الخوخ في مواجهة الليمون

التجديد يصل إلى المخلل في مصر

مصر تركب موجة تجديد مبدأ المخلل وتبتكر أصنافاً جديدة
مصر تركب موجة تجديد مبدأ المخلل وتبتكر أصنافاً جديدة
TT

الخوخ في مواجهة الليمون

مصر تركب موجة تجديد مبدأ المخلل وتبتكر أصنافاً جديدة
مصر تركب موجة تجديد مبدأ المخلل وتبتكر أصنافاً جديدة

وسط زحام شديد يقف الشاب الثلاثيني أحمد مندور، أمام محل لبيع المخلل، لشراء كيس بخمسة جنيهات يضم خليطاً من الجزر والفلفل، والبصل، والقرنبيط والكرنب والزيتون والليمون، تلك الخلطة قبل أن تصل إلى يد أحمد، كانت قد خُزنت في أوانٍ خشبية أو بلاستيكية كبيرة الحجم، فكوّنت ماءً مُشبعاً بكل تلك النكهات المضاف إليه البنجر أو مُكسِبات اللون، وهو ما يطلق عليه في الأوساط الشعبية، «ويسكي الغلابة».
«المخلل ليس وجبة أساسية؛ لكن وجوده إلى جانب الأكلات الرئيسية له أهميته في الإقبال على الطعام»، بهذه العبارة روى أحمد مندور، أحد زبائن محل «الحسن والحسين» لبيع المخلل بمدينة النهضة، شرق القاهرة، عن عادته اليومية التي حافظ عليها منذ سنوات.
ورغم غلاء الأسعار، ومحاولات ربات البيوت لتخليل الخضراوات في المنزل، فإن الإقبال على محال بيع المخلل في ازدياد مستمر، وبخاصة بعد أن دخلت بعض أنواع الفواكه عالم المخللات، وأصبح لها جمهور كبير.
فبعد تخليل ثمار المانجو، اتجهت محال كثيرة، وبخاصة في القاهرة، إلى تخليل المشمش والخوخ والتفاح، بل إن بعض المحال زادت من ثورة تجديد المقبلات، كما يقول الحاج رفقي بمنطقة باب اللوق، فبدأت تخلل البلح بنوعيه الأحمر والأصفر، مشيراً إلى أن هذه النوعية «أصبح الطلب عليها كبيراً من شريحة معينة تحب تذوق الأطعمة الجديدة».
وبشكل عام، فإن صناعة المخلل ضاربة في عمق التاريخ المصري، حيث كشفت النقوش المتنوعة على آثار الفراعنة عن وجود هذه الصناعة، مثل الجزر والخيار، بل والطماطم الخضراء.
والمصريون بطبيعتهم مُتفننون في صناعة الأطعمة، ولا فرق بين غني أو فقير؛ فالأكلات التي يتناولها البسطاء تجدها بصورة مختلفة لدى أبناء الطبقة الغنية، كذلك المخلل، المكونات نفسها توجد على كلتا المائدتين، حسبما يرى علماء علم الاجتماع.
وتختلف صناعة المخلل في المصانع الكبيرة أو المعامل بالمناطق الشعبية، عن المحاولات التي تقوم بها ربّات البيوت في المنازل، أو كما تقول أم إسلام، ربة منزل في بولاق الدكرور: «إعطي العيش لخبازه ولو أكل نصه»، مشيرة إلى أن عادة تخليل الخضراوات في البيوت تتوارثها البنت المصرية عن أمها، وتداوم على فعلها رغم أن الذهاب للمحل أمر شبه يومي، وبخاصة في شهر رمضان.
ويتميز المخلل الجيد عن سواه بأنه يوضع في أوانٍ خشبية كبيرة، ينضج داخلها على مهلٍ، دون تسرع تُحدثه الأواني البلاستيكية التي يلجأ إليها بعض التجار لجلب أكبر عائد مادي في مدة وجيزة، وفق ما يشير صاحب محل «الحسن والحسين».
وتمر الخضراوات بمراحل عدة تتخطى مدتها أربعة أشهر، وفق تأكيد محمد حسين، صاحب محل «أبو أحمد» بمنطقة بولاق أبو العلا، أولى هذه المراحل، هي عملية الفرز، وثانيها الغسل الجيد وتنظيفه من الشوائب العالقة به، ثم التخمير في البراميل المُعدة خصيصاً لذلك بعد إضافة نسبة معينة من الخل والملح، وأخيراً التقطيع والذهاب لمكان التعبئة النهائي، ومن ثم تقديمه للمستهلك.
وتختلف مواسم المخللات بحسب نوعها، فالمشمش والتفاح والخوخ حسب توافرهم في الأسواق، أما الفلفل والخيار فيخللان في الصيف، والجزر والليمون والزيتون في الشتاء؛ وهو ما يدفع المحال إلى جلبها بكميات كبيرة وتخزينها.
ويذهب كثير من المواطنين إلى منطقة الغورية بالأزهر لشراء الفواكه المخللة من محمد زكي، صاحب أشهر المحال القديمة في هذه الصناعة، التي اشتهرت مؤخرا بتخليل المانجو والبلح.
ويرى خبير التغذية الدكتور أحمد الشحات، أن التناول المنضبط للمخللات له فوائده، منها إفرازه للمواد المضادة للأكسدة الطبيعية الموجودة في الفواكه والخضراوات والتي تقي من كثير الأمراض.



«الأقاشي» السودانية تغازل سفرة المصريين

«الأقاشي» السودانية تغازل سفرة المصريين
TT

«الأقاشي» السودانية تغازل سفرة المصريين

«الأقاشي» السودانية تغازل سفرة المصريين

لقمة خبز قد تأسر القلب، ترفع الحدود وتقرب الشعوب، هكذا يمكن وصف التفاعل الدافئ من المصريين تجاه المطبخ السوداني، الذي بدأ يغازلهم ووجد له مكاناً على سفرتهم.

هذه الأرغفة البيضاء الصغيرة، التي يصف مصريون مذاقها بأنها «أطيب من الكيك»، في إشارة لطيب المذاق، تعد مثالاً يعكس مدى الانسجام الثقافي الذي تجاوز الحدود.

مع تداعيات الحرب التي شهدها السودان، والتي أدت إلى عمليات نزوح كبيرة إلى مصر، لم يتوقف الأمر عند مرحلة سرد الآلام والمآسي، بل تحول سريعاً إلى اندماج السودانيين في سوق الطعام المصري، وخلال أقل من عامين أثبت المطبخ السوداني وجوداً نسبياً في مصر.

بمجرد أن تطأ قدمك شارع فيصل (أحد أشهر شوارع محافظة الجيزة) يمكنك الاستدلال على الوجود السوداني من رائحة التوابل العميقة الصادرة من مطاعم أسسها سودانيون، يستهدفون بها زبوناً مصرياً يتوق إلى مذاق شعبي في وصفات، مثل صينية البطاطس، ويختلف تماماً ليقدم هويته في طبق آخر مثل أسياخ «الأقاشي»، المصنوعة من اللحم الطري الغارق في توابل مثل الزنجبيل والقرفة، مع طبقات البقسماط المقرمش، التي تغازل المصريين.

تقول السودانية، فداء محمود أنور، خريجة إدارة أعمال من جامعة الخرطوم ومؤسسة مطعم «بنت السودان» في حي مدينة نصر، شرق القاهرة، إن المصريين «احتضنوا المطبخ السوداني بسبب وجود أواصر اجتماعية وثقافية بين البلدين».

وأوضحت، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، من داخل مطعمها البسيط: «نقدم أكلات سودانية أصيلة، مثل الفول بزيت السمسم، والفلافل السودانية المصنوعة من الكبكبي (الحمص بلغة المصريين)، والأقاشي، وهو طبق شهير في السودان، إضافةً إلى الفسيخ السوداني والملوخية المفروكة وملاح الروب الأحمر».

وعن الأطباق شديدة الخصوصية، يقدم مطعم الشابة السودانية فداء طبقاً حبشياً، قالت عنه: «هناك أيضاً طبق ذو أصل حبشي أصبح جزءاً من المائدة السودانية يسمى (زغني)، وهو عبارة عن قطع الدجاج المبهرة بالقرفة والثوم والبصل والحبهان، كما يضاف له المذاق الحار بالشطة السودانية، وكذلك مذاق الحادق من خلال رشة السماق، ويقدم مع البيض المسلوق». فضلاً عن طبق الحلو السوداني الشهير «الباسطة»، أو ما يعرف بالبقلاوة في مصر.

وبحسب تجربتها، قالت فداء إن تفضيلات المصريين من المطبخ السوداني تميل إلى بعض الأطباق الأساسية التي ربما لا يختلف عليها السودانيون أيضاً، مثل: الخبز السوداني، والأقاشي، والفلافل، وأطباق الفول بالخلطات السودانية. أما باقي الأطباق، فالإقبال عليها محدود.

طعمية (فلافل) سودانية (الشرق الاوسط)

والبعد الجغرافي بين مصر والسودان انعكس في تقارب ثقافي، ظهر في المذاق المميز للمطبخين. ترى منة جمال، مصرية تعيش في حي السادس من أكتوبر، الذي يضم عدداً من المطاعم السودانية، أن المطبخ السوداني قريب من نظيره المصري، وقالت لـ«الشرق الأوسط»: «الخبز السوداني شبيه ببعض أنواع الخبز في الريف المصري، ربما يختلف في السُمك والحجم فقط ».

وعن الاختلاف بين المطبخين، قالت: «السودانيون يميلون إلى المذاق العميق والحار، بإضافة كميات كبيرة من التوابل، كما أن الفلفل الحار أساسي في عدد كبير من الأطباق السودانية، بينما يميل المصريون إلى إضافة التوابل الأساسية فقط، مثل الملح والفلفل والكمون».

الباسطا حلوى سودانية (الشرق الاوسط)

وبالعودة إلى فداء، فإنها أيضاً كسودانية وقعت في حب المطبخ المصري، وتروي تجربتها بالقول: «أنا من عشاق محشي ورق العنب، والكرنب، والباذنجان بالدقة، أحب تناوله مع الفلافل السودانية. أيضاً معظم السودانيين يحبون المحشي والملوخية المصرية».

الأطباق السودانية لم تعرف طريقها إلى المصريين من خلال المطاعم التجارية فحسب، بينما ساهم في رواجها نساء سودانيات كنّ قبل النزوح ربات منزل، إلا أنهن، مثل كثير من نساء الشرق، يعتبرن الطهي مهارة أساسية. ومع وصولهن إلى مصر وبحثهن عن سبل لكسب العيش، تحول الطهي إلى مهنة تحت شعار «أكل بيتي سوداني».

التقت «الشرق الأوسط» بفاطمة (اسم مستعار)، التي نزحت بعد الحرب وجاءت إلى القاهرة بصحبة عدد من الأسر السودانية، وتقيم حالياً في مدينة «الرحاب» التي تعد من المناطق ذات الإيجارات المرتفعة، حيث تشارك السكن مع 4 أسر سودانية أخرى. منذ عام، بدأت فاطمة بتقديم خدمات «الأكل البيتي» من منزلها بمساعدة بعض السيدات المقيمات معها.

تقول «فاطمة»: «جاءت الفكرة عندما لاحظت انتشار مشروعات الأكل البيتي في مصر، خاصة في الأحياء الراقية. فأنشأت حساباً على (فيسبوك)، بدأت من خلاله تقديم خدمات الأكل السوداني». وأردفت: «المصريون يحبون المطبخ السوداني، خاصة تلك الوصفات القريبة من مطبخهم، على شاكلة المحشي، كذلك تحظى أصناف اللحم المبهر بإعجاب كبير».

وأوضحت فاطمة أنها سعت إلى تقديم مزيج من الأكلات السودانية والمصرية، قائلة: «أستهدف زبونات مصريات عاملات يبحثن عن بدائل للطهي المنزلي. لذلك، لم أكتفِ بالوصفات السودانية فقط، بل تعلمت إعداد الأكلات المصرية، وهو أمر لم يكن صعباً على سودانية تربطها بمصر أواصر ثقافية واجتماعية، إذ كانت مصر والسودان في مرحلة ما من التاريخ بلداً واحداً».

تمكنت فاطمة من تقديم تجربة طعام بيتي فريدة، تجمع بين نكهات المطبخين السوداني والمصري، مستقطبةً كثيراً من الأسر المصرية التي تبحث عن طعام منزلي بطابع خاص. ومن خلال تجربتها، كشفت فاطمة عن مدى التداخل الثقافي بين المطبخين، ما يمهد الطريق لمزيد من الاندماج وابتكار وصفات جديدة قد تظهر في المستقبل القريب.