الواقعية كمنصة لانشطارات الرواية

لم تكن يوماً لبوساً أدبياً مقنعاً لأي كاتب يتوق للتحرر

الواقعية كمنصة لانشطارات الرواية
TT

الواقعية كمنصة لانشطارات الرواية

الواقعية كمنصة لانشطارات الرواية

عندما قال إدموند دي غونكور، الذي التصق اسمه بجائزة أدبية كبرى معنية بالرواية، «إنها جنس مستهلك، ومستنفد، قال كل ما عنده»، فهو إنما كان يعلن نهاية الرواية كمقولة سيتم ترديدها حتى اللحظة الراهنة، إذ لم يغب السؤال الملح حول مرجعية الواقع طوال تاريخها. وبالتأكيد هو يعلنها من منظوره الخاص، أي كما كتبها ضمن شروطها الواقعية التي كانت سائدة ومهيمنة في عصره. الأمر الذي يعني أن الرواية كجنس إبداعي نهم، تتغذى على مجمل الأجناس والخطابات الأدبية، وتسترفد طاقتها المتجددة من التحولات المادية على أرض الواقع، لم تكن في حسبانه. إذ لم يكن يتصور بوعيه الروائي آنذاك أن الرواية ستتشظى وتتطور بالشكل الذي تبدو عليه اليوم، لتتلبس وصف ملحمة العصور الحديثة. والأهم أنها ستغادر منزع الواقعية بمعناه السكوني القار.
الواقعية ذاتها لم تكن لبوساً أدبياً مقنعاً لأي كاتب يتوق للتحرر من صلابة مفهوم الواقع، ويحلم بإعادة اختراع أناه في أفق كتابي أكثر رحابة وحرية، سواء في الحقل الروائي أو غيره من الحقول الإبداعية. ولذلك قال أندريه بريتون، وهو أحد رواد السريالية، «يبدو لي أن الموقف الواقعي هو عدو لكل تقدم فكري. إني أكرهه لأنه مصنوع من الاعتدال والحقد والاكتفاء المسفّ». وذلك هو بالتحديد ما وضع الرواية في مأزق هوية منذ بواكيرها، بالنسبة للكُتّاب الذين لا يتخيلونها إلا فضاء للواقعية الاجتماعية. على اعتبار أنها مرآة شبه ناسخة للواقع الاجتماعي. وهو ما يعني أن ذلك الاصطلاح النافي لكل ما هو غير اجتماعي وواقعي يشكل قيداً للفعل الروائي.
الرواية هي توأم الحداثة. إذ لا يمكن التماس مع الرواية إلا بموجب ذلك التلازم البنيوي. ومن هذا المنطلق يمكن فهم سر التبرُّم الدائم من ضغط الواقعي والاجتماعي، ففي الوقت الذي كانت فيه الرواية الفرنسية الجديدة توجه أقوى صفعة للواقعية برواية متطرفة في تعاملها مع الواقع، إذ تقتل الحبكة وتأكل الشخصية نفسها، بوغت العالم بواقعية أميركا اللاتينية السحرية. وهكذا يبدو التمرد على الواقع هو المنطلق الذي جعل الرواية فضاءً مفتوحاً للتطوير المتواصل في مزدوجة الشكل والمضمون، مع الإبقاء على أصالتها كجنس أدبي، إذ خرجت من منشأها الأوروبي، على اعتبار أنها اختراع غربي مركزي، بتصور ميلان كونديرا، إلى جغرافيات تغطي كل بقاع العالم.
ومن تلك البؤرة العنيدة ظهرت الرواية المهاجرة، على إيقاع العولمة الثقافية، ورواية الأقليات النابتة من خاصرة ثقافة التنوع والتعدد والتشظي. بمعنى أن الرواية تحولت إلى مكتسب إنساني بعد عمليات تهجين وتحكيك وتكييف مع مجمل التراث الأدبي العالمي. بمعنى أنها اليوم أحد مفاتيح الوعي البشري، بما تختزنه من معارف وعلوم وخبرات إنسانية وأحداث تاريخية. حيث يمكن التعرّف على واقع أي مجتمع من خلال سردياته التي تعكس مجمل خبراته المادية واللامادية.
إن التمظهرات التي بدت عليها الرواية في تجلياتها الرومانسية والبوليسية والسيرية والواقعية والفلسفية والغرائبية والفروسية والتجريبية والتسجيلية، وبمختلف أرديتها الشكلية من الحوارية والرسائلية والبوحية والمسرحية والديستوبية والتجريبية والتركيبية، هي مجرد أطوار لنمو بايولوجي صريح لجنس الرواية، بكل ما تحتمله من أداءات سريالية أو شعرية أو مونولوجية أو ريبورتاجية أو سيرية ضمن ما يُعرف بمحكي الذات، أو على قاعدة تيار الوعي. وبالتالي فهي مراوحات للانفكاك من شروط الواقع الساطية. بمعنى أنها ذاكرة علمية ومعرفية وعاطفية ووجدانية لأي جغرافيا بشرية، وليست مجرد سجل اجتماعي راسب في الواقعية. لأن الرواية، وبمقتضى ديناميتها، لا تستطيع الانغلاق على ذاتها كخطاب أدبي، وتنأى عن مهبات العولمة، بما تزخر به من نزعات عقلانية وثقافات مدنية ومخترعات علمية وتطورات تقنية. وهذ هو ما يفسر استجابتها للغة وضرورات السوق من ناحية، واندماجها مع مستوجبات اللعبة العالمية الجديدة التي تجيد توظيف كل الخطابات والمنتجات في سياق الحرب الناعمة. وهو ما يعني أنها - أي الرواية - باتت جزءاً من تلك الحركة المعولمة.
الرواية عمل تخيلي في المقام الأول، والخيال البشري لا يمكن اختصاره في ذلك الهيام الرومانسي المتعلق بتجسد العلاقات العاطفية بين البشر. بل هو حالة من التماس مع المعرفي والتقني والرقمي الذي فرضته مستوجبات الحداثة وما بعدها. ولذلك تبدو الرواية اليوم متورطة في هذا النوع من الخيال الفارط في الاتكاء على العلم. إذ تتأتى اللذة الروائية من حبكات ذهنية لا حسّية، ومن اشتغال الفكر في مدار الذكاء الاصطناعي الذي يحضر بقوة في روايات الخيال العلمي؛ حيث تستحيل الرواية إلى لعبة ذهنية تتجسد في الألعاب الإلكترونية و«الفيديو جيمز» والأفلام السينمائية التي تتغذى على المنجز الروائي المعني بتحقيق هذا النصاب الأدبي ضمن علاقة براغماتية صريحة، بعد أن كانت السينما محلاً لتصريف العواطف الماثلة في الروايات العاطفية والاجتماعية.
وفي ظل موت الآيدلوجيات، وانهيار الأحلام القومية، وانحسار الإمبراطوريات الثقافية، تخففت الرواية من كل ذلك العتاد النضالي الذي استحوذ على مساحة هائلة من المنجز الروائي العالمي لصالح الفردانية المتأتية من الليبرالية، التي صارت بالفعل صوت الروائي، ومبرر حضوره الحياتي والأدبي. وإن كان هذا التحول لا يعني موت الأقاليم والجغرافيات الأدبية. إذ ما زالت الخصوصيات الأدبية حاضرة ضمن البعد الهوياتي للروائيين. وبهذا المعنى دخلت الرواية حقبة أخرى من حقب التحول الثوري للوعي البشري. حيث أكدت على ما يُصطلح عليه بـ«حق المنصة» للفرد، وذلك من خلال ثورة فردانية سمحت لـ«أنا» بالتعبير الحر عن معتقداتها وأحاسيسها وتطلعاتها، للإجهاز على ما تبقى من هياكل الأنظمة الشمولية والمركزية. وبذلك انهارت أطلال المرويات الكبرى والملاحم التي كانت، حسب هيغل، أسس الوعي البشري.
الرواية هي بمثابة تسجيل أمين وكامل للتجربة الإنسانية، كما نظّر لها إيان وات في كتابه «نشأة الرواية». وهكذا تشكل وتطور الجهاز المفاهيمي للروائي، أي من خلال اشتباكه بالثورات الكبرى في العلوم والتقنية والفلسفة وعلم النفس، حيث سمح كل ذلك له بالتحديق في أعماق النفس البشرية، والوقوف على حافة الحقائق النسبية بدل الكليات المتأتية من الحبكات الثقيلة المركبة، وكذلك اللعب على المفارقة ما بين المظهري والجوهري، وكل ذلك داخل عملية تجريب كتابي بأبعاده الشكلية والمضمونية، والجنوح لاستخدام تقنيات أكثر حداثة، واصطياد الواقع الجديد. وبذلك انفتح الباب على اتساعة للرواية للاندماج مع صرعات الحداثة وما بعدها. بما يحتمه ذلك التماس من تحول دائم للذات الروائية، التي يُشترط التصاقها الدائم باللحظة الحاضرة، والتخفف من مركزيتها. على اعتبار أن الحداثة الروائية حالة من التشكُّل التاريخي المستديم.
منذ ظهور الرواية لم يُرحب بها كفن مقابل الفنون الراسخة كالشعر والموسيقى والمسرح، بقدر ما اعتبرت ابناً عاقاً للملحمة. إلا أن الرواية اليوم تحتل مكانة متقدمة في سلم الآداب والفنون. والوعي الروائي يأتي في مقدمة الخطابات التي تشكل وعي العالم. وهي كأداء دنيوي تبدو الأقدر في هذه اللحظة على وصف سيناريو العالم. وما التبشير بموتها إلا صورة من صور الانحياز المدرسي لمنطلقاتها الأصولية المتكلسة، والانتصار للواقعية الشكلية، فالروايات المعيارية التي وطّنت في وعي القارئ القالب الكلاسيكي للرواية منذ رواية ميغيل دي ثيربانتس «دون كيخوته» ما زالت ماثلة في المشهد الروائي بالقدر الذي تمثله رواية هاروكي موراكاميIQ84» »، كما أن الخماسيات والسباعيات، أو ما يعرف بالروايات الأنهار عند دوستويفسكي مثلاً، كرواية «الأخوة كرامازوف» تقابلها اليوم سباعية «الثلج والنار» لجورج مارتن، مع اختلاف المنازع الواقعية؛ حيث التنويع على فانتازيا عقلية تاريخية أسطورية، والإقرار بانحسار الرطانة اللغوية والإيقاع البطيء لا موت الرواية.



مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يناقش «النقد الفلسفي» وتشكيل المستقبل

الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
TT

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يناقش «النقد الفلسفي» وتشكيل المستقبل

الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)

تحت عنوان «النقد الفلسفي» انطلقت صباح اليوم، فعاليات مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة بدورته الرابعة، الذي يقام بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، وذلك بمقر بيت الفلسفة بالإمارة، برعاية الشيخ محمد بن حمد الشرقي، ولي عهد الفجيرة.

ومؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة، هو أول مؤتمر من نوعه في العالم العربي ويشارك فيه سنوياً نخبة من الفلاسفة البارزين من مختلف أنحاء العالم، ويحمل المؤتمر هذا العام عنوان «النقد الفلسفي».

وتهدف دورة هذا العام إلى دراسة مفهوم «النقد الفلسفي»، من خلال طرح مجموعة من التساؤلات والإشكاليات حوله، بدءاً من تعريف هذا النوع من النقد، وسبل تطبيقه في مجالات متنوعة مثل الفلسفة والأدب والعلوم.

ويتناول المؤتمر العلاقة بين النقد الفلسفي وواقعنا المعيش في عصر الثورة «التكنوإلكترونية»، وأثر هذا النقد في تطور الفكر المعاصر.

الدكتور عبد الله الغذامي (تصوير: ميرزا الخويلدي)

ويسعى المتحدثون من خلال هذا الحدث إلى تقديم رؤى نقدية بناءة جديدة حول دور الفلسفة في العصر الحديث ومناقشة مجموعة من الموضوعات المتنوعة، تشمل علاقة النقد الفلسفي بالتاريخ الفلسفي وتأثيره في النقد الأدبي والمعرفي والعلمي والتاريخي ومفاهيم مثل «نقد النقد» وتعليم التفكير النقدي، إلى جانب استكشاف جذور هذا النقد وربطه ببدايات التفلسف.

وتسعى دورة المؤتمر لهذا العام لأن تصبح منصة غنية للمفكرين والفلاسفة لتبادل الأفكار، وتوسيع آفاق النقاش، حول دور الفلسفة في تشكيل المستقبل.

ويأتي المؤتمر في ظل الاحتفال بـ«اليوم العالمي للفلسفة» الذي يصادف الخميس 21 نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام، والذي أعلن من قبل «اليونيسكو»، ويحتفل به كل ثالث يوم خميس من شهر نوفمبر، وتم الاحتفال به لأول مرة في 21 نوفمبر 2002.

أجندة المؤتمر

وعلى مدى ثلاثة أيام، تضم أجندة مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة؛ عدداً من الندوات والمحاضرات وجلسات الحوار؛ حيث افتتح اليوم بكلمة للدكتور أحمد البرقاوي، عميد بيت الفلسفة، وكلمة لأمين عام الاتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية.

وتتضمن أجندة اليوم الأول 4 جلسات: ضمت «الجلسة الأولى» محاضرة للدكتور أحمد البرقاوي، بعنوان: «ماهيّة النّقد الفلسفيّ»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الغذامي، بعنوان: «النقد الثقافي»، وترأس الجلسة الدكتور سليمان الهتلان.

كما ضمت الجلسة الثانية، محاضرة للدكتور فتحي التريكي، بعنوان: «النقد في الفلسفة الشريدة»، ومحاضرة للدكتور محمد محجوب، بعنوان: «ماذا يُمكنني أن أنقد؟»، ومحاضرة ثالثة للدكتور أحمد ماضي، بعنوان: «الفلسفة العربية المعاصرة: قراءة نقدية»، وترأس الجلسة الدكتور حسن حماد.

أمّا الجلسة الثالثة، فضمت محاضرة للدكتور مشهد العلّاف، بعنوان: «الإبستيمولوجيا ونقد المعرفة العلميّة»، ومحاضرة للدكتورة كريستينا بوساكوفا، بعنوان: «الخطاب النقدي لهاريس - نقد النقد»، ومحاضرة للدكتورة ستيلا فيلارميا، بعنوان: «فلسفة الولادة - محاولة نقدية»، وترأس الجلسة: الدكتور فيليب دورستيويتز.

كما تضم الجلسة الرابعة، محاضرة للدكتور علي الحسن، بعنوان: «نقد البنيوية للتاريخانيّة»، ومحاضرة للدكتور علي الكعبي، بعنوان: «تعليم الوعي النقدي»، ويرأس الجلسة: الدكتور أنور مغيث.

كما تضم أجندة اليوم الأول جلسات للنقاش وتوقيع كتاب «تجليات الفلسفة الكانطية في فكر نيتشه» للدكتور باسل الزين، وتوقيع كتاب «الفلسفة كما تتصورها اليونيسكو» للدكتور المهدي مستقيم.

الدكتور أحمد البرقاوي عميد بيت الفلسفة (تصوير: ميرزا الخويلدي)

ويتكون برنامج اليوم الثاني للمؤتمر (الجمعة 22 نوفمبر 2024) من ثلاث جلسات، تضم الجلسة الأولى محاضرة للدكتورة مريم الهاشمي، بعنوان: «الأساس الفلسفي للنقد الأدبيّ»، ومحاضرة للدكتور سليمان الضاهر، بعنوان: «النقد وبداية التفلسف»، ويرأس الجلسة: الدكتورة دعاء خليل.

وتضم الجلسة الثانية، محاضرة للدكتور عبد الله المطيري، بعنوان: «الإنصات بوصفه شرطاً أوّلياً للنّقد»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الجسمي، بعنوان: «النقد والسؤال»، ويرأس الجلسة الدكتور سليمان الضاهر.

وتضم الجلسة الثالثة، محاضرة الدكتور إدوين إيتييبو، بعنوان: «الخطاب الفلسفي العربي والأفريقي ودوره في تجاوز المركزية الأوروبية»، ومحاضرة الدكتور جيم إي أوناه، بعنوان: «الوعي الغربي بفلسفة ابن رشد - مدخل فيمونولوجي»، ويرأس الجلسة: الدكتور مشهد العلاف.

ويتكون برنامج اليوم الثالث والأخير للمؤتمر (السبت 23 نوفمبر 2024) من جلستين: تتناول الجلسة الأولى عرض نتائج دراسة حالة «أثر تعليم التفكير الفلسفي على طلاب الصف الخامس» تشارك فيها شيخة الشرقي، وداليا التونسي، والدكتور عماد الزهراني.

وتشهد الجلسة الثانية، اجتماع حلقة الفجيرة الفلسفية ورؤساء الجمعيات الفلسفية العربية.