عدم النسيان جريمة تحتم الاعتقال

«شرطة الذاكرة» للروائية اليابانية يوكو أوجاوا

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

عدم النسيان جريمة تحتم الاعتقال

غلاف الرواية
غلاف الرواية

في مشهد سريالي بديع، يقف أهالي جزيرة ما أمام البحر لإقامة مجزرة للورود، حيث يقومون بنثر بتلات الورود في البحر. ليس ذلك إلا تأبيناً للورود، حيث قررت السلطة المركزية للجزيرة، المتمثلة بشرطة الذاكرة، أن على الأهالي جميعاً نسيان شكل الورد ورائحته، ومن ثم إلغاؤه التام عن الوجود.
هذا المشهد التصوري هو جزء من العمل الروائي «شرطة الذاكرة»، الذي يعد من أدب الديستوبيا السوداوي، للروائية اليابانية يوكو أوجاوا، والذي نُشِر باللغة اليابانية عام 1994، فيما ترجمه إلى الإنجليزية ستيفن سنايدر لأول مرة في عام 2019. وقد رشحت الرواية لجائزة الكتاب الوطنية للأعمال المترجمة، ودخلت ضمن القائمة الطويلة لهذا العام. تدور الأحداث حول جزيرة لا تحمل اسماً أو هوية، ولا يحمل سكانها أسماء، ويظهر عدم تسمية الشخصيات بأسمائها حرصاً على إعطاء العمل الروائي طابع التعتيم المطلق على الجميع، وتهميشهم التام، حيث يعاني الجميع من تسلط الشرطة، واستيلائهم على ذاكرتهم من خلال تلاشي معاني الأشياء من حولهم. وتظهر الشخصية المحورية من خلال روائية لا اسم لها، تعكف على كتابة رواية تعاني من صعوبة في استلهام تفاصيلها أو تذكر حيثياتها. ويساعدها السيد R، وهو مدير التحرير المسؤول عن نشر أعمالها، حتى يضطر إلى الهروب من شرطة الذاكرة نتيجة عدم نسيانه، وتمضي الروائية في التخطيط لحمايته، وجعله يعتكف في قبو منزلها بعيداً عن شرطة الذاكرة، بمساعدة جارها الذي تطلق عليه «الرجل العجوز».
يتوغل هذا العمل الروائي في الرمزية، الأمر الذي دعا كثيراً من النقاد إلى تشبيهه بأعمال جورج أورويل، خصوصاً روايته 1984، ليناقش سطوة النسيان، والتراجيديا الناجمة عن فقدان الذاكرة واختفاء الموجودات التي تحيط بالمرء، فيما ترمز الرواية من جهة أخرى إلى الانعكاسات الناجمة عن الرقابة المطلقة التي تتغلغل في أنفس البشر لتجثم عليها، بتوصيف سلس وأحداث متسارعة لاختفاء موجودات مثل القبعات والطيور والزهور والطوابع، وحتى العطور التي تصفها والدة الروائية، التي تظهر كنموذج للتمرد على سلطة شرطة الذاكرة، وهي تحكي لابنتها قبل اختفائها «في تلك الأيام، كان بإمكان الجميع شم العطور»، واصفة بذلك تلاشي روائح العطور، لتصبح حتى محاولة شمها لا قيمة لها، أو الصور التي تصفها الروائية حين تتأملها: «لا شيء يعود إليّ حين أحدق بصورة: لا ذاكرة، لا ردة فعل. هي ليست أكثر من قطعة ورق».
من جهة أخرى، تتدرج الحاجيات التي ينبغي على أهالي الجزيرة نسيانها، فتبدأ بأشياء بسيطة يمكن بسهولة فقدانها دون تأثير على الواقع المعيش حتى تصبح أكثر أهمية، مثل قرار أن عليهم نسيان وجود أطراف جسدهم، واضطرارهم المشي على جانب واحد، وكأنه لا وجود للقدم الأخرى، ليتضاءل حيز الحرية لديهم حتى التلاشي والاختفاء الكلي عن الوجود. وتمثل الشرطة السلطوية المتعنتة التي تجثم على أنفاس الأهالي بالرقابة المفرطة، وإرغامهم على التخلص من الأشياء التي قرروا أن عليهم نسيانها، وتتلخص مهامهم في التأكد من نسيان الجميع لتفاصيل ما اختفى. ويظهر هناك بعض الأشخاص ممن هم غير قادرين على النسيان، دون سبب واضح لذلك، ليصبح لديهم همّ ممعن، يتمثل في محاولة التشبث بذكريات الأشياء، فيما يتوجب عليهم إخفاء ذلك عن شرطة الذاكرة خوفاً من اعتقالهم، أو حتى قتلهم نتيجة ذلك. شخصية السيد R تجسد هذه الفئة المتمردة ضد النسيان، ويعكس وضعه المزري الضغوط التي يعاني منها المتمردون، مثل محاولته التعايش مع حيز ضيق هو قبو الروائية، والتضاؤل التدريجي لجسمه وهويته في مخبئه.
ورغم وجود شخصيات معدودة متمردة غير قادرة على محو الذكريات، مما يحتم على من تتبقى ذاكرته إما الهرب إلى محميات أو أماكن مجهولة أو التعرض للاعتقال، فإن غالبية أهالي الجزيرة، بما فيهم الروائية، أشبه بشخصيات مستسلمة شديدة الانصياع للأوامر، بخضوع تام دون انفعال أو غضب. إلا أن الشخصيات، حتى المسالم منها، تجبرك على التوغل في عالمها الخاص، في صراعها الداخلي وهواجسها الخفية، وذلك رغم انسياقهم دون معرفتهم نحو العبودية، ومن ثم الفناء. في مشهد آخر، يظهر تطور من نوع آخر في تلاشي الأشياء، حيث تقرر شرطة الذاكرة وجوب نسيان الروايات والكتب، ليلزم على السكان التخلص من الكتب وحرقها، إلى الحد الذي يتم فيه حرق المكتبة المركزية بأكملها، لتحويلها فيما بعد إلى مقر رئيسي لشرطة الذاكرة. وفي ذلك إيحاء بتلاشي الإنسانية والثقافة، لتتبقى السلطوية وحدها، بعد أن تم التخلص من كل ما يساهم بإثراء الآخرين بالمعرفة والقدرة على التمحيص.
«لكن ماذا إن أصبح البشر أنفسهم يختفون؟» تتساءل الروائية، وفي ذلك إشارة إلى مبلغ التأزم الوجودي الذي يعاني منه أهالي الجزيرة. ورغم محاولات السيد R لإيقاظ روحها، وأن يجعلها تتذكر ما تلاشى من ذاكرتها، تقر هي بأن روحها ليست نائمة فحسب، وإنما اختفت تماماً نتيجة حيثيات ما حولها، حيث إن الاحتفاظ بالمقتنيات القديمة، في محاولة لإنقاذ ما تبقى منها، لا يحمل لها أي معنى بعد أن طمست معالمها ولفظتها الذاكرة.



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.