يتداول العراقيون مصطلحا غريبا هو «الجيش الفضائي» أو «جندي فضائي»، وعندما تسأل ببغداد عن سبب انكسارات الجيش العراقي أمام زحف «داعش» سواء في محافظة نينوى أو صلاح الدين، التي راح ضحيتها الآلاف من أفراد القوات المسلحة، وفي مقدمتهم ضحايا قاعدة سبايكر القريبة من مدينة تكريت (شمال بغداد)، ومن المدنيين الذين نزحوا من بلداتهم وخصوصا الأيزيديين والمسيحيين، فإن الرد المباشر سيأتي سريعا: «هذا بسبب الجيش الفضائي».
«الشرق الأوسط» بحثت في خفايا وأصل هذا المصلح الذي بات يتداول بشكل شبه رسمي، فهذه التسمية ليست دلالة عن جيش أو جنود غزاة من الفضاء الخارجي، أو إشارة إلى فيلم سينمائي من الخيال العلمي بقدر ما هو تعريف دقيق لجنود غير موجودين على أرض الواقع لكنهم مسجلون في سجلات الجيش ومخصصة لهم الرواتب والامتيازات من وزارة الدفاع من غير أن يتقاضوها.
وليس مستغربا أن تسمع هذا المصطلح «الجيش الفضائي» من سائق سيارة أجرة أو حلاق أو صاحب مقهى، لكنه سيكون من الغريب أن تسمعه من ضابط في الجيش العراقي وهو يحلل «أسباب انكسار الجيش، ليس في الموصل وصلاح الدين فحسب، بل في مناطق أخرى من العراق»، مشيرا إلى أن «الجيش الفضائي يأتي في مقدمة العوامل التي أدت إلى انكسار قواتنا المسلحة».
القصة بدأت عندما بادرنا بسؤال ليث جاسم، سائق تاكسي، فيما إذا كانت قيادة سيارة الأجرة مهنته الرئيسة أم أنها ثانوية من أجل زيادة دخله، فأجاب على الفور بأنه «جندي في الجيش الفضائي، ويعمل سائق تاكسي لزيادة دخله»، مستدركا بإيضاحه بأن «الجيش الفضائي هو جيش غير موجود على أرض الواقع، بل مجرد أسماء وأرقام في سجلات وزارة الدفاع»، مشيرا إلى أن «هناك نوعين من الجنود في هذا الجيش الوهمي، الأول متطوعون في القوات المسلحة ولا يلتحقون بوحداتهم مقابل أن يتقاضوا جزءا من رواتبهم ومخصصاتهم والجزء الباقي، وهو الأكثر، يتقاضاه الضابط آمر الوحدة العسكرية الذي بدوره يتقاسم هذه الرواتب مع من هو أعلى رتبة منه، أما النوع الآخر فهم الجنود غير الموجودين أصلا ولكنّ أسماءهم مثبتة في سجلات رسمية ويتقاضى الضباط رواتبهم ومخصصاتهم».
وعندما سألناه عن سبب عدم التحاقه بوحدته العسكرية مقابل أن يتقاضى كامل راتبه ومخصصاته، أجاب جاسم قائلا: «أنا عريف في الجيش العراقي وراتبي ومخصصاتي مجزية، لكن وحدتي الآن قرب مدينة الرمادي، و(داعش) يهدد بالهجوم على المدينة، وهذا يعني إما أن نقع أسرى في أيديهم وإما أن نترك مواقعنا مثلما حدث في الموصل، وإما سيكون مصيري القتل مثلما حدث للمساكين في قاعدة سبايكر، زيادة على ذلك إن تغذية الجنود وتسليحهم فقير للغاية»، مضيفا: «لهذا أفضل البقاء في بغداد مع عائلتي مقابل جزء من راتبي، وأعمل سائق تاكسي في سيارتي».
«الشرق الأوسط» حاولت الوصول إلى أحد قيادات الجيش العراقي أو مسؤولين في وزارة الدفاع للتحقق من مصداقية ما يقال عما يسمى بـ«الجيش الفضائي»، لكن الأمر بدا صعبا للغاية، «فذلك يتطلب الحصول على موافقة من الناطق الرسمي باسم القيادة العامة للقوات المسلحة قاسم عطا»، حسبما أرشدنا أحد الضباط. وأضاف مستدركا: «حتى تتصل بالناطق الرسمي يجب أن يعرف رقم هاتفك ويعرفك مقدما وإلا فإنه لن يجيب على أي اتصال»، وهذا الأسلوب يعتمده أغلب المسؤولين العراقيين حتى من الدرجة السادسة ويعاني منه غالبية الإعلاميين العراقيين وغير العراقيين.
لكنّ ضابطا برتبة رائد في الجيش العراقي أكد وجود ما يسمى بـ«الجيش الفضائي»، مشيرا إلى أن «هذا الجيش يدر أموالا كثيرة على بعض آمري وقادة الوحدات العسكرية».
وقال الرائد إسماعيل عبد القادر، وهو مهندس أنظمة حاسوب في إحدى مديريات وزارة الدفاع، إنه «من الصعب التحقق من حقيقة أعداد الجنود في الوحدات الميدانية، فنحن مثلا ندقق في القوائم التي تصل إلينا من التعبئة والإحصاء وبأسماء المتطوعين للجيش ونطابقها مع الوثائق التي تأتينا من الوحدات العسكرية»، منبها إلى أن «حقيقة وجود هذه الأعداد من الجنود أم لا هي مسؤولية الضباط الموجودين في الميدان والمعسكرات، وهؤلاء بإمكانهم أن يتلاعبوا بالأرقام، خصوصا في ظل غياب الرقابة والضبط العسكري الذي كان سائدا في الجيش العراقي السابق».
وأضاف عبد القادر قائلا: «هناك معلومات أكدها أعضاء في البرلمان العراقي كما أثبتتها الوقائع بأن الكثير من الضباط الذين يحملون رتبا عالية يشترون المواقع من القادة، ولكل موقع أو منصب ثمن، مثلا آمر فوج أو آمر لواء، وهم يعتقدون أن الأموال التي يدفعونها لقاء هذا الموقع أو ذاك مثل الاستثمار ستعود عليهم بالأرباح، وهذا ما يحدث بالفعل»، مشيرا إلى «أننا والكثير من ضباط الجيش العراقي الحريصين على سمعة قواتنا المسلحة نبهنا إلى هذه الظاهرة الخطيرة، وكتبنا تقارير إلى المسؤولين لكن الأمور لم تتغير ولن تتغير ما دام هناك فساد كبير في الدولة».
وكشف عبد القادر قائلا: «تلقيت قبل أقل من سنة معلومات مضبوطة من أحد الضباط في وحدة عسكرية في نينوى بأن هناك 1520 اسما لجنود وعرفاء هم غير موجودين، وكتب لي الضابط بصورة سرية تحت عنوان (الجيش الفضائي) ذاكرا رواتب ومخصصات هؤلاء الجنود الفضائيين التي يتقاسمها كبار الضباط، وأحلت المعلومات إلى كبار المسؤولين في وزارة الدفاع ولم يحدث أي شيء». وتساءل قائلا: «إذا كان هذا العدد في موقع عسكري واحد فكيف إذا جمعنا بقية الأرقام؟ لكن من الصعب علينا بالفعل معرفة الأرقام الحقيقية».
وفي غضون ذلك، أكد النقيب هيوا بكر، وهو ضابط كردي كان ضمن عمليات صلاح الدين، وموقع وحدته العسكرية كان في منطقة القصور الرئاسية في تكريت (قصور الرئيس العراقي الراحل صدام حسين)، لـ«الشرق الأوسط» أن «آمر اللواء الذي كنت أخدم فيه نقلني لأنني كنت أعترض على غياب العشرات من الجنود، وكلما سألت عن هؤلاء يجيبني رأس عرفاء الوحدة قائلا: (هؤلاء جنود فضائيون سيدي)». ويشير هذا الضابط الشاب الذي التقيناه في مدينة السليمانية بإقليم كردستان إلى أن «هناك تواطؤا في موضوع غياب المئات من عناصر الجيش العراقي أو عدم وجودهم أصلا واستفادة كبار الضباط من رواتبهم ومخصصاتهم»، وقال إن «على الحكومة العراقية الجديدة، وخصوصا وزارة الدفاع، أن تنتبه إلى هذا الأمر لأنه ينخر جسد الجيش العراقي».
وأضاف بكر قائلا: «إن عدم الانضباط في الجيش العراقي الحالي وسيادة التمييز الطائفي وشيوع الفساد بشكل كبير هو ما أدى إلى انكسار قواتنا المسلحة وإلحاق الكوارث بالبلد، فأنا مثلا جرى نقلي إلى وحدة عسكرية في محافظة ذي قار جنوب العراق، والتحقت بها لكني فوجئت بأن آمر اللواء لا يرغب بوجودي هناك، وقال لي: (اذهب وارتَح في بيتكم وعندما نحتاج إليك سنتصل بك)، وقد استغربت من هذا الأمر، وعندما قدمت شكوى للمسؤولين في وزارة الدفاع قالوا لي: (سننظر في الأمر)، ومنذ ذلك الحين وأنا أمضي إجازة مفتوحة وأتسلم رواتبي ومخصصاتي المالية».
وحول حقيقة شراء بعض كبار الضباط للمناصب العسكرية، أوضح بكر: «ولماذا الاستغراب؟ فهناك من يشتري وزارات في الحكومة وبملايين الدولارات، وهذا يحصل أيضا في الجيش، والمسؤولون يعرفون ذلك».
«الجيش الفضائي» مصطلح عراقي عن جنود غير موجودين في الواقع
ضابط في القوات المسلحة: نبهنا وزارة الدفاع إلى خطورة الظاهرة ولم تهتم
عناصر من ميليشيا شيعية تقاتل {داعش} في ديالى (رويترز)
«الجيش الفضائي» مصطلح عراقي عن جنود غير موجودين في الواقع
عناصر من ميليشيا شيعية تقاتل {داعش} في ديالى (رويترز)
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة






