمة كولومبيا، ثاني كبرى دول أميركا الجنوبية بعد البرازيل. ويشكّل وصول لوبيز إلى هذا المنصب، الذي يُعتبر الثاني من حيث الأهمية في البلاد بعد منصب رئيس الجمهورية، اختراقاً رمزياً لافتاً في بلد تتعاقب على حكمه النُخب السياسية، الليبرالية والمحافظة منذ عقود، خصوصاً أنها مثليّة جنسياً، بجانب كونها أكاديمية تنتمي إلى وسط اجتماعي متواضع.
في أي حال، معظم الأحزاب اليسارية في أميركا اللاتينية فشل، بعد وصوله إلى الحكم خلال العقود الأربعة الأخيرة، في إرساء سياسات اقتصادية وبرامج إنمائية تقلّص الفوارق الاجتماعية الصارخة التي تبلغ أرفع مستوياتها العالمية في هذه المنطقة. ونادراً ما تحققت على عهده إصلاحات تلبّي الاحتياجات الأساسية للطبقات الشعبية والعاملة. وبالنتيجة، انصرفت هذه الأحزاب في معظم الأحيان، لتغطية عجزها، إلى إلقاء اللوم على صندوق النقد الدولي والشروط التي فرضها ويفرضها ضمن برامج التعديل الهيكلي على اقتصادات المنطقة، كخفض العجز الضريبي عن طريق زيادة الضرائب، وإلغاء الدعم الرسمي على المواد الأساسية، وخفض أسعار العملات الوطنية.
ومع انتشار الاحتجاجات الشعبية، واتساع رقعتها في أميركا اللاتينية، لا بد من التذكير بأن الاضطرابات الاجتماعية كانت دوماً حاضرة في المشهد السياسي في هذه المنطقة. ثم إن ثمّة «ثقافة» تعبئة اجتماعية متجذّرة في هذه البلدان، يلجأ إليها المواطنون للضغط من أجل توسيع إطار الحرّيات العامة والحد من الفوارق الاجتماعية التي تبلغ مستويات قياسية في بلدان المنطقة.
أيضاً، تجدر الإشارة إلى أن هذه الاحتجاجات تتزامن مع تراجع في النمو الاقتصادي وتفاقم الأوضاع المعيشية. وتفيد تقارير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأميركا اللاتينية (سيبال)، بأن النمو الاقتصادي في المنطقة لن يتجاوز 0.2 في المائة عام 2020، مقابل 5.9 في المائة في آسيا، و3.2 في المائة في أفريقيا. كذلك، تفيد التقارير بأنه يعيش أكثر من 10 في المائة من سكّان هذه المنطقة في حال من الفقر المدقع، وهذه النسبة ترتفع باطراد منذ عام 2002، مع إصرار الحكومات، يسارية ويمينية، على تطبيق سياسات اقتصادية تعجز عن توفير فرص عمل إضافية، وتتجاهل ضرورة الحد من الفوارق الاجتماعية الصارخة التي تؤجج الاحتجاجات الشعبية، وتضرب صدقيّة النظم الديمقراطية ومؤسساته.
- دور صندوق النقد الدولي... وأخطاؤه ونجاحاته
> كان صندوق النقد الدولي يفرض شروطه الإقراضية على حكومات دول أميركا اللاتينية، يسارية كانت أو يمينية، لمواجهة الأزمات الاقتصادية الحادة التي كانت تؤدي إلى احتجاجات شعبية واسعة. وفي بعض الحالات إلى أزمات هدّدت الاستقرار السياسي في أكثر من دولة.
ومن الشواهد الأخيرة على ذلك، أزمة تشيلي، التي اندلعت في أعقاب إعلان الحكومة عن حزمة تدابير اقتصادية شملت رفع أسعار خدمات النقل العام، وأزمة الإكوادور التي نشأت عن قرار الحكومة إلغاء الدعم على أسعار المحروقات تلبية لشروط صندوق النقد، الذي انصبّت عليه الشعارات الاحتجاجية، مطالبة «بخروج» الصندوق من الإكوادور. ولقد ذكّر ذلك بأزمات سابقة، كتلك التي عاشتها فنزويلا مطلع تسعينيات القرن الماضي، والأرجنتين عام 2001، ونيكاراغوا في العام الماضي.
من جهته، صندوق النقد الدولي أقر بارتكابه أخطاء في تقديراته، وفي الشروط التي فرضها على بعض الدول الأميركية اللاتينية. ومن أبرز هذه الأخطاء ما حصل إبان الأزمة الأرجنتينية الكبرى مطلع العقد الماضي، عندما اضطرت الأرجنتين إلى إعلان أكبر عجز عن السداد في التاريخ النقدي بقيمة 93 مليار دولار أميركي، ما أدّى إلى أزمة اجتماعية وسياسية ما زالت أصداؤها تتردد إلى اليوم.
أيضاً، اعترفت إدارة الصندوق بأنها أخطأت في تقديراتها حول آفاق النمو الاقتصادي في الأرجنتين، وشروط سداد القرض، والتدابير التي فرضتها على السياسة النقدية، وبأن القرض الذي قدّمه الصندوق للأرجنتين من أجل دعم نظامها النقدي، كان من الأجدى استخدامه لتمويل برامج اجتماعية ومساعدتها على الخروج من هذا النظام الذي لم تعد قادرة على الاستمرار به.
وتفيد دراسة وضعتها دائرة التحليل الاستراتيجي في الصندوق، بأن القروض التي يمنحها «ليست هي أساس المشكلات التي تواجهها البلدان التي تلجأ إلى قروضه»، لكنها تقرّ بأن الصندوق لم يولِ العناية الكافية دائماً لتقويم كميّة ونوع الإصلاحات التي يفرضها. وهو ما أدى في بعض الحالات إلى تهميش فئات واسعة من السكّان، على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، وإضعاف شرعيّة النظم الديمقراطية.
وتذكّر الدراسة بأن صندوق النقد الدولي «لا يتدخّل إلا تجاوباً مع طلبات الحكومات التي عادة ترتكب الأخطاء نفسها، والتي تلجأ إلى صندوق النقد عندما تصل إلى شفير الهاوية، ولا يتبقّى أمامها سوى إعلان عجزها عن دفع رواتب الموظفين، وشلّ حركة الدولة».
ولكن تجدر الإشارة أيضاً إلى أن ثمّة حالات كان تدخّل صندوق النقد الدولي فيها ناجحاً، وساعد على الخروج من أزمات اقتصادية واجتماعية حادة. من هذه الحالات، في أميركا اللاتينية، تحديداً، القرض الذي قدّمه الصندوق بقيمة 30 مليار دولار أميركي للبرازيل في عام 2002، عندما كان هذا البلد غارقاً في القلق يتهيّأ لوصول اليساري «لولا» إلى الرئاسة. وساعد ذلك القرض - في حينه - على منع الانهيار النقدي والاقتصادي خلال المرحلة الأولى من انتقال السلطة، وبخاصة، بعدما اقتنع لولا بضرورة تعديل سياسته الاقتصادية وتحصين النظام النقدي في وجه أسواق المال.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.