فضاء للغرابة خارج أسوار الحكاية

محمد أبو زيد في روايته «عنكبوت في القلب»

فضاء للغرابة خارج أسوار الحكاية
TT

فضاء للغرابة خارج أسوار الحكاية

فضاء للغرابة خارج أسوار الحكاية

تبدو رواية «عنكبوت في القلب» للشاعر القاص محمد أبو زيد، بمثابة «مزرعة سردية»، يقلب فيها فضاء تربته الروائية، ما بين أقصى الخرافة والفانتازيا، وأقصى الحلم بعالم واقعي مشدود لفضاء الحرية والحب، كما يختبر في غبار هذه المزرعة شخوصه، عبر سيولة زمنية ومكانية متنوعة تتشكل تحت سقفها صراعاتهم الإنسانية الصغيرة، مع ذواتهم وعالمهم المحيط، وسط وجود محفوف دوماً بمغامرات لا تكف عن التجريب وابتكار حيل وألاعيب مغوية، تصل أحياناً إلى الضجر من الكتابة نفسها بوصفها لعبة محكومة بأطر ومواضعات ذات طبيعة خاصة، وخيارات حاسمة تتعلق بماهية النوع الأدبي، وهو ما لا يكترث به، محاولاً إيجاد حالة من التفاعل، يتبادل فيها الكاتب وأبطاله والقارئ الأدوار والأقنعة على مسرح النص، ما يجعله يقترب من المفاهيم والأجناس الأدبية الجديدة، التي أفرزتها التكنولوجيا بتطورها الهائل، وأثرت على شكل الكتابة القصصية والروائية على نحو خاص.
يمهد الكاتب لعالمه بومضات سردية تتكشف من خلالها عوالم شخوصه الأثيرة وطبيعتهم: «سامي» حفار القبور، و«المملوك» الوحيد الذي فر من مذبحة القلعة الشهيرة إبان حكم محمد على، و«تأبط شراً» أحد الشعراء الصعاليك المرموقين، والحكايات الطريفة المتضاربة التي تروى عن سر تسميته بهذا الاسم، في محاولة ضمنية لموازاة عالمه الروائي بالصعلكة، والتي يرى أن أهم ما يميزها: «أن تكون عدّاءً في صحراء ممتدة، لا يوجد لها خط نهاية للسباق، النهاية الوحيدة أن تلمس سطح السماء، أو تصل إلى البحر، ما لم تمت قبل بلوغ شاطئه».
إذن ثمة وعي مسبق باللعبة الروائية، ينهض أساساً على فكرة الانفصال - الاتصال، فالشخوص بمحمولاتها ورموزها تظهر لتختفي، ثم تعاود الكرة من جديد، كما أن الكاتب نفسه، يتدخل في أشواط معينة من السياق، ليعدل مسار اللعبة ويشارك فيها، وفق سلطته كراوٍ عليم، بل يهدد بالانتقام والسخرية من أبطاله، لكنه في داخله يحنو عليهم. وينجح تحت غواية هذه الوعي في اللعب معهم، ووضعهم في إطارات محددة، حتى أنه يجردهم من طبيعتهم البشرية، فيصير «سامي» و«المملوك» ملاكين صغيرين، يقبعان فوق كتفيه عند الضرورة، وفي لحظات مصيرية، ليحفظا لوجوده المادي الواقعي نوعاً من التوازن، حتى لا يسقط في الهوة ما بين الوهم والحقيقة، كما يصير تأبط شراً ببغاءً، يراقب الحكاية، ويعلق عليها أحياناً.
في مقابل ذلك، تظل علاقة بطلي الرواية «بيبو» و«ميرفت» تراوح ما بين الحضور والغياب، فرغم ولعه بها إلى حد الجنون أحياناً، إلا أنهما لا يقعان في الحب، بل يتحايلان عليه، كأنه أصبح جزءاً من لعبة كلاهما يمارسها على طريقته الخاصة، كما أن نقاط التشابه بينهما، من حيث النشأة في بيئة قروية، وإيثارهما العيش على هامش الحياة، وعدم التورط فيها، لا تفرز سوى النزوع إلى العزلة والوحدة، لكنها عزلة هشة تشبه بيت العنكبوت، إذن فلتكن اللعبة فضاءً خاصاً للتسلية وإزجاء وقت الفراغ.
فالبطل الذي يرتكب أعمالاً خارقة للعادة، ابن مدينة البرلس الساحلية المطلة على البحر (بوسط دلتا مصر)، يرفض حياة البحر مثل أفراد عائلته، ويقرر السفر إلى القاهرة ليكمل تعليمه الجامعي، ويلتحق بالعمل بمستشفى الأمراض العقلية والعصبية، بينما يحاصره قلبه ويصبح عبئاً على جسده، فيشق صدره وينزعه منه ببساطة شديدة، فمرة يضعه بكرتونة قديمة بالشرفة، بعد أن غمره في برطمان به بعض الماء، ونثر حوله حبات مبللة من القمح، ثم بعد أيام وبعد أن عشش العنكبوت على الكرتونة يعيده إلى موضعه بصدره، ومرة يفكر أن يلقيه في صندوق قمامة، لكنه يخشى أن يعثر عليه شرطي، فيتهم بجريمة القتل العمد، ومرة يحاصره بغلالة من الطين والإسمنت، يضعها على صدره، حتى يظل قابعاً في الداخل، لا يتمدد، ولا يشكل نتوءاً يخل بوضعية جسده.
و«ميرفت» وحيدة والديها الراحلين، خريجة كلية التجارة، لا تجد وسيلة لقتل العزلة سوى اصطياد أعشاش العنكبوت من أي مكان، ووضعها في زجاجات بلاستيكية ورعايتها، كأنها تعويض عن حالة اليتم التي تعيشها.
تقبع ميرفت في ذاكرة السرد كبطلة أسيرة للكاتب عاشت كرمز ودلالة في كتبه الشعرية، وها هي تجرب الحياة داخل نمط آخر من الكتابة أقل تكثيفاً واختزالاً، يسمح لها بالتمدد والغوص أكثر، سواءً في داخلها أو عبر الواقع المعيش. حيث تراقب بفطنة وجوهها المتعددة التي أدمنتها، فعلاوة عن كونها صيادة عنكبوت، فهي عازفة أكورديون، مدمنة عمل في المطاعم، لصة البنسات الملونة، حبذا الأزرق منها، مدمنة الأشياء الغريبة، حتى أنها أنشأت موقعاً على «فيسبوك» سمته «أشياء غريبة». كما أنها خلال عملها بالمطاعم، الذي لا يتجاوز ثلاثة أشهر في كل مطعم لم تكن تهتم بأي شيء آخر سوى أنها، وكما يقول الراوي (ص 116) واصفاً المشهد على هذه النحو: «لا يلفت انتباهها في الزبائن سوى جواربهم، بعد أن تقدم الطعام للزبون، تقف في ركن بعيد، وتتسلل نظراتها على الأرض، تنظر إلى الأحذية، ومن ورائها الجوارب. تعرف الآن كل أنواعها، لدرجة أنه من الممكن أن تؤلف موسوعة عنها تحمل اسم «المآرب في علم الجوارب»: هذا جوربه مخطط، وهذا قصير، وهذا رائحته تطارد المارة في الشارع، وهذا يرتدي صندلاً. آخر زبون لفت انتباهها بشدة، حتى إنها شعرت بالتعاطف معه، كان يرتدي جورباً من لونين مختلفين.
تتنوع هذه المطاردة بين بيبو وقلبه المتمرد وطائراته الورقية الملونة على مدار الرواية، لكنه في كل مرة تحاصره الهواجس والأسئلة نفسها، وكما يقول على لسان الراوي السارد: «سعادته بعودة قلبه لم تمنعه من السؤال: نعم عاد قلبي، لكني لم أحب أحداً بعد. أليس من المفترض أن يعود قلبي عندما أشعر بالحب؟ أم أنه يعود أولاً ثم أشعر بالحب بعد ذلك؟ شعر أن الأمر يشبه سؤال الدجاجة والبيضة، أيهما أولاً، فكف عن التفكير ورفع صوته منادياً عم ممدوح كي يحضر له شاياً بالحليب».
يحاول الكاتب أن يكسر نمطية فضائه المتخيل، وسد فجوة تناقضاته، وذلك باللجوء إلى علامات وإشارات تهكمية خاطفة ذات مغزى سياسي واجتماعي، كما يلجأ لتناصات بينية يذكر فيها أسماء بعض أصدقائه من الكُتّاب والكاتبات، في مشاهد تتعلق بعملية كتابة الرواية، وتوسيع آفاق نصه السردي، وإضفاء قدر من الحيوية على مساراته وغرابة بطله «بيبو»، الذي أصبح مدمناً للمشي في أحذية الآخرين القديمة، فيفتش عنها في سلال القمامة، ويتوهم أنها تقوده إلى معرفة سيرة حياة أصحابها، سواء كانوا موتى أو أحياء، تيمناً بعبارة التقطها من الممثل الأميركي جريجوري بيك في أحد أفلامه تقول: «إذا أردت أن تعرف رجلاً امش في حذائه».
تمتد الغرابة بتراوحات متباينة إلى الشخوص الأخرى، سواء المتخيلة، المستدعاة من فضاء السينما العالمية وأفلامها الشهيرة، بخاصة شخصية «سنو وايت» أحد أشهر أبطال «والت ديزني» في فيلمه الكرتوني الشهير «سنو وايت والأقزام السبعة» فهي صديقة بيبو وزميلته بالجامعة، يرافقها في رحلة جامعية إلى أسوان، كما تذهب معه إلى السينما، وتسدي إليه نصائح الحب لعلاج قلبه الراكد في مكانه، حتى لا يصبح مثل قلبها التي تعاني من مزق ونتف تتساقط منه يومياً حول سريرها. كذلك الممثلتان الفرنسية أودري تاتو، بطلة فيلم «شيفرة دافنشي»، والبريطانية كيت وينسلت، بطلة فيلم «تايتنك»، اللتان يتعامل معهما بيبو، باعتبارهما زميلتين له في العمل، يتبادل معهما الدعابة والمزاح، كما يلتقي بهما على مقاهي وسط البلد. أيضاً هناك أصدقاؤه بالعمل: عبد الله هدهد، الذي يذهب إلى العمل طائراً متفادياً الزحام و«إتش» صاحب «جمعية جامعي أعقاب السجائر الخيرية»، وعلاء الدين، صاحب «الفانوس السحري»، وغيرهم المسكنون، بحالة من خفة الغرابة وألفتها.
يقبض الكاتب الراوي على شخوصه وكائناته، ويحركها من خلف ستار الحكي كدمي من «الماريونت»، لكن بعضها يصمد في اللعبة ويصعد، وبعضها يتحول إلى نتوء في جسد النص، بينما تبدو الأشياء نفسها، وكأنها ظلال لوجود شبحي داخل إطار محدد. برزت فيه الهيمنة للراوي السارد، على حساب حيوات المروي عنهم. ما يجعلنا إزاء لعبة سردية مشدودة أكثر لألاعيب الميديا.
لقد راهن أبو زيد في هذه الرواية على أقصى طاقات التجريب والمغامرة، لكن أشياء كثيرة مهمة لم يستطع أن يستثمرها، بشكل أكثر فعالية، فمثلاً لم نر نمواً درامياً للعزلة، سواء في إثارة مشاغل الجسد وحيواته الحميمة، خصوصاً في حياة بطلي الرواية اللذين اختارا العزلة موقفاً من الوجود، وفي التعاطي مع أسئلة الوجود بمفهوم وروح أبعد من تداعيات لعبة ترنحت ما بين التشابه والتكرار في النص.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!