يبرز الروائي الناقد الليبي أحمد الفيتوري بين جيل من الكتاب الليبيين سعى ليحتل مكانته الإبداعية في زمن ساده التعسف ومصادرة الحريات، وأودى به وعدد من رفاقه وهم في مطلع شبابهم إلى المكوث في السجن لأكثر من عشر سنوات في عهد القذافي. ورغم هذا، قدم الفيتوري أكثر من ثلاثة عشر كتاباً متنوعاً في مجالات الإبداع، إضافة لكتابات تؤرخ لشخصيات ليبية مؤثرة، مسلطاً الضوء على مسيرتها الإبداعية والنضالية. حول هذه المسيرة، وقضايا الواقع الثقافي الليبي الراهن... هنا حوار معه:
> يقف الطفل والأب والجدة وبنغازي بتفاصيلها الجغرافية ومنطقة الصابري علامات أساسية في أعمالك الروائية. ماذا يعني أنك تمتح من ذكرياتك ومخزون خبرتك وتاريخك العائلي؟ وكيف يمكن أن يحول الكاتب مثل هذه الخبرات إلى عمل روائي دون أن ينزلق في كتابة ذاتية تبعده عن أجواء الإبداع الروائي؟
- منذ نظرية المثل الأفلاطونية، والمحاكاة الأرسطية، والعود الأبدي لنيتشه، حتى البئر الأوليّ عند فرويد، كلها تعيد إلى ما قبل الأحلام وعلاقتها بالذاكرة؛ الكل يشير إلى أن الفن، حتى وهو يلج المستقبل، يتذكر. لكن حتى الآن، ليس ثمة توكيد قاطع عن ماهية الفن، وعن مصادره، لكن القطعي أن الفنان المبدع لا يُنظر ولا ينطلق من نظرية ما، فالمبدع فطري بمعني ما، حتى لو شرب كل الفلسفات، وأكل كل العلوم، واشتهى ما تبقى.
من الناحية الشخصية السيروية، عقلي ناقد، ولم أستهدف الكتابة الفنية، فقد كنت ولعاً بالمبدع العالم. فالعلوم البحتة أيضاً منطلقها ولع ذاتي، لكن كنت أيضاً ابن جدتي، منطلقاً من أن الحياة سرد، وأن كل جملة ننطقها أو ندونها سرد بشكل ما، وأن الشعر كامن فينا بالضرورة، فالعالم غامض، والكون معتم رغم نجومه، والحياة سر. إن الذاكرة، كما الكتب والأحداث والقصص والتاريخ، كل يشكل السارد، ويمتح من البئر الأولى للتجربة. وينعكس هذا حتى في الكتابة المستقبلية، كالخيال العلمي، لكن المهم أن تكون خيوط العرائس في يد اللاعب، والكتابة كلعبة لها قوانينها الخاصة بكل لعبة مفردة، رغم كل النظريات الجاهزة، مما يعني أن لكل نص ذاكرة خاصة يمتح منها وينحتها. وهنا، أتذكر أنني كتبتُ ذات مرة جملة: «تتكئ جدتي وتحكي لي»، فكانت رواية «سريب». وفي أخرى، فكرت أن الأب شخصية مظلومة، فكانت رواية «ألف داحس وليلة غبراء». وفي أخرى، التقيت فتاة وحيدة، وكنت مريضاً، فكانت «بيض النساء». وأحببت امرأة، فأردت أن أكتب لها رسائل، فكانت شعراً، وكان ديوان «قصيدة حب متأبية».
> ثمة منحى أسطوري في روايتك «سريب» يتغلغل في المتن، وينساب أمام عين الراوي أو السارد الطفل... لماذا اللجوء إلى الأسطورة وأنت تكتب عن طفولتك؟
- الطفل يمثل البئر الأولى، والأسطورة تمثل الخيال، وثمة ترادف بينهما ليس إلا. لاحظ أن السارد قد يكون الراوي العليم أو الكاتب، لكن لنفترض أنه الطفل: الطفل حافظة طازجة، وأحياناً ميكانيكية، وفي غيرها خيالية، وحتى متطرفة؛ أي ذاكرة بكر... أذكر أن مخرجاً سينمائياً كبيراً، كان بطل فيلمه طفلاً، سئل كيف اختار هذا الممثل البارع، فأجاب دون تفكير: لكنه ليس ممثلاً، فالطفل لا يمثل. ومن ثم، حينما كتبت «سريب»، لم أنشغل بالعقل المشغول بالسببية، فكون الشخصية الرئيسة طفلاً كاف لانزياح السببية، فالمبرر الدرامي والمنطق يؤكدان أن الطفولة النبع لكل مبرر، لكل سياق، وأيضاً لكل خروج عن السياق. لذلك، الطفل في رحلته، ثم ولوجه معبد زيوس، في مدينة شحات (قورينا) الليبية، يلج الأسطورة كخيال سارح دون أي قيود، فالأسطورة تلخص طفولة البشر، وما أكثر الأسئلة الطفولية الكبرى التي تفاجئنا، ولا جواب عندنا.
> في «سريب»، كما في «ألف داحس وليلة غبراء»، تسيطر لغة شاعرة على أنساق الحكي، وتمتد إلى الأحداث، وتعطيها مذاقاً مختلفاً... هل كنت تريد إذن «أسطرة» الواقع من خلال هذه الاستراتيجية في الكتابة؟
- لكل نص استراتيجيته، لكن هناك أيضاً استراتيجية تخص الكاتب، وتجعل منه كاتباً له خصوصية مميزة. فمثلاً، عندي الكتابة النوعية كتابة شعرية في كل حال، فالشعرية من لزوم ما يلزم في الفن عموماً. ولذا، لو ميزنا نصاً نثرياً بالشعرية، فنحن في عين الصواب. ولعل قصيدة النثر، كمصطلح التباسي، تبين أن المسافة بين الشعر والنثر ضيقة، حتى أنها تُرى من خرم الإبرة. ومن هذا الالتباس الجميل أن الشعر يمثل التحسس العالي للغامض، فالأسطوري حيث تكمن الحياة البشرية، لذا الواقع الذي نرى في النص ينزاح عن المعيش، فكأن النصوص أساطير لا يألو ينتجها الكتاب. وأريد أن أنوه بأن جدات الحكايات مؤلفات أساطير تنزاح عند كل رَاوية، وفي كل رِواية، وهذا كان النبع الذي سقى مخيالي.
> كيف تدفع هذه اللغة الأحداث، بحيث يظل القارئ مرتبطاً بالعمل الروائي لا يفقد خيوطه حتى النهاية؟
- من الصعب الإجابة عن سؤال كهذا، لكن حيث الأسئلة تضعنا في ورشة حول تكنيك النص الإبداعي، فلنحاول التماس مع المسألة. في عصف ذهني، هناك نظريات أدبية متعددة عالجت مسألة تشابك علائق النص باللغة، لكنها في الأخير تبقي نظريات، مهما درسها الدارس فإنه ساعة يدخل من باب الكتابة يخرج من بابها. ففي المسألة تعقيد يخص النص، ما يفترض أنه نص مُخالف. في «سريب»، السارد الطفل والجدة، والمشترك بينهما لغة الحكاية، الخرافة والأساطير، لو أمسك الكاتب بالخيط الواهن هذا، يجعل المتلقي في حال المتلقي للشفهي؛ أي يفترض أن اللغة في حال كهذه قريبة للمشافهة، فيكون الكاتب كما الحكواتي الملزم بلغة سلسة، فيها خفة لا تحتمل، ونقلات مفاجئة غير مبررة لكن محتملة. في هذه الحال، يكون معين الكاتب صيغاً لغوية دارجة، وعلاقة واضحة بالتراث الشعبي وصوره وتراكيبه. ولعلّ هذا يبين أن النص هو الحكم، وأن الكاتب هو المدرك لذلك، العارف بأن لكل قارئ قراءة.
> هناك ميل لديك لكتابة تستند إلى «أنسنة» الأشياء، وهي في الغالب ذات منحى شعري أكثر منها روائي، ما يشير إلى أن الفيتوري الروائي بدا متخفياً وراء الشاعر... كيف ترى ذلك؟
- أنسنة الأشياء علامات بارزة وقارة في تراثنا الحضاري والإنساني، ولها دلالات ورموز محددة. وكسارد، تلبسني روح الطفل، فلا أجد مسافة بين الحائط والباب والنافذة، فعندي مفتاح استعارتهُ جدتي من ألف ليلة وليلة، ودستهُ في تلافيف دماغي وحشايا قلبي: «افتح يا سمسم». هذا المفتاح ليس من الشعر في شيء، وليس من النثر في شيء؛ إنه من البرزخ، ما بينهما يعكس السر المدفون في الفن، وهو صنو الدين وسر الحياة. قد لا ندرك ذلك بشكل مباشر، لكنه ما يحثنا على خلق أساطيرنا، وما يجعل كل ما تمسه يد البشر بشرياً.
> في كتابتك الروائية كثيراً ما تلجأ إلى تقنية الحلم أو النوم، أو الحالات الصوفية، لتمرر ما تريد أن تسربه من تفاصيل وأحداث تتجاوز الواقع، وهي مرتبطة غالباً باستراتيجيات تجاوزها ماركيز وباتريك زوسكند وهيرمان هيسه، وغيرهم ممن كتبوا أعمالاً تمزج الواقع بالأسطورة... هل تعتقد أن مثل هذه التقنيات يمكن أن تكون صالحة للقيام بدور في الكتابة السردية؟
- الكتابة السردية حياتنا، مسرودنا الحي، أي الحلم والنوم والتصوف معاً، والنص يستدعي هذا من الحياة، فيكون أكثر واقعية من الواقع، لذا احتج ماركيز على حشره في واقعية سحرية، مؤكداً أن سردياته واقعية، وأن السحر كامن في الواقع، وليس مضافاً إليه. لذا، لا أتصور أن كتابة سردية لديها مبرر لإزاحة ما في الحياة، إذا ما استدعى ذلك النص، وهذا عند السارد يبدو من لزوم ما يلزم، فاستخدام التقنية اللازمة للنص، والتفاصيل التي تحوك قماشته، تتيح للسارد اللاعب أحياناً حرية الحركة، حتى يبدو خارج السياق، فتفصيلة ما قد تبدو نصاً مفارقاً.
> لك كثير من المساهمات النقدية في تقديم الشعر والشعراء، أبرزها كتابك «قصيدة الجنود»، كما لك مساهمات بارزة في مجال الكتابة عن الشخصيات في كتابك «بورتريهات» و«نوري الكيخيا المناضل الباهي الليبي»، قدمت من خلالها كتاباً وفنانين وشعراء ومترجمين، من ليبيا وغيرها... كيف ترى هذا النوع من الكتابة بين إبداعاتك الروائية والشعرية؟
- الكتابة كتابة، نحن نقرأ مأدبة أفلاطون، ورسالة الغفران، كما نقرأ الهايكو الياباني، وشعر الهنود الحمر، والأساطير الأفريقية، وملحمة جلجامش؛ أي بمتعة النصوص الإبداعية. ومن هذا، أنا أكتب بمتعة أي كتابة أمارس، حتى أني بالحالة نفسها أقرأ وأكتب مقالات سياسية. وكثير من السير عمل إبداعي. ألم يحصل تشرشل على جائزة نوبل للآداب؟ وفي كتابي «بورتريهات»، أردت أن أفسح للنص النثري مساحة يستحقها، فالنثر إبداع غُيب في مغارة «ديوان الشعر»؛ ديوان النثر في أسفل أرفف المكتبة. كتابة يوسف القويري وصادق النيهوم كتابة نثرية طازجة سلسة عبقة بفن كما خمر معتق. وأما ما يخص الكتابة حول شخصيات روحها تشع بالحياة، فهذا يتم في قصائد، قد تتكثف فتغطي تفاصيل ونمنمات تعكس تضاريس بشرية قابلة للقراءة دائماً بروح جديدة.
> بوصفك ناقداً أيضاً، كيف يعمل وعي الناقد لديك وأنت تكتب إبداعاتك الروائية والشعرية؟ أم أنك تكتب في غيبة منه حتى تنتهي، ثم تعود إليه في مراحل متأخرة؟
- برأيي، كل نص إبداعي نص نقدي، فالمبدع يمارس النقد في أثناء كتابة النص، عند الدرجة الصفر للكتابة وفيما بعد، وعند كل قراءة. كما أن الناقد يتماهى وإبداعية النص، حتى يمكن القول إنه يصير المبدع نفسه. ولتعليل ذلكم بمثل توضيحي، هل نظرت فيما بين الشاعر إليوت والناقد إليوت، أو جبرا لإبراهيم جبرا؟ وأبو العلاء المعري ورسالة الغفران، أليست منزلة بين منزلتين: الإبداع والنقد؟ من هذا وبهذا أسترشد، أو بالأصح يعي اللاوعي.
> كيف ترى المشهد الإبداعي الروائي والشعري في ليبيا ما بعد القذافي؟ وما أبرز ملامحه وتجلياته في ما نتج من كتابات؟
- الكتابة ما بعد الربيع العربي تجلت في أسماء شباب جلهم من النساء. وفي كتاب أشرف على إعداده الشاعر الليبي الأميركي خالد مطاوع، كأنطولوجيا لكُتاب ما بعد ثورة فبراير (شباط)، وقدمتهُ بدراسة مطولة، كان مما قلته فيها: الكتابات، الشعرية والنثرية والسردية، ثمة عنوان لها يختزل كثيراً من موضوعاتها، واستعيره من عنوان إحداها «على أرضي حرب، في قلبي حب». واللغة التهكمية الساخرة تتناول الموت كما الحياة في جرأة تحطم التابو في اللغة والموضوع، وجل هذه الكتابات السردية موضوعها البلاد الليبية، باستثناء قصة واحدة تتناول حدثاً مهجرياً. وتبين القصص والنصوص أن جيل الكتاب، خصوصاً الشباب، عاشوا تجربة السفر الطويل والمهجر، وهذا ملمح جديد في الإبداع الليبي، لأن الكتاب الليبيين جلهم فيما سبق عاشوا في البلاد، ومن خرج منهم كان في عمر متقدم.
إن التنوع اللافت في هذه الكتابات أنها حققت توازناً بين الشعر والسرد من جهة، كما جمعت بين مُعالجات مختلفة، وليست متباينة، فالنفس واحد في جل الكتابات، وروح التوتر، والعلاقة المضطربة مع اللغة، ومع الواقع، تسم هذه الكتابة التي تنثر الشعرية، وتلعب على إيقاع السردية الشعرية، دون الاكتراث بالتجنيس والفروق بين السردية والشعرية، أو بين الشعر والنثر، حيث أصبحت تتجاور في النص الواحد بنباهة وإصرار.
ومن ثم، فالكتابات الشعرية والسردية لم تعكس الواقع، بل قدمت واقعاً فنياً شائكاً مرتبكاً، ومنها كتابات فنتازيا واقعية لا تشطح في الخيال، لكن الزاوية الملتقطة فنتازيا في الواقع، تنبئ بأن الواقع أمست شطحاته أكثر غرائبية من خيال الكتاب. هذه الكتابات السردية والشعرية تتميز عن الكتابة الليبية السابقة بأنها كُتبت في زمن الثورة، والحرب الأهلية الناتجة عنها، وهي حرب مدن وشوارع، وقودها جيل الكتاب، من أخوتهم وجيرانهم وزملائهم وأصدقائهم وأحبتهم، لذا تهجس بالفجيعة في وقت القتل المجاني والصدفة والعبث.
أحمد الفيتوري... الثقافة الليبية ما بعد الثورة مشهد متوتر... لغة وواقعاً
صاحب «ألف داحس وليلة غبراء» و13 كتاباً متنوعاً
أحمد الفيتوري... الثقافة الليبية ما بعد الثورة مشهد متوتر... لغة وواقعاً
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة