عيش وملح

تعجب مصطفى أن تتعلم «لورا» الخبيز سريعاً، في بضعة أيام، وإن لم تُحكم صنعه. وضحكت وهي تبلغه أنها أتقنت أكله، وأحبته ساخناً فور خروجه من الفرن، وألهب كفيْها، ولكن أمه أمسكت الرغيف بهدوء وثقة، ولم تؤذها سخونته، وقطعت لقمة ومضغتها، وقلدتها لورا وكان الرغيف فقد بعضاً من حرارته، وأكلت الخبز الحاف للمرة الأولى، ووجدته لذيذاً. ولم يغب عنها ألا تسمع كلمة «الخبز» من أمّ مصطفى ونسوة يساعدنها. هن يقلن: «نخبز» و«خبيز»، ويضربن المثل «اعطِ العيش لخبازه»، وبعد مرحلة الخبيز يكون اسمه «العيش». وقالت لمصطفى:
ـ أنتم الشعب الوحيد الذي يسمي الخبز باسمه الحقيقي «العيش»، وتقبّلونه بما يشبه الاعتذار، لو رأيتم كسرة منه ملقاة في الطريق، وتحلفون به كما تحلفون بالله وبالنبي محمد.
يسأله «تسو» التبتي:
ـ أسمع ماذا يا سيد مصطفى؟
فيقول إن لورا بعد مشاركتها في الخبيز قادت حملة، افتراضية في مواقع اجتماعية افتراضية وواقعية أيضاً في محيطها الجامعي بالولايات المتحدة، للتوعية بخطر الوجبات السريعة، واكتشفت فيلماً تسجيلياً جميلاً عنوانه «كيف تطبخ حياتك» بطله راهب بوذي أميركي نقل الطبخ، من موقع الضجر إلى مرتبة الفن، فلا تملّ وأنت تنتظر نضج الطعام، وستعرف معنى أن تتنشق تفاصيل حياتك. ويأمل الرجل أن يطهو الناس حياتهم، ويفكروا في روح الطعام. ويدعوهم إلى تحضير الخبز، وأن يصنعوه في بيوتهم، ويبتكروا له أشكالاً:
ـ أول ما اشتريناه معاً فرناً صغيراً في بيتنا في ميشيجان! صاحبك الراهب البوذي ملهم.
ـ ملامسة روح الأشياء بالمعايشة هي تجربة أكثر عمقاً من الصور والأفلام. ولهذا تكون أمك أكثر إلهاماً يا سيدي.
ـ الملامسة! يا الله. لعل صاحبك البوذي خجل من تفسير سريان السحر الغامض حين تقبض اليد قطعة عجين، وتحنو عليها، وتبتهج بها وتكورها، وتصنع صدراً يشتهيه صاحب اليد.
لم يفطن مصطفى إلى دلالة قطعة العجين في الكف، إلا من قول لورا إنها فرحت باللعبة، وصنعت من العجين عرائس وطيوراً وثلاثة أهرام ملتصقة أضحكت النساء. ولم تجرؤ على أن تقول لأمه كلمة تنال من هيبة تاسوع «المحشي»، بأرديته متفاوتة البذاخة والصلابة والنعومة: من ورق العنب والخسّ واللّفْت والسّلْق والكرنب والكَبَر، ومن الباذنجان والكوسة والفلفل. ثم أتقنت لورا تقوير الباذنجان والكوسة بعد محاولات جرحت حساسية القرع. وكادت تقول لأمه إن هذا المحشي الحرّيف، الذي تجهد نفسها في أعداد خلطته، يهان في الفنادق والمطاعم الكبرى بتقديمه مع المقبلات. وضحكت قالت لمصطفى إن لتقوير الخضراوات المصمتة فلسفة خاصة بتفريغها من محتواها المائع، وحشوها بما نشاء، بما كنا نودّ أن تكونه.
أعجبه انسجام لورا مع الأسرة، ولم يعرف سبباً مقنعاً لاعتراض أمه على الزواج، إذا كانت قد أحبت لورا.
هو أيضاً يحب لورا، ولا يطمئن إلى نجاح التجربة، وليس لعقله دور في تدبر مستقبلهما معاً، ولم يناقشها إلا في أمر محدد:
ـ لكل منا تجربة، للأسف فاشلة. أنت فزت من تجربتك بابن، وأنا خرجت بدرس ألا أكرر التجربة.
احتوته بنظرات صامتة متفائلة:
ـ ثُم؟
ـ أعرف من دراستي القديمة للرياضيات، وتعرفين من عامك الوحيد في كلية العلوم حاصل جمع صفرين، وحاصل ضربهما كذلك.
ـ ثم ماذا؟
ـ أخاف تكرار الفشل، وانكسار القلب مرة ثانية.
ـ ثم ماذا يا عزيزي؟
ـ خلاص، أنهيت كلامي.
ـ تخاف فشل زواجك؟ موافقة على أن أنصرف الآن، من حياتك ومن البيت إلى المطار. لا تنتظر أن أتسوّلك.
تحجرت دموع في عينيها المنكسرتين المتحديتين في كبرياء. وأيقن أنها جادة، لا تهدد ولا تتوسل، وإذا كسر قلبها فلن يفلح في ترميمه. وسألته:
ـ حسناً، ترفض الزواج؟
ـ لم أذكر كلمة «الرفض».
ـ تتردد، فماذا أكون الآن، وقبل الآن؟ أشعر بك وأعاملك زوجاً، فكيف تراني؟ قلها، انطق أي صفة وأنا أستحقها. ربما افتكرت أنني بلا ثمن؛ لأني أجنبية.
ـ أناقش ولا أتهم.
ـ باختصار، ما دمت تستطيع الحياة من دوني فاعلم أنني عبء عليك. وأعفيك من أي شيء، وأستطيع جمع أغراضي في دقائق وأذهب. لن أكلفك حتى أن تودعني، أعرف طريق المطار.
ـ أعرف أنك تعرفين الطريق.
ـ لن أخرج من مصر بشيء، حتى حقيبة ملابسي أستغني عنها، وأذهب إلى المطار خفيفة.
رآها امرأة غريبة عنه. في لحظة تم نسيان مقدمات حافلة بالمجاملات، ونسف جسور صداقة توّجت بعلاقة حميمة. فهل يبدأ من الصفر؟ من رميه الطاولة بزهر النرد الافتراضي، حاملا حرفي Hi»»، وقد اكتسبت لورا مناعة تحول دون الرد بكلمة «أهلاً». كانت البداية لهواً، سعياً إلى الاكتشاف، فكيف تكون البداية بعد هذا الرصيد من حذر ونقاش ومحاورات ودعابات ومشاعر صادقة وآمال معرّضة، لأن يغلق عليها باب لن يملك له مفتاحاً؟
عثر على ما يشبه المقدمة، في ثوب دعابة:
ـ حتى من دون الحقيبة، عندك شيء زائد.
ـ ما الذي زاد عليّ؟
ـ شعرك، شعرك طال.
ـ أتيت وهو «آلا جرسون»، وطال قليلاً، وأصبح أقصر من «كاريه».
ـ يعجبني شعرك في كل الأحوال، ويبدو أنه لا يعجب أمي.
شرعت في ابتسامة لم تكتمل:
ـ أمك تريد تضفيره، أجلستني مرة في حجرها وحاولت، ونصحتني بإطالته.
ـ فكرة. هل يرضيك أن تخذلي أمي بألا ترى شعرك المضفور؟
لمس شعرها بأطراف أصابعه:
ـ لو طال شعرك، فسوف تكون لي معه تجربة مجنونة.
ـ أي تجربة؟
ـ قلت «لو»، وأنت نويت السفر، مع السلامة.
قالها وهو يمد يده بالمصافحة، ولا يكبح الضحك، فعانقته. شبّت على قدميها؛ لكي تتمكن من التعلّق به، لتضرب ظهره بيديها.
ـ مجنون، وحياة «العيش» أنت مجنون.
تفاءل بذكر اسمه:
ـ أرأيت؟ لا يمكن الرجوع إلا بعد إتقان القسَم المصري. نحن نحلف بالعيش والملح، لا بحياة «العيش».
ـ كم يلزمني هنا لإجادة الدلالات المصرية؟
ـ يلزمك أن نتزوج، الليلة يا لورا.

- كاتب مصري، والمنشور فصل من رواية {المايسترو} قيد النشر